السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

"مؤتمر جروزني" وإحياء الشقاق

لعل في ذلك خيرا؛ أن يعودوا مرة أخرى إلى طلب العلم النافع، ودراسة كتب التراث وفهمها الفهم الصحيح

"مؤتمر جروزني" وإحياء الشقاق
ياسر برهامي
الاثنين ٢٦ سبتمبر ٢٠١٦ - ٠٥:٢٩ ص
1238

مؤتمر "جروزني" وإحياء الشقاق!

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد جاء مؤتمر "جروزني" ليبين لكل ذي عينين مدى حرص الروس والغرب -مع اختلافهم في كل شيء إلا على حرب الإسلام وأهله!- على بيان صحيح الدين الإسلامي! وتوضيح حقيقة منهج أهل السنة والجماعة!

ومِن خلال أدواتهم المستخدمة في المنطقة وخارجها؛ يظهر لنا بجلاء مدى الحرب المنهجية، والصراع الحضاري الذي لا بد أن نكون واعين له جيدًا.

وللأسف الشديد لم تعتمد الأبحاث المقدَّمة في معظمها -إلا مِن نزر يسير منصف منها- إلا على الأساليب القديمة نفسها في تشويه صورة الحق وأهله، المبنية على الكذب والزور والبهتان، واتهام أئمة السُّنة بأنهم مُشبِّهة ومجسِّمة، وأنهم تكفيريون، وكأن كتب شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله- لم تعد منتشرة بالدرجة الكافية حتى يروج هذا الكذب على البعض، وهو ينفي -في كل موضع- التمثيل والتشبيه.

وكذلك وكأن كتب شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" -رحمه الله- ليستْ منتشرة بالدرجة الكافية حتى يروج على البعض أنه يُكفـِّر المسلمين، وأنهم لا يحبون النبي -صلى الله عليه وسلم-!

ولعل ذلك يكون خيرًا بأن يعود شباب الصحوة الإسلامية بعد ابتعادهم كثيرًا عن طلب العلم النافع، وحتى صارت صفحات "الواتس" و"الفيس" هي مصدر معلوماتهم، وصار دعاة "ما بعد السلفية" يروجون عليهم المبادئ الخاطئة نفسها التي تحول بينهم وبين مرجعيتهم الثابتة في نصوص الوحي - لعل في ذلك خيرًا؛ أن يعودوا مرة أخرى إلى طلب العلم النافع، ودراسة كتب التراث وفهمها الفهم الصحيح.

وقد شرحتُ قديمًا رسالة صغيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، هي: "الرسالة المدنية للحقيقة والمجاز في الصفات"، فأظن أن الوقت مناسب لإعادة نشرها، لنعود مرة أخرى للمحافظة على تراثنا وهويتنا، وتعظيم الاستدلال بالنصوص فوق كل اعتبار.

ومما جاء فيها: أن الإيمان بالأسماء والصفات هو أساس التوحيد، وهو أعظم سبب لنيل جنة الآخرة، وأن العقيدة الصحيحة عقيدة السلف الصالح مِن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان هي أساس التعبد لله بأسمائه وصفاته.

ولقد ابتُليت الأمة بمن انحرف عن منهج السلف في فهم الكتاب والسُّنة، واتّبع منهج أهل الكلام المُحدَث، وابتدع في تأويل النصوص وصرفها عن حقيقتها، ما لم يرد عن الصحابة ولا مَن بعدهم مِن أئمة المسلمين.

وكذلك كانت مسألة "الحقيقة والمجاز" محور الاختلاف بين منهج أهل السُّنة وبين مناهج المخالفين مِن الجهمية والمعتزلة والأشاعرة.

وهذه الرسالة -على اختصارها- قد بيَّن فيها شيح الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- منهج السلف، ونصَره بأوضح الحجج، وذكر الشروط التي يجب توافرها قبْل الإقدام على القول بالمجاز وصَرْف النصوص عن ظاهرها، مما لا يستطيع المخالف إلا قبوله والتسليم به.

وهي في أصلها رسالة مرسلة مِن شيخ الإسلام لأحد تلامذته، ومَن يتعلمون منه، ردًّا على سؤاله عن الأسباب الأربعة التي لا بد منها لصرف الكلام من الحقيقة إلى المجاز، وشكواه له مصيبة في القلب والدين.

ويظهر في مقدمتها جملة مِن أدب شيخ الإسلام -رحمه الله-:

- منها: أنه لما كان المرسِل إليه مقيمًا بالمدينة المنورة -كما يظهر مِن أول الرسالة وآخرها- بدأ بالسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم بالسلام على جيرانه مِن الأحياء والأموات، وخص منهم المهاجرين والأنصار؛ تعظيما لشأنهم، وتقديرًا لمنزلتهم مِن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

- ومنها: تواضعه -رحمه الله- فقد بدأ بالمرسل إليه فقال: "إلى الشيخ الإمام... شمس الدين، كتب الله في قلبه الإيمان...". ثم ثنَّى بنفسه، فقال: "... مِن أحمد ابن تيمية: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، ومِن المعتاد أن يبدأ بنفسه.

- ومنها: الأوصاف التي يثني بها على المرسَل إليه، وليس يُظن بشيخ الإسلام أن يقول هذه الأوصاف إلا لمن هو متصف بها، والأدعية التي يدعو له بها، وهذا مما يزيد الحب في الله وائتلاف القلوب.

ولو قارنت بيْن هذا الأسلوب الرفيع وبيْن ما تتضمنه رسائل بعض أهل زماننا -حتى في العنوان- مِن أنواع الشتم والتجريح لمن خالفه؛ علمتَ لماذا تُصد القلوب عن قبول النصح وتزداد الفجوة؟!

ثم انتقل شيخ الإسلام -رحمه الله- للكلام عن بعض ما يتعلق بأمور القلوب فقال: "... وما تشتكي مِن مصيبة في القلب والدين، نسأل الله أن يتولاكم بحسن رعايته توليًا لا يكلكم فيه إلى أحدٍ مِن المخلوقين، ويصلح لكم شأنكم كله صلاحًا يكون بدؤه منه وإتمامه عليه، ويحقق لكم مقام: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم".

فبدأ -رحمه الله- الرسالة بأمور القلوب -التي هي أعظم مقصود- قبْل الإجابة عن السؤال موضوع الرسالة، وهو مسألة تأويل الصفات، وقد أشار -رحمه الله- في أدعيته التي دعا بها للمرسل إليه إلى أسباب الوصول التي يصل بها إلى صلاح قلبه الذي يشتكي لشيخ الإسلام من حصول المصائب به، وأعظم ما يحقق للعبد صلاح قلبه ودينه التوكل على الله والاستعانة به، وحسن عبادته، وتوحيده، فيتولى الله أمره ولا يكله إلى نفسه ولا إلى أحد من خلقه، وهو سبحانه يبدأ عليه بنعمته ويتمها عليه.

وقال -رحمه الله-: "مع أنا نرجو أن تكون رؤية التقصير، وشهادة التأخير مِن نعمة الله على عبده المؤمن، التي يستوجب بها التقدم ويتم له بها النعمة، ويكفى بها مؤنة شيطانه المزين له سوء عمله، ومؤنة نفسه التي تحب أن تُحمد بما لم تفعل، وتفرح بما أتت، وقد قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:57-60)".

فنبّه شيخ الإسلام -رحمه الله- على أن رؤية العبد لتقصير نفسه وشهود تأخّره عما ينبغي أن يكون عليه مِن طاعة الله، هو مِن نعمة الله عليه؛ لأن الإعجاب بالنفس ورؤية كمالها مِن أخطر الأمراض القلبية، وهو مرض إبليس الذي قال: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) (الأعراف:12)، وهو مصدر الكِبر والحس، فإذا شهد العبد تقصيره وتأخّره زال عنه عجبه وكبره؛ فكان ذلك سببًا لتقدمه في الطاعة وارتفاع منزلته، وأن يتم عليه نعمته؛ فلا يكون مِن الفرحين بعملهم أو علمهم، بل يكون مِن المشفقين الوجلين، الذين جمعوا إحسانًا وخشية، ولعل تقدير الله على عبده فواتَ بعض ما يحب من الطاعة فينكسر بفواته أنفعُ له من حصول ما كان يريد، ثم تُدلُّ به نفسه، ويدخل إليه داء العُجب، فقضاء الله لعبده المؤمن خير على كل حال.

وسنشرع -بإذن الله تعالى- في الكلام عن مضمون الرسالة مما يتعلق بالكلام عن "الحقيقة والمجاز في الأسماء والصفات"، والأسباب الأربعة التي لا بد منها لصرف الكلام من حقيقته إلى مجازه، وهل شيخ الإسلام يقرّ صحة تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز؟

ولكن هذا في مقالات قادمة -إن شاء الله-.

ونسأل الله -عز وجل- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة