الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الحقيقة والمجاز في صفات الله تعالى -5

هذا الموطن من أهم المواطن التي تبين منهج السلف في إثبات الصفات مع فهم معنى السياق الذي استعملت فيه

الحقيقة والمجاز في صفات الله تعالى -5
ياسر برهامي
الخميس ٠٣ نوفمبر ٢٠١٦ - ١١:٤٨ ص
1407

الحقيقة والمجاز في صفات الله تعالى (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عبدُه ورسولُه، ثم أما بعد..

هناك مثال صحيح لصرف ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو وصفه به المؤمنون -الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم- عن ظاهِرِه وحقيقته المفهومة منه إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة: الحديث القدسي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله عزوجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؛ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؛ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه؛ أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي"، فبإجماع المسلمين لايوصف الرب سبحانه بالمرض ولا بأنه يأكل ويستطعم، فإنه: (يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) (الأنعام:14)، (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (الشورى:19)، فهذا مجاز حذف المضاف، وهو مستعمل في لغة العرب، ودل عليه الدليل المتصل من قوله سبحانه في الحديث نفسه: (مرض عبدي فلان فلم تعده)، وقوله سبحانه: (استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه)، والمنفصل من قوله تعالى: (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)، وقوله: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(الروم:27)، فله كل صفات الكمال، وهو منزّه عن النقص، ومنه المرض والطعام والشراب والحاجة إلى الكسوة بالنص والإجماع، وهذا دليل سالِم من المعارض، والرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي بينه عن ربه -عزّ وجلّ-، بين أنه لم يُرِد إثبات المرض ولا الطعام ولا الكسوة لله رب العالمين، فمثل هذا لو سمي تأويلا وصرفا إلى المجاز -بالنسبة إلى أول الحديث- لما كان هناك محل للخلاف فيه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحِمَه الله تعالى-: ونحن نتكلم على صفة من الصفات، ونجعل الكلام فيها أنموذجا يحتذى عليه، ونعبر بصفة (اليد)، وقد قال تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" (المائدة:64)، وقال تعالى: "مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" (ص:75)، وقال تعالى: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ" (الزمر:67)، وقال تعالى: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" (الملك:26)، وقال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ" (يس:71)، وقد تواتر في السنة مجيء (اليد) في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فالمفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين مختصتين به، ذاتيتين له، كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السموات بيده اليمنى، وأنه " يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" (المائدة:64)، ومعنى بسطهما: بذل الجود، وسعة العطاء؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدّها، وتركه يكون ضما لليد إلى العنق، صار من الحقائق العرفية إذا قيل: هو مبسوط اليد؛ فهم منه يد حقيقية، وكان ظاهره الجود وعدم البخل، كما قال تعالى: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ" (الإسراء:29)، ويقولون: فلان جعد البنان وسبط البنان. انتهى كلامه.

وهذا الموطن من أهم المواطن التي تبين منهج السلف في إثبات الصفات مع فهم معنى السياق الذي استعملت فيه؛ فمعنى الإعطاء والجود ثابت بلا شك من قوله تعالى: " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" (المائدة: 64)، مع إثبات صفة اليدين حقيقة.

وكذا يستفاد من قوله تعالى: "إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ" (الليل: 20)، إثبات صفة الوجه، وأن المؤمن يخلص لله إرادته وقصده، ويرجو كذلك النظر لوجهه سبحانه في الآخرة.

وكذا يستفاد من قوله تعالى: "يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" (الفتح: 10)، إثبات اليد، وأن الله يؤيد المؤمنين ويقوّيهم، وأن البيعة مع رسوله -صلى الله عليه وسلم- بيعة معه سبحانه.

وكذا يستفاد من قوله تعالى: "تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا" (القمر: 14)، إثبات العينين لله سبحانه، وإثبات البصر والرعاية والعناية والحفظ.

وهكذا قوله تعالى: " يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ" (القلم: 42)، مع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فيَكشِف ربُّنا عن سَاقِهِ" -مُتَّفَقٌ عليه-، إثبات الساق، وإثبات وقوع شِدّة وأمر عظيم.

ومن احتج بما ورد عن السلف من إثبات هذه المعاني بأن السلف قد أوّلوا قد قال باطلا؛ فإن أحدًا ممن نقلت عنه هذه المعاني لم يقل: "لا يجوز أن نثبت لله يدين أو عينين أو ساقًا، ويجب صرفها عن حقيقتها لهذه المعاني؛ لأن اليد والساق جارحة .." ونحو هذا، بل أثبتوا الصفة، وأثبتوا المعنى المفهوم من السياق، ونحن إنما ننكر على من نفى الصفات وزعم أنها توهم نقصا أو تشبيهًا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة