السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدليل العقلي بين الإفراط والتفريط

إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي، والجزم بتقديم العقلي مطلقا فخطأ معلوم الفساد

الدليل العقلي بين الإفراط والتفريط
مركز سلف
الخميس ١٠ نوفمبر ٢٠١٦ - ١١:٤١ ص
3143

الدليل العقلي بين الإفراط والتفريط

كتبه/ مركز سلف للبحوث والدراسات

العقل في الاصطلاح العلمي له إطلاقات عدة:

_الإطلاق الأول: بمعنى الغريزة المدركة التي جعلها الله تعالى ميزة للإنسان على سائر الحيوان، وهي التي بفقدها يصير الإنسان في عداد المجانين، ويسقط بفقدها التكليف الشرعي عن الإنسان، وقد عد أبو الحارث المحاسبي هذا المعنى هو المعنى الحقيقي للعقل وما سواه مجاز. [مائية العقل وحقيقة معناه. ص 201].

 

_الإطلاق الثاني: يعبر بالعقل عن المعارف الفطرية، والعلوم الضرورية التي يشترك فيها العقلاء. كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، وأن الضدين لا يجتمعان. [درء التعارض بين العقل والنقل جز2ص 21].

الإطلاق الثالث: يطلق العقل على إدراك المعارف النظرية، وما يستفاد من التجارب الحسية، ويدخل في هذا ما أسماه المحاسبي :”فهم البيان: أي إصابة العقل للمعنى الصحيح لكل ما يسمعه ولكل ما يدركه بحواسه من ناحية العقل.[مائية العقل ص 202]

فالمعنيان الأولان للعقل فطريان يشترك فيهما جميع العقلاء ولا يقع التفاوت فيهما بينهم ويمثلان القدر من العقل الذي فضل الله به بنى آدم وكلفهم على أساسه. أما الإطلاق الثالث فهو مرادف للعلم عند بعض العلماء كالأصبهاني وهذا القدر من العقل يسمى فاقده غبيا أو جاهلا، وقد انقسم الناس إزاء استخدام العقل كأداة معرفية إلى طرفان وواسطة:

_الطرف الأول: طرف غلا في استخدام العقل وتمجيده، وجعله حاكما على الوحي مقدما عليه عند التعارض، وقد مثل هذا الطرف جمهور المتكلمين من الأشاعرة، والمعتزلة ،وغيرهم، بل جعلوه أصلا للوحي كما قال فخر الدين الرازي: “إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، ……’فإما أن يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردَا جميعا، وإما أن يقدم السمع وهو محال، لأن العقل أصل النقل’ فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذى هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا، فوجب تقديم العقل؛ ثم النقلُ إما أن يتأول؛ وإما أن يفوض.”[أساس التقديس ص /172 ]

فتبين من هذا أنهم يجعلون العقل وحده أصلا لمعرفة الله عز وجل، ويجعلون القرآن والسنة توابع له، كما صرح الرازي بذلك في كلامه الذى مر معنا، والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية؛ المستغنية بنفسها عما سواها، ثم غلوا في الأمر حتى نسبوا مخالفيهم من أهل السنة والحديث وغيرهم إلى الجهل والجمود، وقلة العقل، ويبررون هذا الإفراط في استخدام الأدلة العقلية، بأن النظر الكلامي أداة لكشف شبهات الملحدين، والرد على المعاندين من أهل الملل والنحل، وهذا ما لا يفي به الاقتصار على القرآن وحده.[ ينظر الأدلة العقلية والنقلية على أصول الاعتقاد ص.162]

الطرف الثاني: طرف فرّط في اعتبار العقل، وقد مثل هذا الاتجاه طوائف من المتصوفة، وبعض المنتسبين إلى السنة، فهؤلاء أهملوا النظر العقلي، ولم يحسنوا استخدامه، تغليبا لما عندهم من العلوم الضرورية، والمعارف اليقينية، التي نالوها بالرياضات، والكشوف، والإلهام، أو جمودا على ظواهر لا يعضدها الدليل. والمتصوفة يعطلون العقل؛ ويرون الأحوال العالية؛ والمقامات الرفيعة لا تنال إلا بترك العقل، ويقرون من الأمور ما يكذب به صريح العقل. [ينظر الفتاوى 3/ 338].

فجعلوا هؤلاء مصدر المعرفة هو الذوق، وهذا هو سر ترديدهم لأسطورتهم “من ذاق عرف”.

وكلا المسلكين مجاف للحق، فالأولون أخطؤوا حين جعلوا العقل حاكما على الوحي مقدما عليه، والحقيقة أن العقل أصل في العلم بالنقل لا في ثبوته، وذلك أنه إذا تعارض العقل والنقل فمرد هذا التعارض إلى أمرين :

_إما أن العقل غير صريح: فقد يعرض له ما يضعف إدراكه إما بسبب فساد في التصور أو في العلم.

_وإما أن النقل غير صحيح: فالنقل يعرض له الضعف من جهة الورود فيكون الناقل قد أخطأ في النقل إما بسبب كذبه أو وهمه أو تصحيفه.

ولا توجد صورة للتعارض خارجة عن هذين الأمرين مطلقا، حتى نحتاج فيها إلى تقديم العقل على النقل.

والمسلك الثاني: مسلك معطل للشرع، مخالف لمقاصده، فالشريعة أعلت من دور العقل، وجعلته مناط التكليف، وأمرت بالحفاظ عليه، وأي طريق في التعبد تلغيه أو تفسده فإلحاقها بالمسكرات أو المفسدات للعقل التي حرمت شرعا، أولى من جعلها طريقة صحيحة للتعبد لله عز وجل.

والوسط هو ما كان عليه السلف الصالح، من جمع بين الأدلة النقلية والعقلية، وعدم اعتقاد التعارض بينهما. “فهذا الإمام أحمد وسائر السلف، كانوا يستخدمون الأدلة العقلية في إثبات العقائد، وفقا لما ورد في القرآن، فكانوا يستخدمون قياس الأولى والأحرى والتنبيه، في باب النفي والإثبات، فمسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص، وبالإجماع، مسلك الاستدلال بالفطرة، والأقيسة العقلية الصحيحة، المتضمنة للأولى .”[بيان تلبيس الجهمية:5/83 ].

وممن بين الموقف الصحيح من الأدلة العقلية، الإمام ابن الوزير اليماني، حيث قال في معرض كلامه عن موقف السلف من الأدلة العقلية وطريقهم في تقرير العقيدة: “فهؤلاء كتابهم القرآن، وتفسيرهم الأخبار …. وهم لا يعنون بالرجوع إليهما نفي النظر، وترك العقل، والاستدلال به، وإنما ينكرون من علم النظر أمرين:

_أحدهما: القول بأن النظر فيما أمر الله تعالى بالنظر فيه، وجرت به عادة السلف، غير مفيد للعلم، إلا أن يرد الى ما ابتدع من طريق المتكلمين، بل هو _أي ما أمر الوحي بالنظر فيه_عندهم كاف شاف، وإن خالف طرائق المتكلمين.

_ثانيهما: أنهم ينكرون القول بتعين طرائق المتكلمين للمعرفة، وتجهيل من لم يعرفها وتكفيره. [العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبى القاسم 3/ 338]

وخلاصة القول أن المنهج الوسط في الاستدلال العقلي، هو منهج السلف الذى لا ينكر المعارف الضرورية، ويعتبر أن الدليل العقلي هو قسم من أقسام الأدلة الشرعية، فالقرآن قد سلك مسالك عقلية في تقرير العقيدة، كالقياس وضرب الأمثال، وغير ذلك، وفى الأدلة العقلية النقلية غنية عن طرائق المتكلمين، والعقل بمعانيه التي مرت معنا، لا يمكن أن يخالف النقل مطلقا، لكن طرائق المتكلمين واصطلاحاتهم هي التي حجبت عقولهم عن الوحي، فاعتقدوا التعارض فيما لا تعارض فيه، وكان الأولى بهم أن يحاكموا اصطلاحاتهم إلى الوحي وطرائقه في الاستدلال، لا أن يفعلوا العكس.”فإذا تعارض دليلان سمعيان، أو عقليان ، أو سمعي وعقلي، فإما أن يكونا قطعيين، وإما أن يكونا ظنيين ، وإما أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا .

فأما القطعيان فلا يمكن تعارضهما في الأقسام، لأن الدليل القطعي هو الذى يستلزم مدلوله قطعيا، ولو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين، وهذا لا يشك فيه أحد من العقلاء،وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا تعين تقديم القطعي سواء كان عقليا أو سمعيا ، وإن كانا ظنيين صرنا إلى الترجيح، ووجب تقديم الراجح منهما.

وهذا تقسيم راجح متفق على مضمونه بين العقلاء. فأما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي، والجزم بتقديم العقلي مطلقا فخطأ معلوم الفساد”[يراجع مختصر الصواعق المرسلة.ص 83]

‏إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة