الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

حكم إسبال الثياب

من المخالفات الظاهرة التي تدعو للكبر، وهو من كبائر الذنوب

حكم إسبال الثياب
محمد إسماعيل المقدم
الخميس ١٣ أكتوبر ٢٠١٦ - ١٥:٢٥ م
4959

حكم إسبال الثياب

محمد إسماعيل المقدم

إسبال الإزار من المخالفات الظاهرة التي تدعو للكبر، وهو من كبائر الذنوب، وقد جاء النص صريحاً بتحريمه مطلقاً، ولكنه يكون بقصد الكبر والخيلاء أشد تحريماً.

 

وصايا ونصائح نبوية مهمة

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ......

 

تعظيم الصحابة لحق الرسول في الأمر والنهي

 

عن أبي جُرَيّ جابر بن سُليم رضي الله عنه قال: (أتيت المدينة، فرأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله، قلت: عليك السلام يا رسول الله -مرتين- قال: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك. قلت: أنت رسول الله؟ فقال: أنا رسول الله الذي إن أصابك ضرّ فدعوتَه كشف عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوتَه أنبَتَها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضّلتْ راحلتك فدعوتَه رَدَّها عليك. قلت: اعهد إلي، قال: لا تسبّنّ أحداً. فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة، قال: ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك؛ إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه؛ فإنما وبال ذلك عليه). هذا الحديث رواه أبو داود و الترمذي ، وقال الترمذي : حسن صحيح. أبو جُرَيّ بضم الجيم وفتح الراء وتشديد الياء، هو جابر بن سُليم بالتصغير. قوله: (أتيت المدينة فرأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه) أي: يرجعون إلى رأيه ويعملون بما يأمرهم به، ويجتنبون ما نهاهم عنه، وهذا كان حال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، بل كانوا أشد الناس طاعة وامتثالاً لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان القادم أو الرائي إذا رأى الصحابة رضي الله عنهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجب وينبهر عندما يراهم يلتفّون حوله صلى الله عليه وسلم ثم يصدرون عن رأيه امتثالاً له. وقد شبّه المنصرفين عنه بعد توجههم إليه للسؤال عن مصالحهم ومعاشهم ومعادهم بالإبل الواردة إذا صدرت عن المنهل، فعبر بقوله: (يصدر الناس عن رأيه) وأصل الصدور: أن الناس إذا كان معهم الجمال مثلاً، وأرادوا أن يسقوها، فيسمى التوجه نحو البئر الذي يستسقى منه الورود، أما الصدور فيكون بعد الري وبعد زوال الظمأ، تقول: صدرت صدوراً، بمعنى الانصراف بعد الري. فعبّر عن ري الصحابة رضي الله عنهم وتشبعهم وامتثالهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإبل الواردة إذا وردت الماء لتشرب وترتوي ثم تنطلق عنه، فهكذا كانوا ينهلون من نمير سنّته صلى الله عليه وسلم، ويُذهبون ظمأهم بمجالسته والأخذ عنه. قوله: (لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه) أي: عملوا به، وهذه صفة كاشفة توضح المقصود من قوله: (يصدر الناس عن رأيه) أي: لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه.

 

من آداب السلام

 

قوله: (قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله، قلت: عليك السلام يا رسول الله! عليك السلام يا رسول الله!) قالها مرتين، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه في المرة الأولى فلم يجبه، أو أنه سمعه وامتنع عن جوابه تأديباً له؛ لأنه سلّم بطريقة غير صحيحة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل: عليك السلام) وهذا النهي نهي تنزيه، أي: لا تبدأ التحية بكلمة: عليك السلام؛ فإن (عليك السلام تحية الميت)؛ لأن هذه كانت تحية الميت وكانت عادتهم في زمان الجاهلية، حيث لم يكن لهم وعي بالأمور الشرعية التي يحبها الله. وقال بعض العلماء: أراد أنه ليس مما يُحيّا به الأحياء، وأنه شُرع له أن يحيي صاحبه، وشرع له أن يجيبه، وقد جاءت في الشريعة صيغة معينة لابتداء السلام وصيغة أخرى لرد السلام، فصيغة ابتداء السلام أن تبدأ بكلمة: السلام عليك، ويأتيك الجواب: عليك السلام، فوضْعُ الجواب في موضع الابتداء غير موافق للآداب الشرعية في ابتداء السلام، فلذلك قال له: (لا تقل: عليك السلام، (عليك السلام) تحية الميت). فلا يحسن أن لما وُضع للجواب أن يوضع موضع التحية التي يبتدأ بها، فهذه تحية الميت عند الجاهلية كما كانوا يقولون: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما فكانوا في الجاهلية يحيون الميت بقولهم: عليك السلام، فيمكن أن تبدأ في تحية الميت بقولك: عليك السلام، وإن كان قد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ تحية الأموات بالسلام، فكان يقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) فكان يبدأ أولاً بالسلام، يوضح هذا كلام بعض العلماء: أنه لم يرد بهذا الحديث أنه ينبغي أن يُحيّا الميت بهذه الصيغة -أي: عليك السلام- إذ قد سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأموات بقوله: (السلام عليكم)، وإنما أراد به أن هذا تحية تصلح أن يُحيّا بها الميت لا الحي، فهي يمكن أن تقولها للميت؛ لأن الميت لن يرد عليك، أما حينما تحيي الحي فتقول: عليك السلام، فهذا لمعنيين: المعنى الأول: أن (عليك السلام) شرعت لجواب التحية، ومن حق المسلم أن يحّيي صاحبه بما شرع له من التحية، فيجيب صاحبه بما شُرع له من الجواب، فإذا قلت في الابتداء: عليك السلام، فقد جعلت الجواب مكان الابتداء بالتحية، وهذا للحي، أما في حق الميت فإن الغرض من التسليم عليه أن تشمله بركة السلام، والجواب غير منتظر في هذه الحالة، فأنت لا تنتظر من الميت أن يقول: وعليك السلام، فإذا بدأته بعليك السلام، فهذا يناسب هذا المقام ولا يعترض؛ لأن (عليك السلام) يقولها الحي جواباً للسلام عليك، فيجوز أن يسلم الإنسان على الميت بكلتا الصيغتين. المعنى الآخر: أن من فوائد السلام أن المسلم يُسمع الذي يسلم عليه لفظ السلام أولاً، وهذا يحدث نوعاً من الاستئناس والألفة حينما تبدأ بالسلام عليك، أما حينما تقول: عليك السلام، ربما توجس السامع هل سوف تلعنه؟ هل ستدعو عليه؟ هل سوف تسبه؟ فربما أحدثت وحشة، أما حينما تبدأه بالسلام عليك، فقد بدأت بما يُطمئنه وهو لفظ السلام، فيحصل الأمن من قلبه، فأمر الشرع بالمسارعة إلى إيناس الأخ المسلم بتقديم السلام، وهذا المعنى غير مطلوب في الميت، فساغ للمسلم أن يفتتح من الكلمتين بأيتهما شاء. وقيل: إن عُرف العرب أنهم إذا سلموا على قبر قالوا: عليك السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (عليك السلام تحية الميت) على وصف أعراف العرب وعادتهم، لا أنه ينبغي أن يُسلّم على الأموات بهذه الصيغة، خاصة وأن الذي ثبت في السنة: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين...) إلى آخره. وبعض العلماء قالوا: إن (عليك السلام) هنا هي جواب النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه في مقام الرد، فقال: (عليك السلام)، ثم قال: (تحية الميت) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هي تحية الميت، ثم قال له: (قل: السلام عليك) يعني: إذا سلمت، فإن الأفضل أن تبدأ بلفظ السلام.

 

إخلاص الدعاء لله

 

قوله: (قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله)، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر)، ولفظ (الذي) يعود إلى الله سبحانه وتعالى، وقوله: (ضُر) أو (ضَر) يجوز بالضم وبالفتح، (فدعوتَه) أي: دعوت الله سبحانه وتعالى الذي أرسلني. (أو أتيتني لأدعو لك) بالشفاعة أو بوسيلة الدعاء كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ [النساء:64] فإما دعوت الله بنفسك أو بوسيلتي بأن أدعو أنا لك. قوله: (كشفه) أي: أزال الله ذلك الضر عنك. قوله: (وإن أصابك عام سنة) السنة: هي القحط، إذ لا مطر فيها، والجدباء التي لا تنبت الأرض فيها شيئاً، وقوله: (أنبتها لك) أي: صورها ذات نبات لك. قوله: (وإذا كنت بأرضٍ قفر أو فلاة) وفي رواية أخرى بالإضافة: (وإذا كنت بأرضِ قفر أو فلاة) يعني: فلاة أو صحراء خالية من الماء والشجر، وقوله: (أو فلاة) وهي المفازة المهلكة البعيدة عن العمران، وتكون محفوفة بالمخاطر. قوله: (فضلت راحلتك) أي: فحادت ومالت عن الطريق، أو غابت عنك، وهو الأظهر، لقوله: (فدعوتَه ردها عليك) بأن غابت عنك فدعوته ردها عليك بعد أن غابت عنك وافتقدتها.

النهي عن اللعن والسب وفاحش القول

 

قوله: (قلت: اعهد إلي)، يعني: أوصني، ومنه قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]. (قال: لا تسبّنّ أحداً) أي: لا تشتمه، وإنما عهد صلى الله عليه وسلم إليه بعدم السب؛ لعلمه أن الغالب على حاله أنه كان يسب الناس، فنهاه عن هذه الخصلة. قال: (فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة) أي: بعد ذلك العهد الذي أخذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم من لسانه الإنسان والحيوان سدّاً للباب، وإن كان يجوز سب إنسان مخصوص علم كفره كفرعون أو أبي لهب .. وغيرهما، فإنه لا ضرر في سب الكافر، ومع جواز السبّ في حق الكافر فالأفضل الاشتغال بذكر الرحمن حتى عن لعن الشيطان، فإن خطور ما سوى الله في الخاطر نقصان، فلا تشغل قلبك بغير ذكر الله، فالسب لا يستحب، وغاية السب أو اللعن أنه جائز في أحوال معينة ولأشخاص معينين، تقول مثلاً: لعنة الله على الظالمين.. لعنة الله على الكافرين.. لعن الله من فعل كذا، كما كان يقول ذلك صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن أفعال مخصوصة، وفي الحديث: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فالمسلم -وإن لَعَن- ينبغي له أن يقلّ من اللعن، ولا يكون ديدنه وعادته السب واللعن؛ حتى لا يتعود لسانه ذلك، وربما جرّه كثرة ذلك إلى أن يوقعه في غير موقعه، فسدّاً للذريعة ينبغي للمسلم أن يمسك عن اللعن، كما وصف بعضُ الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان لا يذم أحداً ولا يعيبه حتى لو كان مستحقاً لذلك).

 

النهي عن احتقار المعروف وأعمال الخير

 

ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تحقرن شيئاً من المعروف) أي: من الأعمال الصالحة، أو من أفعال الخير والبر والصلة، ولو كان قليلاً أو صغيراً، فلا تحتقر أي شيء من المعروف ما دام داخلاً تحت اسم المعروف الذي أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن دقّ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون في امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه، حتى في أدق الأمور؛ امتثالاً لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] أي: التزموا جميع شرائع الإسلام.

 

 

 

فضل البشاشة وحسن الخُلق

 

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وأن تكلم أخاك) أي: وكلم أخاك تكليماً، (وأنت منبسط إليه وجهك) أي: باشّ الوجه في وجه أخيك، فالابتسام أو التبسم في وجه أخيك صدقة تتصدق بها، ويأجرك الله سبحانه وتعالى عليها، فالمعنى: أن تتواضع لأخيك، وتطيب الكلام؛ حتى يفرح قلبه بحسن خلقك. قوله: (إن ذلك) أي: الكلام مع انبساط الوجه (من المعروف) يعني: من المعروف الذي لا ينبغي أن تحقره أو تنكره، فلا ينبغي أن تتركه وتقول: هذا أمر يسير، بل هو باب من أبواب المعروف الذي نهيت عن احتقاره أو التفريط فيه.

 

النهي عن الإسبال والخيلاء

 

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وارفع إزارك إلى نصف الساق) أي: ليكن سروالك وقميصك قصيرين، (فإن أبيت فإلى الكعبين) أي: فإن أبيت رفع الإزار إلى نصف الساق فارفعه إلى الكعبين ولا تتجاوزهما. ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذا الحكم: (وإياك وإسبال الإزار) يعني: اجتنب إسبال الإزار، أي: أن ينزل ثوبك عن الكعبين، وهما العظمان الناتئان في أعلى القدم، (فإنها) أي: هذه الفعلة أو هذه الخصلة وهي: الإسبال وإرسال الثوب وإرخائه (من المخيلة) أي: من الكبر والعجب، (وإن الله لا يحب المخيلة).

 

فضل مقابلة السيئة بالحسنة

 

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن امرؤ شتمك) أي: سبك أو لعنك، (وعيرك بما يعلم فيك) أي: لامك بما يعلم من عيبك سواء كان العيب فيك أم ليس فيك، لكنه ظلمك بأن سبك بشيء هو فيك أو ليس فيك، (فلا تعيره بما تعلم فيه) يعني: لا تقابل عمله بمثله، فإن الذي ظلمك لا يجوز لك أن تظلمه، والذي يخذفك لا يجوز لك أن تخذفه؛ مراعاة لحرمات الله سبحانه وتعالى، ولا يستفزّنك فعله وظلمه إياك بأن تنتهك حرمته وتكشف ستره، وتعيره بما تعلم فيه، فضلاً عما لا تعلم، فإن كان الذي تعلمه عنه نهيت أن تعيره به، فمن باب أولى ألا تعيره بما لا تعلمه فيه. قوله: (فإنما وبال ذلك) أي: إثم ما ذكر من الشتم والتعيير، (عليه) أي: على ذلك المرء، ولا يضرك شيء، وفي بعض روايات هذا الحديث: (فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه).

 

أهمية طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره

 

يقول الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في تعظيم حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أغرّ عليه للنبوة خاتمٌ من الله مشهود يلوح ويشهدُ وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمهِ إذا قال في الخمس المؤذنُ أشهدُ وشقّ له من اسمه ليجلّه خذو العرش محمود وهذا محمدُ نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ من الرُّسْل والأوثان في الأرض تُعبدُ فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً يلوح كما لاح الصقيلُ المهنّدُ وأنذرنا ناراً وذكّر جَنّةً وعلّمنا الإسلام فاللهَ نَحمدُ تعاليتَ ربّ الناس عن قول من دعا سواك إلهاً أنت أعلى وأمجدُ لك الخلق والنعماءُ والأمرُ كُله فإياك نستهدي وإياك نعبدُ لقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، والردّ إلى الله هو الرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى حديثه وسنته بعد مماته صلى الله عليه وسلم. وقال الله عز وجل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي: عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] قال الإمام أحمد: الفتنة: الكفر، وقال الله عز وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. فانظر كيف يُقسِمُ الله سبحانه وتعالى بقوله: (فَلا وَرَبِّكَ) أي: ورب محمد عليه الصلاة والسلام، (( لا يُؤْمِنُونَ )) ينفي عنهم الإيمان إلى غاية هي: (( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ )). إذاً: يكونون مؤمنين إذا امتثلوا الأمور التالية: أولاً: التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ). ثانياً: (ثم لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) فَنَفَى الإيمان عمن يجد في صدره حرجاً من شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. ثالثاً: (( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) وهذا يعني كمال الانقياد والإذعان والرضا -أي: رضا القلب واعتزازه- بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآيات كثيرة في هذا المعنى. أما الأحاديث التي توجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء فيما جاءت السنة مبينة لما ورد في القرآن كالصلاة والزكاة وغيرها، أو فيما استقلت به السنة من الأحكام، والتي تكذبها طائفة القرآنيين الضالة التي تكذب بالسنة ولا تثبت حُجّيتها. ومن الأحاديث الدالة على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وآله سلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري . وأيضاً ما رواه أبو داود و الترمذي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وَعَظَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مُودّع فأوصنا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمرّ عليكم عبد حبشي، فإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) قال الترمذي : حديث صحيح. وأيضاً ما رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يُحرّم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل هذا القرآن أو أكثر). ......

 

نماذج من تعظيم الصحابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم

 

لقد طبّق الصحابة رضي الله تعالى عنهم هذه الآيات والأحاديث أحسن تطبيق وأجمله، فكانوا ينقادون لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمتثلون تكاليفه يرضى وطيب نفس. ......

 

تحري عمر وابن عمر اقتفاء السنة

 

أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، حينئذٍ أخذها من هؤلاء. وأخرج الشيخان من طريق ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلما جاء سرغ -وهي قرية على طريق الشام عند وادي تبوك- بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً) فرجع عمر من سرغ لمّا بلغه حديث عبد الرحمن بن عوف . وأخرج الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا النساء بالليل من المساجد، فقال بعض بني عبد الله بن عمر : والله لا ندعهن يتخذنه دَغَلاً) والدَّغَل: المكان الذي فيه شجر كثير ملتف، فيكمن فيه من أراد أن يتخفّى من الناس، فهذا ابن عبد الله بن عمر قال: والله لا ندعهن يتخذنه دغلاً! فضرب ابن عمر صدر ابنه حينما اعترض ولم يتأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أُحدّثك عن رسول صلى الله عليه وسلم وتقول ما تقول؟! قال الشافعي : ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أُخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبل خبره، وانتهى إليه، وأثبت أن ذلك سنّة. وأخرج الشيخان عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يُقبّل الحجر -يعني: الحجر الأسود- ويقول: أَعلمُ أنك حجر ما تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبّلك ما قَبّلتك. وقال خالد بن أسيد لـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنك تجد صلاة الحذر وصلاة الخوف في القرآن ولا تجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: (يا ابن أخي إن الله عز وجل بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

 

شدة تأدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وحبهم له

 

وقد ثبت عن الصحابة نماذج تدعو إلى الإعجاب في شدة تحرّيهم وطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا عروة بن مسعود وقد بعثته قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية كي يجري بعض المفاوضات، فلما رجع إلى قريش قال لهم وهو يصف الصحابة رضوان الله عليهم: أي قومي! والله لقد وفدتُ على الملوك، ووقفتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-؛ والله إن يتنخّم نخامة -يعني: ما تنخم الرسول صلى الله عليه وسلم نخامة- إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده -أي: حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وإذا أمرهم ابتدروا أمره-أي: تسابقوا في تنفيذ أمره- وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -أي: على الماء الذي يتوضأ منه تبركاً به- وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون إليه النظر تعظيماً له. وهذا من الأدب ألا تُحدّ النظر إلى كبار السن أو العلماء أو أهل الفضل. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد إسلامه: إنه لم يكن شخص أبغض إلي منه صلى الله عليه وسلم فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه، ولو سُئلت أن أصفه لكم لما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم. أي: أنه كان يستحي من النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه فلا يحد النظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم. وهناك نماذج أخرى أيضاً مما ينبغي أن نستحضره في هذا الزمان الذي هو زمان غربة الإسلام بين الناس، وغربة أهل الطاعة بين السواد الأعظم من الناس.

 

مبادرة الصحابة في امتثال ما أُمروا به واجتناب ما نهوا عنه

 

وحينما نزل تحريم الخمر مر أحد الصحابة على جماعة من المسلمين قد وضعوا الخمر في إناء وهم يشربون، فوقف عليهم وقرأ قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91] فالصحابة قالوا: انتهينا انتهينا، فيقول الرجل: وكان بعضهم قد ملأ كأسه وقربه إلى فمه فلما قُرئت عليهم الآية سكبوه، ولا يوجد فيهم أحد قال: أقتنع أولاً ثم بعد ذلك أُنفّذ، كما يتشدق بعض السفهاء في هذا الزمان، فيقول: أقنعني أولاً! نقول له: يكفي أن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الزهري رحمه الله تعالى: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. فقانون العبودية أن نقول: سمعنا وأطعنا. والآن ترى امرأة تتبرج وتتهتّك، وتطيع الشيطان فيما يأمرها به من محاربة الرحمن سبحانه وتعالى، فإذا أمرتها بالحجاب قالت لك: أقنعوني أولاً! نقول لها: هل سألتِ الشيطان هذا السؤال حينما أمركِ بالتبرج والتهتك؟! لماذا لا يقال: أقنعني إلا في طاعة الله سبحانه؟! فهذا من تلبيس إبليس. ومن هذه النماذج ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها حيث قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل؛ لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] شَقَقْن مُرُوطهن فاختمرن بها. أي: غطّين بها رءوسهن ووجوههن. وعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة رضي الله عنها، فذكرنا نساء قريش وفضلهن -أي: أخذن يمدحن نساء قريش ويذكرن فضائلهن- فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل؛ لقد أنزلت سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] فانقلب رجالهن إليهن -أي: رجع الرجال إلى البيوت- يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها -أي: في هذه السورة- ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به -أي: فتحجبت به تطبيقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه- فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان -جمع غراب- وإنما شُبّهن بالغربان؛ لأن الغربان سُود، أي: أنّهنّ كُنّ يلبسن أكسية سُود. وجاء ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فلما دخل من باب المسجد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجلسوا) فلما سمع هذه الكلمة جلس في مكانه على باب المسجد، وهو لا يدري هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبه هو أم غيره؟ لكنه جلس عند سماع الأمر فوراً، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تعال يا عبد الله بن مسعود) فحينئذٍ قام ودخل المسجد. وهذا علي رضي الله تعالى عنه: حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية لجهاد اليهود في خيبر، قال له: (امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي رضي الله تعالى عنه شيئاً) أي: مشى مسافة قصيرة، ثم توقف؛ لأنه تذكر سؤالاً مهماً: (فصرخ بصوته) أي: رفع صوته؛ حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من سماعه؛ لأنه لم يلتفت إليه، بل وجهه إلى الجهة الأخرى: (فلم يلتفت وصرخ بصوته: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟) أي: ما هي الغاية من هذا القتال؟ فمع أنه أراد أن يقول هذا السؤال المهم، إلا أنه لم يلتفت تنفيذاً لأمره صلى الله عليه وسلم في قوله: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) فتحرى عدم الالتفات، وظل مكانه متوجهاً ناحية العدو، ولم يلتفت امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان الغرض من سؤاله الاستفسار عن أمور تمس الحاجة إليها في إنجاز مهمته هذه. كذلك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بهجر الثلاثة المخلفين بعد غزوة تبوك، وأتى رسول من ملك الروم وجعل يسأل: من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ فجعلوا يشيرون إليه ولم يتكلموا؛ تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم كلامهم؛ لأنه كان قد نهى عن كلامهم، فرفضوا أن يتكلموا ويجيبوا الرسول الرومي بألسنتهم؛ حتى لا يقعوا في مخالفة الأمر بالمقاطعة، وهذا من أعظم التوقير لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

مبادرة الصحابة إلى الاقتداء بأفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم

 

وقال مجاهد : كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت. وبلغ أيضاً من حسن اقتدائهم به صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك دون يعلموا لذلك سبباً، ودون أن يسألوه عن علّته وحكمته؛ لأن المسارعة مزية من مزايا المحبة، فمن أحب أحداً أطاعه في كل ما يأمر به واقتدى به، وهذا قد يحدث في الخير وفي الشر كما ترون كثيراً من الناس يحبون بعض الفُسّاق من الممثلين أو غيرهم، فإذا غير أحدهم في هيئته بأي نوع من التغيير، تجد كل من يحبونه يقتدون به في هذا الأمر؛ لأن هذا يدل على أثر المحبة في هؤلاء الفسقة حتى لو فعلوا بأنفسهم ما فعلوا من تغيير الهيئات، بل حتى لو تشبهوا في فعلهم بالحشرات، كما يسمون بعض الفرق الحشرية البيكز والفوب! ومعنى الفوب: الكلب! والبيكز: الخنافس! فتجد من يقتدون بهم حتى في هذه التفاهات وهذه السخافات حباً في هؤلاء المفسدين في الأرض! فكذلك إذا أحب المؤمنون رسولهم صلى الله عليه وسلم -وهم أولى بذلك- فلا ينبغي لومهم ولا عذلهم ولا عتابهم على طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا أثر من آثار المحبة، فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تلقائياً يقتدي به حتى في الأمور التي لا تكون واجبة عليه، أو حتى في الأمور العادية التي ليست سُنّة مؤكدة. يقول ابن عمر رضي الله عنهما: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتم من ذهب، ثم نبذه النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: رماه- وقال: (إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتمهم) ولم يحتج الأمر إلى سؤال ولا أخذ أو ردّ، بل فعل ففعلوا، وترَكَ فتركوا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه) أي: نزعه من يد الرجل ورماه في الأرض، (وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟ فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). فانظر إلى شدة الاقتداء والتورع، مع أن هذا الرجل قد أبيح له أن يبيعه وينتفع بثمنه، لكنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزعه من يده وطرحه في الأرض أبى أن يأخذ شيئاً قد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه وهو يصلي) وقد كان يصلي في النعلين (فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك) وهم في الصلاة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يخلع نعليه (ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما قَذَراً) فتأمل المبادرة في الاقتداء. ولما قُدّم إليه لحم الضبّ فلم يأكله، توقف خالد بن الوليد عن الأكل وقال له: أحرام هو؟ قال: (لا، ولكني أعافه). حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في قوم لا يعرفون الضبّ، فهو يعافه من ناحية الطبع؛ لأنه لم يتعوّد عليه. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون! ففي ذلك المجتمع كانت الأشياء تؤخذ بتلقائية؛ لأن هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام واجبنا طاعته والاقتداء به، وإتيان ما أتاه وترك ما تركه.

 

 

الوسطية هي في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والفتنة والتطرف في مخالفته

 

قال الزبير بن بكار : سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أُحرِم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة هذه؟! إنما هي أميال أزيدها؟! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أما سمعت الله يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. وبعض الناس قد ينهجون منهج الزهد والتزهيد في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع وضوح هذه الطريق التي كان عليها الصحابة، من شدة تعظيم أمره صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، بل ليس هذا فحسب! فقضية مثل هذه القضية التي نشير إليها، وهي قضية جر الثياب، سواء القميص الذي يوصف الآن بأنه قميص قصير، لكن أصل كلمة (القميص) كما قال تعالى: وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ [يوسف:25] يقصد به: الثوب أو الإزار -وهو غير منتشر الآن هنا- أو السراويل أو نحو هذه الأشياء. فبعض الناس ليسوا فقط يجرّون الثياب إهمالاًَ لهدي النبي صلى الله عليه وسلم أو تهاوناً بسنّته فحسب، بل أيضاً يضحكون ويتغامزون ويتفكّهون إذا رأوا مسلماً يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويقصر ثيابه، فتصير كأنها نكتة أو شيء يُذكر للضحك وللفكاهة؛ لأن فلاناً يعتقد أن الدين هو أن يلبس الثياب القصيرة ويحمل السواك! ومن الناس أيضاً من يسمي التمسك بهذه الشعائر الإسلامية تطرفاً! فنقول: الأمر في الحقيقة ليس تطرفاً ولا تزمتاً ولا شيئاً من هذه المصطلحات الشيطانية! ولكن ينبغي إبدال كلمة (التطرف) بقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، فهو ليس تطرفاً، ولكنه اعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو احتماء وتمسك بحبل الله المتين، واسم (الاعتصام) ليس تطرفاً، بل معنى التطرف: الأخذ بأطراف الأمور في أقصى اليمين أو في أقصى اليسار، أي: بالإفراط أو التفريط، هذا هو التطرف، أما هذه الأمة في ظل هذه الشريعة فهي الأمة الوسط. فالأصل والميزان الذي توزن به الأشياء هو أن كل ما وافق كتاب الله وسنة رسوله فهو الوسط وهو الحق وهو العدل، أما الانحراف عنهما يميناً أو يساراً بالإفراط أو التفريط .. بالتقصير أو بالغلو؛ فهذا هو التطرف وهو الهلاك، وأما التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الاعتصام بحبل الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنّتي)، فهذا تمسك بدين الله، وتعظيم لحرمات الله، وتوقير لشعائر الله، واعتصام بحبل الله، ولا يجوز أبداً أن يوصف بالتطرف. ومصطلح التطرف هم يقولونه على أساس أن ما عليه المجتمع الآن من ضياع وفساد وانحلال -في نظرهم- هو الوسط وهو العدل! فكل من انحرف عنه فهو متطرف، فعري المرأة وتبرجها وتهتكها واختلاطها بالأجانب، والفسق المعروف في المجتمع على الشواطئ وفي النوادي، وغير هذه الأشياء ..، هذا عندهم هو الوسط والاعتدال! بمعنى أن تعيش كما يعيش أهل زمانك وأن تهلك معهم! أما إذا تمسكت بدينك فأنت متطرف!! إذا امتنعت من مصافحة النساء فأنت متطرف!! إذا فعلت الأشياء التي يُحبها الله فأنت متطرف!! أما الذي يشرب الخمر فلا يوصف بالتطرف!! أما الذي يفعل ما حرم الله جهاراً فهذا غير متطرف!! كذلك مصطلح (الإرهاب) أو (الإرهابيين)، والإرهاب يكون لأعداء الله: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] وليس المسلمون يرهبون بعضهم بعضاً. وأيضاً مصطلح (الهوس الديني)! وهذا شيء غير جديد؛ لأن الأنبياء قد رُمُوا بالجنون، كما قال الشاعر: قيل إن الله ذو ولدٍ قيل إن الرسول قد كَهَنا لم يسلم الله والرسول معه من كلام الورى فكيف أنا؟ فلم يسلم الله سبحانه وتعالى مِن سبّ المشركين حينما زعموا أنه ذو ولد! أو أنه ثالث ثلاثة! أو أن له بنات وهن الملائكة! ولم يسلم الرسل كذلك: وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9]، أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، فهذا شأن الكفار والمعرضين عن شرع الله سبحانه وتعالى، فشأنهم أن يتطاولوا على أهل الحق بهذه المسميات الشيطانية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فالحق منحصر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج عنهما بحال من الأحوال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، فكل من أحيا سنة، أو تمسك بها، وإن خالف كل الناس فهو معتصم بكتاب الله .. معتصم بحبل الله، وهذا اعتصام وتمسك ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما بينّا من قبل أن المحبة تورث المتابعة، فالمتابعة أثر من آثار المحبة، وهذا شيء طبيعي وموجود حتى بين هؤلاء الفسقة وبين من يسمونهم الجماهير، حتى أنهم يقولون: معبود الجماهير! وهي فعلاً عبادة، فغاية المحبة لا تكون إلا بتمام الانقياد والمذلة والخنوع لهذا الذي يحبونه. فإذا كان هؤلاء حريصين على الاقتداء بآلهتهم الباطلة؛ فنحن أولى بأن نعبد الله سبحانه وتعالى على الطريقة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم ما حدث منذ زمن قريب لأخينا مدحت وردة حينما تمسك بشيء من الشرع في قضية ستر العورة بارتداء الشورت الطويل، حيث ثار عليه القوم وأخذوا ينالون منه، ولو قال لهم: إنه موضة من الموضات، لقالوا: لا بأس به، لكن أن ينسب هذا إلى الإسلام فهذا الذي يستحق أن يحارب! فلما نسب للإسلام عادوه، أما لو كان مثل لاعبي الكرة في أوروبا أو في غيرها، وفعل ما فعل لرحبوا به واقتدوا به وقلدوه تقليد القردة! أما حينما يمتثل الإنسان أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يُقبل هذا منه أبداً بزعمهم. وأذكر أن بعض الكُتّاب قد كتب في بعض الجرائد قائلاً: منذ سنوات ظهرت موضة أمريكية لبنطلون شورت ينزل تحت الركبة بقليل، وقد كان اسمه (برمودا) مثل مثلث (برمودا) التي كان جنود أمريكا يلبسون فيها هذا الشورت أثناء الحرب، وقد صار هذا البنطلون موضة في الستينات، وكان أولاد الأغنياء يتباهون به، وينظرون نظرات إشفاق إلى الذين يرتدون الشورت العادي، وكان ثمنه غالياً للغاية، ورغم ذلك كان موضع قبول عند أولاد الأغنياء، كما كان حلم الطبقة الوسطى. ثم يقول: إذا جاء شاب مصري ولبس هذا البنطلون بدافع الورع، وقال: إن هذا زي يليق بي كمسلم، إن وقع هذا قال الناس: ما هذه السخافة؟! يعني: أنه إن جاءت هذه الألبسة من عند الكفار فإنهم يقتدون بها وينظرون إليها أنها المثل الأعلى، لكن عندما نتمسك نحن بديننا فإننا نلقى هذه الأذية من القوم. ......

 

مسائل متفرقة في إسبال الثياب

 

 

حكم إسبال الثياب للرجال

 

إن موضوع طول الإزار أو طول الثياب يحتاج إلى بيانٍ شافٍ لعلنا نأتي على شيء من هذا البيان فيما يلي: إن تكرار كلمة (الإزار) في كثير من الأحاديث النبوية سببه أن ملابس الصحابة في ذلك الزمان كان أغلبها هو الإزار، لكن أصبح لبس الإزار اليوم قليلاً جداً، ومع هذا فالإزار والقميص لهما نفس الحكم؛ لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص) فحكمهما واحد. وعن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي -واسمها رهم - تحدث عن عمها -وهو عبيد بن خالد المحاربي - قال: (بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي، يقول: ارفع إزارك)، أي: ارفع إزارك عن الأرض، حيث كان يجر إزاره وثيابه، (ارفع إزارك؛ فإنه أتقى)، وفي رواية أخرى: (فإنه أنقى)، أي: أنقى لهذا الثوب، (فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحاء)، وهو كساء مخطط فيه بياض وسواد، والمعنى أنها بردة مبتذلة أو ثوب مبتذل ليس فيه زينة، فجرّها لا يؤدي إلى الخيلاء، (قال: أما لك فيّ أُسوة؟! فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وسلم). وعن سلمة بن الأكوع قال: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة صاحبي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم. إزرة: اسم هيئة على وزن فِعْلة. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله)، فمن خشيته لله سبحانه وتعالى أنه كان يتواضع ويقصر إزاره. وهناك حد أدنى لثياب المسلم قد حَدّهُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليّ إزار يتقعقع) أي: كالإزار الجديد، والتقعقع: هو تحريك الشيء اليابس الصلب بصوت، (فقال: من هذا؟ قلت: عبد الله بن عمر ، قال: إن كنت عبد الله) أي: العبد المتواضع لله والذليل لله (فارفع إزارك) ولم يسأله: هل أنت فعلته للخيلاء فيحرم؟ أم فعلته بغير خيلاء فيجوز؟ لكن الأمر مطلق كما نلاحظه في أغلب الروايات، قال: (فرفعته، قال: زِدْ، فرفعته حتى بلغ نصف الساق). فهذا ابن عمر الذي هو من أفاضل الصحابة ومن أتقاهم رضي الله عنهم، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إرخائه لإزاره، بل أمره أن يرفعه، مما يدل على أن هذا الأدب ليس مقصوداً به النهي عن الخيلاء، ولو رأى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يطيلون ثيابهم في هذا الزمان لأنكر عليهم من باب أولى. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً قال: (مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعتُه، ثم قال: زد، فزدتُ، فما زلت أتحرّاها بعد)، أي: أتحرّى الحدّ الذي حدّهُ النبي صلى الله عليه وسلم، (فقال بعض القوم: إلى أين؟ قال: أنصاف الساقين) يعني: إلى أنصاف الساقين. وكما سبق في حديث أبي جُريّ جابر بن سُليم ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين). إذاً: نصف الساق موضع استحباب، أما المباح والجائز فإلى الكعبين، وهما العظمان الناتئتان في أسفل الساق وأعلى القدم. ثم قال: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخِيْلة، وإن الله لا يحب المخِيْلة)، فوضح النبي عليه الصلاة والسلام أن أصل الإسبال هو من المخيلة، كما في قوله: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة) أي: نوع من أنواع المخيلة، والمخيلة قد تكون في خُلُق الإنسان، أو التكبر في مشيته، أو في أي شيء من تصرفاته، ومن هذه التصرفات: إسبال الإزار، فإسبال الإزار هو أحد أعراض مرض المخيلة والكبر والبَطَر. وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن الإزار فقال: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، قالها ثلاث مرات)، وقال: (من جرّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو كاحلي، فقال: هذا موضع الإزار، فإن أبَيْت فهذا، ثم أنزل، فقال: فإن أبيت فهذا، ثم طأطأ قبضة أخرى، وقال: فإن أبيت فهذا، حتى وصل إلى الكعبين، فقال: فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين). فالمسلم لو أن عنده يقين بهذا التهديد وهذا الوعيد وكان الثوب تحت الكعبين لَشَعَر بالنار تلسعه في عقبه، إذا كان فعلاً يؤمن بهذا الوعيد أن هذا الموضع الذي يغطى بالثوب بعد الكعبين فهو في النار. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإزار إلى نصف الساق، فلما رأى شدة ذلك على المسلمين قال: إلى الكعبين، لا خير فيما أسفل من ذلك). فهذه الأحاديث كلها تصرح تصريحاً ظاهراً بأن المسلم يجب عليه أن يرتدي ثياباً لا تزيد في طولها على الكعبين، ويستحب له أن يجعلها إلى أنصاف الساقين، وعاقبة من خالف هذا الأمر هي ما جاء في الأحاديث السابقة، وكذلك في الأحاديث الآتية، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، وكما ذكرنا أن أغلب لباس الصحابة كان الإزار، فلذلك تكثر كلمة (الإزار) في الأحاديث، وتأتي أحياناً ألفاظ عامة كـ(الثوب) فتعمّ سائر أنواع اللباس على القول الراجح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المؤمن إلى عضلة ساقيه، ثم إلى نصف ساقيه، ثم إلى كعبيه، فما كان أسفل من ذلك ففي النار)، يعني: ما زاد من الكعبين فهو في النار. قوله: (فهو في النار) معناه: أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه فهو في النار؛ عقوبة له على فعله، فالمكان الذي يغطى في أسفل الكعبين بالإزار أو نحوه يكون عقابه في النار جزاء لهذا العمل.

 

حكم إسبال الثياب للنساء

 

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً) أما بالنسبة للرجل فإن هناك حد واجب يحرم تجاوزه، وحد مستحب، فالمستحب: أن يكون الثوب إلى نصف الساق، أما المباح فهو إلى حد الكعبين، وما زاد عن الكعبين يحرم أن يغطى بالثياب، كما في الحديث: (لا حق للإزار في الكعبين) أما ما فوق الكعبين فهو جائز. (فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن) أي: تنكشف أقدامهن إذا لزمن هذا الحد، (قال: فيرخينه ذراعاً) أي: ابتداء من الكعبين تقيس المرأة ذراعاً فترخيه، وهذا هو الجائز لهن (لا تزيد عليه). فإذاً: من الخيلاء بالنسبة للمرأة أن تزيد في طول ثوبها على الذراع بعد الكعبين. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم تجرّ المرأة من ذيلها؟ قال: شبراً، قلت: إذاً تنكشف القدمان! قلت: ذراعاً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ذراعاً لا تزيد عليه). فالنبي عليه الصلاة والسلام أذن لهن أن يزدن شبراً بعد الكعبين، ولما قالت له: (إذاً تنكشف القدمان!) أذن لهن في الإرخاء ذراعاً، ولا تزيد على الذراع، فكانت أوامره صلى الله عليه وسلم تتوجه إلى الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا إذا سمعوا شيئاً بادروا إلى تطبيقه وامتثاله. فرأت أم سلمة رضي الله عنها أنها لا تستطيع أن تطبق هذا الأمر إلا إذا كشفت عن قدميها، وأم سلمة تعلم يقيناً أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف عن قدميها، وتعلم أن النساء لا يجوز لهن أن يقصّرن ثيابهن بحيث تنكشف سوقهن أو أقدامهن، فكأنها خشيت من حصول هذا الأمر، فتأدبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسألته فقالت: كيف يصنع النساء بذيولهن؟ ولنتأمل مدى حرص المرأة المسلمة على الستر، وهذا نستفيده من هذا الحديث، فلما أذن لهن أن يرخين شبراً، قالت: (إذاً تنكشف أقدامهن)، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كم في هذا الزمان من النساء اللاتي هانت عليهن أنفسهن وهن ينتسبن إلى الإسلام، فتجد الرجل يجرجر ثيابه أو قميصه أو سرواله، وتجد النساء قد حسرن هذه الثياب وكلما زاد انحسار الثوب زاد وصفها بالتقدم والتطور وعدم الرجعية والتخلف! الآن يتغطى الرجال وتنكشف النساء! انعكست الأحكام كما انعكست كثير من أحوالنا، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى وجز الشوارب فنجد الرجال يطلقون الشوارب ويحلقون اللحى! كذلك نجد النساء يكشفن عوراتهن، والرجال يتسترون ويبالغون حتى يؤدي الأمر إلى مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسبال، وهذا الطول في الثياب أصلاً من شأن النساء. فهكذا كان الحياء في المؤمنات، ترى الرسول عليه السلام في حديث الخطبة يقول للخاطب: (فإن استطعت أن ترى منها ما يدعوك إلى نكاحها فافعل)، فقوله: (إن استطعت) تدل أن هذا أمر شاق؛ لأن المرأة المسلمة لا تجود بما لا يكشفه لكل من شاء، بل هي تبالغ في التستر وفي حفظ نفسها وصيانة عوراتها، كما في الحديث: (المرأة عورة)، فيلزم ستر كل ما يطلق عليه اسم العورة، وفي الحديث: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان). أيضاً: حينما نتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه يراها)، حيث إن النساء مع بعضهن البعض يكشفن على الأقل ثياب المهنة التي يلبسنها في البيت، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة ترى المرأة وهي غير محجبة فتذهب إلى زوجها أو قريبها فتصفها له كأنه يراها، فإن هذا من الذنوب العظيمة، ونحن الآن في هذا الزمان لا نحتاج إلى هذه الواسطة؛ فقد هانت المرأة على نفسها، وصارت رخيصة ومهينة، فهي التي تتطوع بعرض نفسها على كل من شاء من نصراني أو يهودي أو كافر أو فاجر، ولا تبالي بمن رآها، ولا تحتاج لامرأة واسطة تراها ثم تنعتها لزوجها، بل هي التي عرضت نفسها، وهانت لكل من شاء أن يراها، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]، فنهى المرأة أن تضرب برجلها ليسمع الناس صوت الخلاخيل في رجلها فيعلمون أنها تلبس الخلاخيل، فإذا كان هذا النهي في هذه الزينة الخفية في الأرجل فكيف الفتنة فيما تعرضه المرأة من وجهها أو سائر عوراتها؟! والله سبحانه وتعالى يقول: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، قال المفسرون: (خَائِنَةَ الأَعْيُنِ): أن يكون الرجل في بيت الرجل، فإذا مرّت المرأة، فإن فطن له الحاضرون والجالسون معه غَضّ بصره وتخشّع، فإذا غفلوا عنه نظر إلى من يمر من النساء. فهذه هي خائنة الأعين، فأين التحرز من خائنة الأعين في زماننا؟ كأن لم يبق لها وجود، فأصبح الرجل يجوز بنسائه وهُن يخالطن الرجال ويجالسنهم، وتحدث المصائب التي لا تخفى على الكثيرين. ونعرف من الحديث السابق كيف كانت المرأة المسلمة عزيزة في نفسها، وكيف كانت غيرتها على نفسها، فلم تكن كالبضاعة أو كالسلعة التي تعرض للناظرين. فـأم سلمة انزعجت لما سمعت هذا الحكم، وهي تعلم يقيناً أن القدم من المرأة عورة، ولا يجوز كشف القدم، فلما سمعت نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن الإسبال قالت: (كيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً، قال: إذاً تنكشف القدمان! فقال: يرخين ذراعاً ولا يزدن عليه) فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على أن قدم المرأة عورة. يقول الإمام أحمد : كل شيء منها عورة -أي: المرأة- حتى ظفرها. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه). فليتق الله سبحانه وتعالى أناس يسخرون من المؤمنات الصالحات التقيّات، فيتقدم هؤلاء الناس بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويسخرون من المؤمنة التي تتحرى هذا الحد الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشهور عن هؤلاء السفهاء أنهم يقولون في حق المرأة التي تسدل ثيابها: هذه تكنس الشارع بثيابها!! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5] هذا استهزاء وتنكب وتحقير لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا جاءتهم الموضات من أوروبا وسَنَّها لهم الفساق والفاسقات من بيوت الأزياء أو الممثلات أو أهل الفن فإنهم يقتدون بأولئك ويتناقلون هذه النظم في الثياب بمنتهى الانشراح، أما إذا أتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخذلهم الشيطان، وينطق من أفواههم بهذه الكلمات الفظيعة، بأن يقول: هذه تكنس الشوارع! وهذا الكلام من التقدم بين يدي الله ورسوله، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فينتفي اختيار الإنسان إذا أتى أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كما كان انقياد الصحابة رضي الله عنهم لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: والحاصل أن للرجال حالين -أي: فيما يجوز لهم-: الأول: حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار إلى نصف الساق. الثاني: حال جواز وهو إلى الكعبين. ونزيد حالة أخرى وهي حالة تحريمه، وذلك إذا نزل عن الكعبين. وكذلك للنساء حالان: الأول: حال استحباب وهو الزيادة على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر. الثاني: حال جواز بقدر الذراع. تقدم الكلام في طول الإزار أو الثوب، وتحريم الزيادة على الكعبين خاص بالرجال فقط، أما طول الثياب بالنسبة للنساء فقد حدّ له النبي صلى الله عليه وسلم حداً محدودا ًزائداً على حد ثياب الرجال.

 

ما جاء في الكبر والخيلاء من الوعيد الشديد

 

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال) هذا الحكم أقسم عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس قد يقصر فهمه، ويضعف يقينه بهذه الأشياء، وإذا بذل من ماله صدقة ربما ظن أنها تنقص هذا المال، فيحلف النبي صلى الله عليه وسلم بقول: (ثلاث أُقسم عليهن: ما نقصت صدقة من مال)، فلا يمكن أبداً أن الصدقة تنقص المال. ثم يقول: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، مع أن الناس يتصورون أن العفو مذلة ومهانة، لكن يحلف النبي صلى الله عليه وسلم على عكس ذلك فيقول: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً). ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، فكلما زدت في مراتب التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى والتواضع لعباده رفعك الله، والناس الذين لا يستقون مفاهيمهم من الوحي الشريف لا يستطيعون أن يتصوروا هذا، فيظنون أن التواضع مذلة، لكن الواقع أنه كلما زاد العبد في تواضعه وخضوعه رفعه الله سبحانه وتعالى. والنصوص التي تحذر من الإسبال، وتأمر بالتواضع، وتنهى عن الكبر، ليس معناها -كما يفهم بعض الناس- أن المسلم مطلوب منه أن يظهر بمظهر قذر أو مهين! بل إن الشرع قد حث على النظافة وعلى الاهتمام بالمظهر، لكن بالحد المعقول الذي لا يؤدي إلى المخيلة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له شعر فليكرمه)، أي: من كان له شعر طويل فليكرمه بالدهون .. بالتنظيف .. بالطيب .. بالتسريح ونحوه. وحث أيضاً على نظافة البدن، كما هو معروف في غسل الجمعة واستعمال الطيب والسواك، ونحو هذه الأشياء. أما في الثياب ففي الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً رث الثياب، فقال له: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال أعطاني الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: فإذا آتاك الله مالاً فليُر أثر نعمة الله عليك وكرامته)، إذاً: تحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى، وأظهر هذه النعمة بأن تحسن ثيابك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة قد أعجبته جُمّته -أي: شعره- وبرداه إذ خسف الله به، فهو يتجلجل، أو قال: يهوي فيها إلى يوم القيامة)، ونحن نؤمن بهذا الحديث؛ لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري و مسلم . قوله: (فهو يتجلجل فيها)، أي: بسبب هذا الكبر حتى الآن إلى يوم القيامة لا زال يتجلجل، فكأن له شقاً في الأرض يتجلجل -أي: يندفع بشدة واضطراب- في هذا الشق إلى يوم القيامة؛ لأنه كان معجباً بجمته وقد أسبل إزاره. والكبر له مظاهر شتى، وليس مَن قصر ثيابه يكون قد برئ من الكبر، فالكبر له أبواب كثيرة. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: يُستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمّر ثوبه. قد سبق ذكر الأحاديث في تحريم الإسبال مطلقاً، لكن من فعل ذلك متعمداً، وقاصداً المخيلة والتكبر والتجبر، فهناك أحاديث كثيرة تبين مضاعفة هذا الوعيد.

 

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لحرمة الإسبال

 

لنتأمل كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؛ لأن مثل هذه المسائل والأمور إذا طرقت بعض الناس فإنهم يهيجون ويصخبون ويموجون، ويقولون: الإسلام ضائع وأنتم تتكلمون في إسبال الإزار! هل تقصير الإزار هو الذي سوف يحرر فلسطين؟! إسبال الإزار سيفعل كذا؟!وهذا من كلام متفيهقة هذا الزمان!! عن الشريد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف)، أي: رأى رجلاً من ثقيف يمشي، فتبعه (حتى هرول في أثره) يريد أن يلحقه ويدركه، فهرول وجرى في أثر هذا الرجل طالباً إياه (حتى أخذ ثوبه) فلما أدركه أخذ ثوبه حتى يوقفه ويكلمه، فقال: (ارفع إزارك، فكشف الرجل عن ركبتيه)، أي: ليبين له سبب إسباله لإزاره، (فقال: يا رسول الله! إني أحنف، وتصطكّ ركبتاي)، وهذا شيء من خلقة الله سبحانه وتعالى في هذا الرجل، فكأنه بإسباله لإزاره يستر ذلك الأمر؛ لأن ركبتيه كانت تصطدم بعضهما في بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله عز وجل حسن) يعني: ما يضرك من ذلك؛ فإن أي صفة من خلق الله سبحانه وتعالى فهي تكون على أحسن ما يكون، وهذا مفهوم من المفاهيم الضرورية جداً، ويجب أن نتيقن هذا الأمر، فإن كل خلق الله سبحانه وتعالى بأي هيئة فهو حسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88]، وقال عز وجل: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64]، وقال سبحانه وتعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، وقال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، وقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]. ثم يتفاوت الناس بعد ذلك فيما يمنح الله هذا من صفات الجمال أو من الصفات الأخرى، فهذا رزق الله سبحانه وتعالى، وهذا خلق الله مع أنه قد يتفاوت، لكن الأصل أن كل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى حسن. فلا يعيب الإنسان خلقاً من خلق الله، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي كان يستحي أن تظهر رجلاه وبهما حنف: (كل خلق الله عز وجل حسن)، قال الشريد : فلم يُرَ ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات؛ امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهو قد كان أطال الإزار؛ لأن ساقيه كانتا نحيفتين، وتصطدمان ببعضهما، فظن أن من العار إظهارهما! فإذا كان هذا عذر هذا الرجل فما بالك بمن ليس له مثل هذا العذر؟! وعن عمرو بن فلان الأنصاري قال: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره، إذ لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصيته)، وهذا من الاستنكار والحزن على هذا الأمر، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بناصية نفسه، (وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك)، يقصد التواضع لله سبحانه وتعالى؛ لأنه رأى هذا الإسبال تكبر ومخيلة، فأراد أن يتواضع، وهذا كان خُلُقه عليه الصلاة والسلام، حتى إنه لما جاء مكة فاتحاً دخلها مطأطئاً رأسه راكباً على ناقته تواضعاً لله سبحانه وتعالى في بداية هذا الفتح المبين، كذلك لمّا رأى هذا الرجل وقد أسبل إزاره علم أن هذا خُلُق المتكبرين، وخلق الاختيال والبطر، فلذلك أقبل وأسرع حتى لحق عمراً ووضع يده على ناصيته وهو يقول: (اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك) يعني: أنا عبد متوغل في صفة العبودية، فأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، وكلنا عبيدٌ لك، يعني: يقصد التواضع والتذلل بين يدي لله سبحانه وتعالى، والتبرؤ من هذا الفعل الذي هو من المخيلة. ففهم عمرو أنه يقصد استنكار ما هو عليه من الإسبال، قال عمرو : (قلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين) يعني: دقيق الساقين ورفيعهما، (فقال: يا عمرو ! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه) وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو ، أي: قاس تحت الركبة مسافة أربع أصابع، فقال: (يا عمرو ! هذا موضع الإزار) ثم رفعها ووضعها تحت الثانية، فقال: (يا عمرو ! هذا موضع الإزار)، فهذا الحديث كالذي قبله، يصعب أن نحمله على الخيلاء؛ لأنه جاء هذا الحديث والذي قبله في صحابيين لم يقصدا الخيلاء، ولكن ذكرا علةً معينة لتغطية ساقيهما، ومع ذلك لم يعذرهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهذان الصحابيان كانا بعيدين عن المخيلة، وكان لهما عذر، فلم يعذرهما النبي عليه الصلاة والسلام، وأمرهما برفع الإزار. وهناك أحاديث كثيرة في ذم إسبال الثياب، وذم الإسبال يستثنى منه بعض الحالات، مثل النساء كما سيأتي إن شاء الله في الأحاديث، ويستثنى أيضاً من به جرح في الكعبين، فقد يؤذيه الذباب أو شيء من الحشرات، فيجوز له أن يغطي الجرح حتى يشفى منه، فقد أباح العلماء بعض هذا.

 

الإسبال من كبائر الذنوب

 

عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)، وعلى هذا: فإن الإسبال من كبائر الذنوب، وليس من الصغائر، قال: (فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات)، أي: كرّر هذا الوعيد ثلاث مرات، فحينئذٍ قال أبو ذر : (خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل إزاره، والمنّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). قوله: (المسبل إزاره) أي: إسبال الإزار تحت الكعبين. وقوله: (والمنّان) أي: الذي يعطي الناس ثم يمنّ عليهم كما قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، فالمنان يتبع عمله الصالح بالمن على الناس وأذيّتهم. وقوله: (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) أي: الذي يحلف اليمين الغموس ليروّج سلعته، كمن يقول: والله إني خسرت كذا، أو والله إني اشتريتها بكذا. وهو يعرف أنه كاذب، فيروّج السلعة بالحلف الكاذب، فهذا يمين غموس؛ لأنه يغمسه في النار كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) أي: أنه يكسب مالاً من وراء ذلك، ولكن تنزع منه البركة، ووعيده في الآخرة إذا كان كاذباً كما ورد في حديث أبي ذر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا ينظر إلى مسبل الإزار). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى المسبل يوم القيامة).

 

ما جاء في الإٍسبال في الصلاة

 

 

 

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام). وأغلب الناس الذين يُخاطَبون في مثل هذا الأمر يعلّلون فعلهم هذا بأنهم لا يقصدون الخيلاء، والحقيقة أن جميع الذين يتتبعون الموضة إنما يقصدون عمداً الخيلاء، وكذا الذين يطيلون ثيابهم بهيئة معينة إنما يقصدون بذلك الخيلاء. وبالنسبة للحديث السابق: (من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام) فهذا الوعيد أتى خاصة في الإسبال في الصلاة، وهذا لا يعني أن الإسبال خارج الصلاة ليس فيه وعيد، بل الوعيد متحقق كما في حديث أبي ذر وغيره. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي وقد أسبل إزاره، فانصرف من صلاته وقال: (اذهب فتوضأ) فذهب فتوضأ، وأتى فصلى، فقال له: (اذهب فتوضأ) ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ علم الرجل أنه فعل شيئاً كبيراً، فقال له: (إنك كنت تصلي وأنت مسبل إزارك) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، وأراد بهذا أن ينبهه؛ لأنه ارتكب شيئاً غير صحيح وهو إسبال الإزار في الصلاة. وهناك أمر منتشر بين كثير من الشباب، والدافع له غير معروف حتى الآن، وربما فعل أحدهم ذلك فقلّده العشرات، وتلقاه جيل عن جيل، وهو أن البعض يلبس بنطلوناً طويلاً، أي: سروالاً قد أسبله، فإذا أراد الصلاة شمّر هذا البنطلون من أسفل؛ حتى يخرج من الوعيد الوارد في هذا الحديث، ويصلي وهو غير مسبل لسرواله، ونقول لهذا: إنما تخدع نفسك لسببين: أولاً: هذا التصرف فيه كثير من المغالطات؛ لأنك منهيّ عن الإسبال، سواء داخل الصلاة أو خارج الصلاة، فالأصل أن البنطلون أو السروال يكون إلى الكعبين على أقصى مسافة مباحة، وما عدا ذلك فهو غير جائز؛ لأنه من المخيلة. ثانياً: أنك بهذا الفعل كالمستجير من الرمضاء بالنار! تريد أن تفرّ من الوعيد في حق الذي يصلي وهو مسبل إزاره فتقع في مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشمير في الصلاة، حتى أنه في الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد شمر كُمّ ثوبه وهو يصلي، فأتاه فبسط هذا الثوب وحله). ونهى عن الكف في الصلاة، وهو الضم والتشمير. فأنت تقع في مخالفة بتشمير طرف البنطلون أو الكُم.

 

الهيئة المثالية للمسلم هي اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه

 

 

 

ينبغي للمسلم أن يمشي بثيابه على الهيئة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يتعزى بقول الفضيل بن عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلّة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. وهذا يبين معنى الغربة، وأن من الغربة أن تعيش بين أناس يسخرون منك أو يضحكون أو يتفكهون بعملك الذي أنت فيه متبع لسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وقد جاء في حديث حذيفة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بعضلة ساقه، وقال: (هذا موضع الإزار، فإن أبيت فهذا)، وطأطأ قبضة أخرى، ثم قال له: (لا حق للإزار في الكعبين) فلو كان النهي فقط إذا قصد به الخيلاء فلماذا حدد له؟ ولماذا قال له بعد ذلك: (لا حق للإزار في الكعبين) ؟! فلو كان المقصود تحريم الإسبال بخيلاء فقط لأباح له أن يطيل، ولكن القصد: إن كنت تفعله خيلاء فلا تفعله، وإن كنت لا تفعله خيلاء فاتركه. فتحديده لطول الإزار حيث أمسك قبضة الساق وحدّد له الطول، لابد أنه لحكمة وهي أن هذا النهي عام، سواء كان الإسبال لقصد الخيلاء أو بغير خيلاء. أيضاً في قوله لـعبد الله بن عمر : (إن كنت عبد الله فارفع إزارك)، فاشترط في عبوديته لله أن يرفع إزاره، ففهم ابن عمر ماذا كان يريد منه النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان لا يرضى لأحد أن يلبس الثياب التي تزيد في طولها على الكعبين.

 

اهتمام الصحابة بالأمر برفع الإزار وعدم إسباله

 

عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: أأدخل؟ فعرف صوتي، فقال: أي بني إذا أتيت إلى قوم (فقل: السلام عليكم، فإذا ردوا عليك فقل: أأدخل، ثم رأى ابنه وقد انجر إزاره، فقال: ارفع إزارك فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه)، ولم يسأله عن نيته في إسباله، فدلّ هذا على أن جرّ الإزار في ذاته هو من الخيلاء، حتى لو لم يقصد صاحبه ذلك. وعن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، ورأى رجلاً يجر إزاره وكان أبو هريرة في ذلك الوقت أميراً على البحرين، فعندما رأى هذا الرجل يجر إزاره -جعل أبو هريرة يضرب الأرض برجله وهو يقول: جاء الأمير.. جاء الأمير. وكان أبو هريرة رضي الله عنه فيه شيء من المزاح الصادق، فكأنه يريد أن يقول: أنا الأمير هنا، فاستمع لما يقول لك الأمير، وليس بقصد التكبر والفخر، بل كان عرف أبي هريرة أن يمزح المزاح اللطيف، فجعل أبو هريرة يضرب الأرض وهو يقول: جاء الأمير.. جاء الأمير، يعني: نفسه، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بطراً)، أي: تكبراً وطغياناً. وعن عمرو بن ميمون أنه حكى قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وفي آخر القصة قال: دخل شاب على عمر رضي الله عنه، فلما أدبر الشاب إذا إزاره يمس الأرض، قال عمر : ردّوا علي الغلام -مع أن عمر يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة- فردوه عليه، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك. قوله: (أبقى لثوبك) أي: أنه يتلف عندما يحتك بالأرض كثيراً، وقوله: (أنقى) أي: أنظف؛ فإنه إذا لم يُسبل لا تصيبه الأقذار أو النجاسات، وقوله: (وأتقى لربك) لأن الله يحرم هذا الإسبال. فتأمل كيف أن عمر رضي الله عنه وهو في أعظم اللحظات لحظة الاحتضار ومفارقة الدنيا إلى الآخرة، ومع ذلك لم يتهاون في هذا الأمر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى أعرابياً يصلي وقد أسبل، فقال: المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام، ولم يقيّد. يقول القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجُرُّه خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله لفظاً أن يخالفه إذ صار حكمه أن يقول: لا أمتثله؛ لأن تلك العلة ليست فيّ؛ فإنه دعوى غير مُسلّمة، بل إطالة ذيله دالة على كبره. والحقيقة أن الإنسان لو قصّر ثيابه فإنه يشعر بالتواضع فعلاً، وإذا أطالها في الغالب فإنها تكون سبباً وعلامة من علامات التكبر، لكن التواضع عند تقصير الثياب أمر يُحسّه الإنسان من نفسه إذا فعل ذلك.

 

إسبال الإزار عمداً من الخيلاء

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء)، وهنا كلمة الثوب يقصد بها أيّ ثوب سواء كان سروالاً أو إزاراً أو غيره (لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر : يا رسول الله! إن أحد شقّي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست تصنع ذلك خيلاء) وهذا الحديث نحن سوف نتكلم عليه إن شاء الله فيما يلي بالتفصيل؛ لأن بعض الناس يأخذون منه أن الإنسان يجوز له أن يطول ثيابه ما لم يقصد بذلك الخيلاء، لكن أين هم من أبي بكر ؟ أبو بكر ما كان يقصد ذلك عمداً؛ لأن الثوب أصلاً قصير، كان يضم الإزار بحيث إنه يكون قصيراً، لكن بسبب نحافة أبي بكر كان يسترخي فيتعاهده، ومع ذلك فكلما استرخى كلما رفعه، فهو حريص على عدم جرّ الثوب لكنه يسترخي منه أصلاً من غير قصد. فهذا فرق بين فعل أبي بكر وبين من يتعمد أن يصنع ثوبه طويلاً، ويقول للخياط مثلاً: اصنعه لي إلى الطول الفلاني، و أبو بكر حريص على تقصير الثوب لكنه يسترخي، ثم هو يتعاهده ويحرص على رفعه حتى ينسدل، فواساه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنك لست تصنع ذلك خيلاء). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يجلجل في الأرض إلى يوم القيامة) وحتى اليوم هذا فإن الرجل لا زال يعاقب بهذا الذنب، سبحان الله هذا أمر عظيم! وقوله: (فهو يتجلجل فيها) أي: كأنه شُقّ له شق في الأرض فهو يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع، والعياذ بالله، حتى يومنا هذا وإلى يوم القيامة؛ لتكبره. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يتبختر يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة معجب بجمته)، يعني: بشعره وقد أطاله، (إذ خسف الله به فهو يتجلجل، أو قال: يهوي فيها إلى يوم القيامة). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء). كل هذه الأحاديث تدل على أن من تعمد الخيلاء فوعيده أشد ممن لم يتعمد. وعن هبيب بن مغفل الغفاري : أنه رأى محمداً القرشي قام يجر إزاره، فنظر إليه هبيب وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من وطئه خيلاء وطئه في النار)، ووطء الثوب يكون لمن ثوبه طويل يجرجر وهو يمشي، فإنه لطول الثياب يُداس بالرجل. هذه الأحاديث وإن كان في بعضها ذكر الإسبال، لكن المقصود الإسبال وما هو فوق الإسبال من التكبر والإعجاب بالنفس، ولا تعارض بينها وبين ما سبق في أحاديث الإسبال، لكن هذه فيها أن الوعيد زائد؛ لأنه بقصد الخيلاء، وأنه يقصد التكبر والتبختر؛ لأن أهل النار ليسوا متساوين في العذاب، فالنار دركات كما إن الجنة درجات. وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أغنيت عن عمك -يقصد أبا طالب - فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار). فهذا يدل على أن النار دركات حسب الذنب الذي قد يوقع فيها، لكنّ أصل الوعيد موجود، مع اختلاف أنواع العذاب. فالخلاصة: أن جر الإزار إن كان بغير قصد الخيلاء فله عذاب معين، وإن كان بقصد الخيلاء فإن العقوبة أدهى وأمر، والعذاب قد جاء به الوعيد للفريقين، نسأل الله العافية والسلامة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

شبكة طريق السلف   الشبكة الإسلامية

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1904 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2385 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1859 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2831 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1465 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦