الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

انقلاب تركيا الفاشل وفرصة للنظر إلى الوراء

دون هذه النظرة الطبيعية لهذا الزعيم لن تكون عقولنا وألسنتنا سوى رجع الصدى لما يقول هو وحزبه وإعلامه

انقلاب تركيا الفاشل وفرصة للنظر إلى الوراء
محمد إبراهيم السعيدي
الأحد ٣١ يوليو ٢٠١٦ - ١٧:٥٧ م
1989

انقلاب تركيا الفاشل وفرصة للنظر إلى الوراء

كتبه/ محمد إبراهيم السعيدي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

في أحيان نادرة جدا تمثل المشاريع الأمريكية والغربية للتعامل مع منطقتنا لدى عدد من الحركات الإسلامية السياسية فرصة جيدة لتصحيح بعض الأوضاع ومعالجة شيء من المشاكل التي تعانيها أكثر البلاد الإسلامية، وذلك -كما يقولون- فيما لو أُحسِن انتهازها وتم التعامل معها وفق رؤية استراتيجية بعيدة المدى.

ومن هذه الفُرَص النوادر التي يلحظها المتابع بجلاء: ما حدث من تَغَيُّر في نظرة الدوائر الأميركية والأوروبية مطلع القرن الحادي والعشرين للحكومات العلمانية والعسكرية التي جثمت على معظم بلاد العالم الإسلامي، وارتفاع الدعوات إلى بناء جسور مع الجماعات الإسلامية والسماح لها بتولي الحكم في بلادها، شريطة أن تأتي بإسلام يتناسب مع مشاريع العولمة والتغيير القِيَمِي الذي يقضي مع الوقت على الإسلام الذي يهابه الغرب.

وقد عبّرت عن ذلك العديد من الدراسات والأبحاث التي قام بها سياسيون كبار من أمثال ريتشارد هاس، ذي المناصب المتعددة في العلاقات الخارجية والأميركية وعدد من مراكز البحوث السياسية، وهو صاحب الكتاب المعروف "الفرصة، لحظة أميركا لتغيير التاريخ"، والذي صدرت طبعته الأولى باللغة العربية سنة 2007.

هذا الشرط الذي وضعته تقارير كـ: "بناء جسور لا جدران، التعاطي مع الإسلاميين السياسيين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" اختصرته ألكس جلني الباحثة في معهد بحوث السياسات العامة في المملكة المتحدة عن أحد تقارير معهد الشرق الأدنى للدراسات.

أو "بناء شبكات إسلامية معتدلة"، أعدته إنجل رباسا وآخرون برعاية مؤسسة سميث ريتشاردسون.

 

أقول إن هذا الشرط كان صعب التطبيق للغاية، لا سيما لدى الجماعات السياسية الإسلامية في العالم العربي، لأسباب كثيرة منها العلمي ومنها المجتمعي ومنها التاريخي، لكن الالتزام به -ولو إلى حين- كان أكثر يُسراً لدى الإسلاميين السياسيين في تركيا، حيث كانت العلمانية قد تجاوزت كونها نظاما سياسيا هناك، ووصلت لتكون نمطا مجتمعيا يؤثر على العادات والتقاليد والأخلاق، خاصة في التجمعات غير الريفية.

كما أن الإسلاميين في تركيا كانوا إبان التغير الإستراتيجي الأمريكي الأوروبي يملكون كيانا سياسيا وهو حزب العدالة والتنمية المتسلسل من عدة أحزاب أنشأها الدكتور المهندس نجم الدين أربكان، وآخرها حزبا الفضيلة والسعادة، وكان للإسلاميين هناك رصيد كبير من الفشل في المواجهة الفكرية مع العلمانيين والجيش؛ اضطرت نجم الدين أربكان إلى الاستقالة من رئاسة الوزراء عام 1997، حين قدم له الجيش عددا من المطالبات تحت ذريعة مكافحة الرجعية تشمل وقف جميع النشاطات الإسلامية في البلاد، سواء أكانت سياسية أم تعليمية أم ثقافية.

ومما هو متداول، بل صرح به فتح الله غولن نفسه في لقاء صحفي: أن محاصرة المدارس والمؤسسات التابعة لحركة الخدمة كان من ضمن مطالب الجيش، التي استقال من أجلها "أربكان"، وتم تأسيس لجنة لمكافحة الرجعية في مجلس الوزراء آنذاك، وكان موقف "أربكان" في دفاعه عن مؤسسات جماعة الخدمة واستقالته من أجلها نبيلا جدا، بل مبدئيا، إذ لا يخفى على الأتراك أن تلك المؤسسات كانت أحد أبرز العوامل التي أثَّرَت في الشعب التركي واتجهت به نحو الشعور الإسلامي، وربما يكون قد زاد خوف الجيش التركي منها بعد تصريحات على التلفزة التركية انتقد فيها "غولن" النظام التركي العلماني، وتم الضغط عليه من أجل الاعتذار منها ففعل، لكن تم تسريب فيديو له عام 1999 قال فيه إنه سيتحرك ببطء من أجل تغيير النظام التركي إلى نظام إسلامي، وجَرَّاؤه وصلت أنباء بإعداد مذكرة باعتقاله سافر من أجلها إلى الولايات المتحدة بحجة العلاج.

كل هذا العداء من مؤسسة الجيش والأحزاب العلمانية، وهذا الرصيد من تجارب المواجهة الفاشلة حمّل حزب العدالة والتنمية المنشق عن حزب الفضيلة الذي يقوده رجب طيب أردوغان وعبدالله غول إلى السير بشكل أكبر وأوضح مع الطرح العلماني، خاصة بعد أن حُكِم على "أردوغان" بالسجن ليس لشيء إلا من أجل إنشاده قصيدة باللغة التركية فيها تعظيم للمساجد والقباب والمنائر، فوصل الأمر بأردوغان في تماهيه مع الطرح العلماني إلى القول بأن هدف حزبه هو الوصول إلى الأهداف التي رسمها "أتاتورك"، والتي -كما يُزْعم- لا تتعارض مع القيم الإسلامية التي يؤمن بها الشعب.

وهو يرمي بسياسة التماهي مع العلمانيين تحقيق مكاسب أكبر للأخلاق والقيم والآداب، والتي من شأنها -وإن طال الزمن- أن تصل بتركيا لتكون دولة إسلامية دون الحاجة إلى صراع مع المؤسسة العسكرية والأحزاب العلمانية.

والحقيقة أن هذا الطرح نفسه هو ما تبناه فتح الله غولن ربما قبل ثلاثين عاما من تأسيس حزب العدالة والتنمية، وهو سبب ما يؤخذ عليه من تأييد بعض العلمانيين الذين وقفوا مع مؤسسات حركته موقفا جيدا في بعض المواطن، من أمثال بولند أجاويد إبان أزمة التصريحات سنة 1997، وهو -أي هذا الطرح- أحد أسباب الخلاف بين نجم الدين أربكان وفتح الله غولن، وأيضا هو سبب الخلاف الذي نشب بين "أردوغان" وأستاذه "أربكان" والذي وصل لأن يتهم الأخير تلميذه بالعمالة للصهاينة والأمريكان، ضمن حديث قال فيه أيضا: إن الصهيونية تحتكر وسائل الإعلام التركية لخدمة "أردوغان".

وهنا أقطع سياق الحديث لأقف عند هذه النقطة، فإن ما يقوله "أردوغان" اليوم في حق فتح الله غولن، هو ما قاله سابقا نجم الدين أربكان في تلميذه "أردوغان"، فإذا كنا سنأخذ أقوال السياسيين في بعضهم على أنها مُسلَّمات يقينية لا تقبل النقاش لكونهم قدموا شيئا للإسلام أو أخلصوا في عملهم يوما ما، فقد تجاوزنا المعيار الصحيح الذي أمر الله به للأحكام وهو البينات، إلى معيار فاسد وهو الهوى.

ولذا أتمنى على الدعاة والناشطين في الرأي السياسي أن يطالبوا "أردوغان" بالبينات على كل ما يقوله في حق فتح الله غولن، وكذلك مطالبة حركة الخدمة بالبينات على ما تقوله في حق "أردوغان"، وإذا لم يفعلا فواجبنا هو السعي إلى الإصلاح وليس تأليب أحدهما على الآخر، وقد تعجبت كثيرا من استسلام الكثير من أهل الرأي لما طرحه الرئيس التركي من اتهامات في حق فتح الله غولن قبل السؤال عن البينات، بل انطلقوا للحديث في عقيدة الرجل، مع أن الخلاف بين الرجلين لم يكن يوما ما خلافا عقَدِيا.

وعودا إلى السياق أقول: لكن الجيش الذي واجه حرجا كبيرا أمام الأتراك وأمام العالم أجمع بسبب انفضاح عداوته غير المبررة ديموقراطيا للأحزاب الإسلامية، هذا الجيش وبالرغم من تعهدات "أردوغان" بحماية العلمانية ومبادئ "أتاتورك"، أصر من أجل التعاون مع حزب العدالة على تنفيذ مشروع مكافحة الرجعية الذي استقال "أربكان" من رئاسة الوزراء من أجله، فقد نشرت مجلة العصر في 9/12 /2002 أن الجيش التركي اجتمع مع رئيس الوزراء عبدالله غول، وسلَّمه مذكرة تضمنت عدم تغيير القوانين التي تمنع الحجاب، وعدم دعم الشركات التي يصفونها بالرجعية، وجاء فيها أن 13 ألف موظف من داعمي الرجعية لا يزالون يشتغلون في الدوائر الحكومية، وأن رأسمال الشركات التي يصفونها بالرجعية يصل إلى 45 مليار دولار، وتضمن التحذير: أن تصنع حكومة العدالة صنيع الحكومة السابقة -أي حكومة أربكان- في دعم الرجعية.

وواضح أن هذه الشركات التي يصفها تحذير الجيش بالرجعية هي مؤسسات حركة الخدمة التابعة لفتح الله غولن، والحقيقة أنني بحثت عمَّا يفيد بأن الجيش تراجع عن هذا التحذير حتى اليوم، أو أن حزب العدالة رفض هذا التحذير، فلم أجد، وهذا أمر يدعو إلى الوقوف معه برهة، فحين يحذر الجيش من جماعة الخدمة حكومتين إسلاميتين على التوالي، ويطالب بسحقها، وتستقيل الأولى رغما عنها بسبب رفضها لهذا التحذير، ثم نكتشف بعد ذلك أن هذه الجماعة قد اخترقت الجيش بشكل قوي وأصبحت مؤثرة في قراراته بهذه الفترة الزمنية القصيرة، فهذا أمر لا يثير العجب وحسب، بل يثير الإعجاب، ويدعونا وعلى عجل لأن نسعى في الإصلاح بين حزب العدالة وحركة الخدمة، فمشكلة تركيا منذ تسعين سنة هي امتلاك العلمانيين القرار والسلطات في الجيش، فإذا جاءت حركة إسلامية وغيرت تلك المعادلة فنحن أمام موقف يقتضي الاستثمار وليس المعاداة.

إن الصورة التي ترسم لنا الآن هي كون العلمانيين في الجيش هم الطيبون الموالون للشرعية، والإسلاميون الذين استطاعوا اختراق الجيش والوصول لرتب عالية قادرة على تدبير انقلاب هم السيئون، وهذه الصورة تحتاج لكي نتأكد أنها هي المطابقة للواقع إلى مزيد من التأمل، ولا يمكننا مناقشة هذه الصورة ما لم يقع في خلدنا: أن رجب طيب أردوغان زعيم مسلم ذو مواهب، أعتقد أنها نادرة، وينبغي علينا الإشادة بها واستثمارها، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون أبدا باعتبارها شخصية منزهة عن عيوب السياسيين وأساليبهم في التعامل مع الخصومات وسحق المنافسين.

دون هذه النظرة الطبيعية لهذا الزعيم لن تكون عقولنا وألسنتنا سوى رجع الصدى لما يقول هو وحزبه وإعلامه، ومع تقديري وإعجابي الشديدين بهم إلا أنني لا أرى أن يكون موقفنا منهم هو موقف الجبال الصماء من الصائح المحكي، بل موقف المتأمل الناصح.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com