الجمعة، ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

قضية الاستدلال.... والأهلية

توسع الأصوليون في ذكر شروط المجتهدين وهي تختلف بالحتم على نوع الاجتهاد

قضية الاستدلال.... والأهلية
نور الدين عيد
الجمعة ٢٢ يوليو ٢٠١٦ - ٠٣:٠٠ ص
781

قضية الاستدلال.... والأهلية

كتبه/ نور الدين عيد

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده، أما بعد :

فإن قضية الدليل على التوجه، والاستدلال للمواقف والاجتهادات، باتت تحتاج للتذكير لضوابط مهمة فيها، فلا يشك أن كلًا يزعم الاستدلال لمواقفه، لكن هل هذا الزعم موافق للحق؟

ومما ينبغي التنبيه إليه أن الاستدلال لا يتوقف على صحة الدليل من ضعفه فقط، بل لا بد من مراعاة دلالته على ما يستدل به عليه، وينبغي أن تتوافر ضوابط وشروط لمن يستدل، فهذه أبواب ثلاثة كبار تتعلق بالاستدلال، هي مباحث الأصول التي يتفرع عنها أحكام الشريعة، فليس كل إيرادٍ للدليل يسمى استدلالا، ولا يصح استدلال فئام من الناس لعدم أهليتهم لهذا الحال، حتى وإن صادف الحق فهو آثم لجرأته على الفتيا بلا علم، فكيف بمن لم يصب الحق وتعدى ضرر فتواه؟!! فشتان بين مجتهد يخطىء وبين جهول يصادف!! فالأول مأجور والثانى مأزور، ومما ينبغي التنبه له أن الاعتبار متعلق بالمقدمة ثم بالنتيجة واشتراط صحتهما، لذلك أحال الله عز وجل عباده الموحدين على أهل الاستنباط والنظر لا على غيرهم: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}، فإن فساد هذا في الشأن العام معلوم مشاهد، إذا تكلم من لا يعلم في الشأن العام أصاب المسلمين من العنت والمفاسد والمشقة ما لا يحصى خاصة إذا كان له أتباع، قال الشوكانى رحمه الله في تأويل هذه الآية: "قوله: أذاع الشيء وأذاع به: إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئا من أمر المسلمين فيه أمن- نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم- أفشوه، وهم يظنون: أنه لا شيء عليهم في ذلك. قوله: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم) وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم، أو هم الولاة عليهم، (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم. والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -  هو الذي يذيعها، أو يكون أولو الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك، لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط: مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة".

وقال العلامة السعدى عن حديث: عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا حكم الحاكم، فاجتهد وأصاب، فله أجران. وإذا حكم، فاجتهد فأخطأ، فله أجر واحد». متفق عليه. المراد بالحاكم: هو الذي عنده من العلم ما يؤهله للقضاء. وقد ذكر أهل العلم شروط القاضي؛ فبعضهم بالغ فيها، وبعضهم اقتصر على العلم الذي يصلح به للفتوى. وهو الأولى. ففي هذا الحديث: أن الجاهل لو حكم وأصاب الحكم، فإنه ظالم آثم، لأنه لا يحل له الإقدام على الحكم وهو جاهل. ودل على: أنه لا بد للحاكم من الاجتهاد. وهو نوعان: اجتهاد في إدخال القضية التي وقع فيها التحاكم بالأحكام الشرعية، واجتهاد في تنفيذ ذلك الحق على القريب والصديق وضدهما، بحيث يكون الناس عنده في هذا الباب واحدا، لا يفضل أحدا على أحد، ولا يميله الهوى، فمتى كان كذلك فهو مأجور على كل حال؛ إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه معفو عنه، لأنه بغير استطاعته. والعدل كغيره معلق بالاستطاعة".

أما اجتهاد من ليس له أهل فإنه يأثم ويضمن، لذلك استقرت قواعد الشرع على ذلك، "من تطبب بغير طب فهو ضامن"، وهذه قاعدة مشهورة فيمن يشير على مريض بدواء فيه حتفه، مع جهله بالطب وفنونه، وكذا سائر الفنون والعلوم كالهندسة والحساب والإدارة وغيرها، وشرع الله أولى بالصيانة عن عبث الجاهلين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -  في حديث صاحب الشجة برأسه: «قتلوه قاتلهم الله، ألا سألوا - أي: أهل العلم - فإنما شفاء العي السؤال» "صحيح الجامع" (4362)، فلم يسوغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  اجتهادهم لأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد والنظر، لذلك توسع الأصوليون في ذكر شروط المجتهدين وهي تختلف بالحتم على نوع الاجتهاد، فليس المجتهد المطلق كالمجتهد في المذهب أو الباب أو المسألة يكون فيها من أهل الذكر، لكن نذكر مختصرا لشروطه في كتب الأصول حتى نعلم أن الضوابط قد سطرت ولم يترك الأوائل للمحدَثين رأياً مجردا:

الشرط الأول: الإسلام، الثاني: العقل، الشرط الثالث: البلوغ؛ لأن الصبي لا يعتمد على خبره وشهادته، فمن باب أولى اجتهاده. الشرط الرابع: إشرافه على نصوص القرآن، أي ما يتعلق منها بالأحكام، وقد ذكر بعض أهل الأصول أنها خمسمائة آية، ومنهم من قال: إن ذلك إنما يعني الآيات الدالة على الأحكام، بدلالة المطابقة فحسب، لا ما دل على الأحكام بالتضمن والالتزام. الشرط الخامس: معرفة ما يحتاج إليه من السنن المتعلقة بالأحكام. الشرط السادس: معرفة مواقع الإجماع والخلاف، حتى لا يفتي بما يخالف الإجماع أو يدعي الإجماع على ما ليس بإجماع، أو يحدث قولًا جديدًا لم يسبق إليه. الشرط السابع: معرفة القياس، فإنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه، فمن لا يعرفه لا يمكنه استنباط الأحكام. الشرط الثامن: أن يكون عارفًا بلسان العرب وموضوع خطابهم، وذلك حتى يميز بين الأحكام التي مرجعها إلى اللغة، كصريح الكلام وظاهره ومجمله ومبينه وعامه وخاصه، وحقيقته ومجازه، وغير ذلك. الشرط التاسع: معرفة الناسخ والمنسوخ، حتى لا يفتي بالحكم المنسوخ، قال علي رضي الله عنه لأحد القضاة: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت. الشرط العاشر: معرفة حال الرواة في القوة والضعف، وتمييز الصحيح من الفاسد، والمقبول من المردود. الشرط الحادي عشر: أن يكون ذا ملكة يستطيع أن يستنبط بها الأحكام، ولا تتأتى هذه الملكة إلا بالدربة في فروع الأحكام. الشرط الثاني عشر: العدالة، فلا يقبل اجتهاد الفاسق، ويجوز أن يعمل هو باجتهاده.

ولا يلزم في هذه الشروط أن يبلغ فيها الشخص المنتهى والغاية، بل يكفيه أن يكون ضابطًا لكل فن منها، وهو ما يعبرون عنه بذي الدرجة الوسطى في هذه العلوم.

وهذا مبثوث فى كتب الأصول كالمستصفى وجمع الجوامع والبحر المحيط وغيرهم .

_أحكام تتعلق بغير المجتهد :

_أما الجاهل فليس من أهل العلم وهذا له شأن آخر، وهذه ليست سبة أو قدحًا يشان به، لكنه وصف شرعى تتعلق به أحكام :

_منها : سؤال أهل العلم واتباعهم ، قال الله عزوجل :{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، قال البغوى :"قال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن أراد: فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، إن كنتم لا تعلمون ."

_ومنها: عدم تخطئة أهل العلم استقلالًا، فإنه لا يدرى مسالك الفتيا والاجتهادات ووجوهها، فكيف يصحح ويضعف ويحكم بالشذوذ فى القول والتوجه فضلا عن الرمي بالنفاق والتنازل عن الثوابت، والمداهنة على حساب الدين؟!! وهذا يعج به الواقع بمرارة طافحة على صفحات الألسن والوجوه والشاشات، فكان بالأحرى أن ينبري أهل العلم والفضل للتصدر لهذه المهلكات المدمرات الماحقات، فضلًا عن السكوت عنها، فضلا عن الإقرار بها، فضلا عن القيام بجنسها وحض الشباب والأتباع على ركوب الهوى والبغي فيها .

_ومنها: أن يقول لا أعلم فيما لا يحسن، قال الله سبحانه : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  يجيب في مواطن بلا أدري حتى يأتيه الوحي، فكيف بمن لا يوحى إليه ولا يعلم سبيل الاستفادة منه بعد نزوله؟ سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي البلاد شر؟ فقال: لا أدري. فسأل جبريل فقال: لا أدري فسأل ربه عز وجل فقال: (أسواقها)". حسنه الألبانى في تحقيق صفة الفتوى، عن أم العلاء الأنصارية قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «والله لا أدري! والله لا أدري! -وأنا رسول الله- ما يفعل بي وبكم». رواه البخاري. وعن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لا أدري ما بقائي فيكم؟ فاقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". رواه الترمذي. وقال في أعيان بالقرآن لا أدرى كما في حديث أبي داود والحاكم: "ما أدري تبع ألعينا كان أم لا؟ وما أدري ذا القرنين أنبيا كان أم لا؟". وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "يا أيها الناس اتقوا الله، من علم منكم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم. فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم". وقال سعيد بن جبير: "ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني أعلم، وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم، وقال محمد ابن سيرين رحمه الله تعالى: "لئن يموت الرجل جاهلا خير من أن يقول ما لا يعلم". هذا يقوله أهل العلم والفتيا والاجتهاد فكيف بمن لم يحسن السؤال فضلاً عن الإجابة ؟!!

_ومنها: سلامة صدره لمخالفه، وحبه الخير للمسلمين، مع حسن الظن بهم أنهم أرادوا الخير وسعوا إليه.

والله أسأل أن يوفقنا إلى حسن الاستدلال، وفهم مراده ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -  إنه نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com