الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

أنا كنتُ أظلم!

يا لها مِن نفس رائقة صافية علت على أهواء النفوس، واستعصت على دسائس الشيطان ووساوسه

أنا كنتُ أظلم!
محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الخميس ١٨ أغسطس ٢٠١٦ - ١٥:٠٣ م
1596

أنا كنتُ أظلم!

كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الإقرار بالخطأ والاعتراف بالحق "ليس فضيلة فحسب"، بل واجب وفريضة؛ فهو أول طريق التوبة وإصلاح النفس، وهو أول طريق أداء الحقوق لأصحابها، وتخليص النفس مِن آفاتها (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) (يوسف:97)، وقال -سبحانه-: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقال النبي: (فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ).

وكم يعجب المرء حينما يطالع أخلاق الأنبياء وأتباعهم وما كانوا عليه مِن الآداب، والاعتراف بالتقصير وسرعة العودة إلى ما فيه مرضاة الله؛ قال الله عن الأبوين: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف:23)، وقال عن موسى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وكان مِن دعاء النبي: (اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ, فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي, إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).  

وقال أبو الدرداء: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: (أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ) فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ) ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي) مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. (رواه البخاري).

والمتأمل في حال الصديق ليعجب مِن هذا المشهد الإيماني الذي جسده الصديق في ذلك الموقف، وما أبداه مِن حرصٍ شديدٍ على صفاء القلوب وإصلاح ذات البين، وإزالة الشحناء مِن الصدور؛ فقد سعى إلى استجلاب الود مِن عمر واعتذر إليه ليزيل ما قد يقع في قلبه مِن ضيق أو شحناء، ولم يكتفِ بذلك أو يقل في نفسه: "قد فعلتُ ما عليَّ واعتذرتُ إليه فأبى" أو "ماذا أفعل فوق ذلك؟!"، بل ذهب شاكيًا إلى النبي ملتمسًا لشفاعته ووساطته في الإصلاح بينه وبيْن عمر .

فيا لها مِن نفس رائقة صافية علت على أهواء النفوس، واستعصت على دسائس الشيطان ووساوسه، وصَدَق شيخ الإسلام ابن تيمية لما قال: "العارف لا يَرى له على أحدٍ حقـًّا، ولا يشهد على غيره فضلاً؛ ولذلك لا يعاتِب، ولا يطالِب، ولا يضارب!".

فمع فضائل الصديق الكثيرة والعظيمة في الإسلام يقول: "أنا كنتُ أظلم!".

فما أحوجنا إلى تلك الكلمة: "أنا كنت أظلم!".

نحتاج إليها في اتفاقنا واختلافنا.

نحتاج إليها في بيوتنا، وأماكن عملنا، وفي مساجدنا.

نحتاج إليها في كل معاملاتنا؛ مع الصغير والكبير، والبعيد والقريب.

نحتاج إليها حتى تسود بيْن المسلمين روح الإخاء والود، والتراحم والتعاطف، ويزول مِن الصدور ما قد يكون علق بها مِن غل أو شحناء تنتج عن التعصب، والقسوة، والعجب بالرأي، وغمط الناس حقوقهم، وعدم الاعتراف بالخطأ والتقصير.

ومما يعين المرء على الاعتراف بالخطأ والإقرار بحقوق الآخرين عليه:

- الحرص على تزكية النفس، وتطهيرها مِن الآفات والأمراض: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

- التواضع والابتعاد عن الكبر والاستعلاء.

- الإكثار مِن التضرع إلى الله والدعاء: (وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)، وكذا: (أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي)؛ فإن مَن أدمن هذا الاعتراف فيما بينه وبيْن الله بالخطأ والتقصير، ورؤية إحسان الله وإنعامه عليه، ورؤية تقصيره في حق ربه؛ سهل عليه جدًّا أن يعترف بحقوق المخلوقين، وأن يتواضع لهم، ولا يشهد لنفسه حظـًّا أو فضلاً عليهم.

نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com