دروس وعبر مِن قصة نبي الله موسى -عليه السلام- (4) محنة المؤمنين
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
مقدمة:
- إشارة إلى أحداث اليوم إجمالاً: حيث محنة المؤمنين بعد إعلان فرعون الحرب على
موسى -عليه السلام- وبني إسرائيل، ومحاولات نبي الله موسى -عليه السلام- معه ليتوب
إلى الله هو وقومه؛ فما كان منهم إلا العناد والاستكبار، وزيادة النكال بالمؤمنين؛
مما أدى إلى خروج بني إسرائيل بقيادة موسى -عليه السلام- مِن مصر فارين بدينهم إلى
أرض فلسطين، وذلك مِن خلال المشاهد التالية:
- تذكير بما سبق مِن انصراف موسى -عليه السلام-
يوم الزينة منتصرًا بآيات الله الشرعية والمعجزات الإلهية، ورجوع الفرعون مهزومًا
مخذولاَ مشغولاً بقتل السحرة بعد إيمانهم!
المشهد الأول:
أساليب فرعونية في مواجهة الدعوة
تمهيد: تتلخص هذه الأساليب في نوعين:
الأول: محاولات عقلية ساذجة لصرف الجماهير عن دعوة موسى
-عليه السلام- وتشويهها.
الثاني: إعمال القتل والاضطهاد في بني إسرائيل.
- الفرعون يستعمل المؤثرات المادية والشهوات
للتأثير على الجماهير: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا
تُبْصِرُونَ . أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ
يُبِينُ) (الزخرف:51-52).
- الفرعون يمعن في استخفافه بالعقول للتكذيب
بدعوة التوحيد: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ . أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى
إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ
سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي
تَبَابٍ) (غافر:36-37)، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26).
- آثار طاعة الفرعون تظهر على الفراعنة: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ
الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا
بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الأعراف:131)، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف:54).
- البطانة السيئة تخوِّف الفرعون مِن تنامي دعوة
موسى -عليه السلام- وزيادة أتباعه، والفرعون يعلن الحرب الدموية والقهر للمؤمنين: (وَقَالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف:127).
المشهد الثاني: موقف موسى -عليه السلام-
والمؤمنين:
- شدة الأذى والاضطهاد حتى يضطر المؤمنون إلى
التخفي بصلاتهم: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ
تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:87)، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يجمع أصحابه
في دار الأرقم للصلاة بعيدًا عن أعين المشركين.
- المؤمنون يشق عليهم زيادة العذاب وقتل الأولاد: (قَالُوا أُوذِينَا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) (الأعراف:129).
- موسى -عليه السلام- يصبرهم وينصحهم بالاستعانة
بالله، ويبشرهم بقرب الفرج فإنها سنة الله: (قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا
أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى
رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:128-129).
سؤال: لماذا يبتلي الله أولياءه وأحباءه؟!
الجواب مِن وجوه هي حكمة الابتلاء:
1- تصفية وتنقية للصف: (فَلَيَعْلَمَنَّ
اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:3)، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ
ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11).
2- تحمل المسئولية؛ استعدادًا لما سوف يلاقونه
عند ظهور دعوتهم: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
3- معرفة قدر هذا الدين العظيم الذي مِن أجله
يتحملون: قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:40)، وقال: (الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ
اللَّهِ الجَنَّةُ) (رواه
الترمذي، وصححه الألباني).
4- رفعة المؤمنين في الآخرة تصبرهم على المحن
والشدائد في سبيل دينهم: قال الله -تعالى-: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ
بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون:111)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
المشهد الثالث: ابتلاء الفراعنة لعلهم يرجعون:
- موسى وهارون -عليهما السلام- يدعوان على الفراعنة
غضبًا لله؛ ولئلا يغتر بهم غيرهم: (وَقَالَ مُوسَى
رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا
تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (يونس:88-89)، وقال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ
اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ) (متفق عليه).
- بداية البلاء بآيتين مِن بقية التسع: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف:130). "ويظهر أنهم كانوا لا يرون ذلك في بني
إسرائيل؛ مما يدل على تعلق الأمر بموسى -عليه السلام- ودعوته، ولكنهم لا يفقهون،
بل عاندوا وكذبوا".
- وبدلاً أن يتوبوا ازدادوا كفرًا وتكذيبًا: (فَلَوْلَا إِذْ
جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:43)، (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ
لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:132).
- اشتداد البلاء لعلهم يرجعون: قال الله -تعالى-: (فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ
آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) (الأعراف:133). "ولقد كان ذلك كله مِن باب إقامة الحجة
عليهم مِن إرسال الرسل، وإظهار الآيات، والترغيب والترهيب، ولكنهم كفروا
وكذبوا!".
- توبة كاذبة يخالطها الاستكبار ثم مِن بعدها
نكوث وانتكاس!: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا
مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الأعراف:134)، (وَقَالُوا يَا
أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا
لَمُهْتَدُونَ) (الزخرف:49)، (فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى? أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ) (الأعراف:135).
- بل ازدادوا في العناد والكفران: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26). "ولعله في هذه المدة قد آمن بعض آل فرعون
"زوجه - ابن عمه - الماشطة"؛ مما زاده غضبًا وثورانًا".
المشهد الرابع: الأمر بالهجرة والخروج عن أرض مصر:
- الأمر بالرحيل إلى أرض فلسطين ليلاً فرارًا
بالدين والنفس: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي
إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (الشعراء:52)، (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى
إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ
يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الْمُسْرِفِينَ) (يونس:83).
- الهجرة واجبة إذا عجز المؤمن عن إقامة دينه: (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ
قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:97). "نزلتْ في قومٍ أسلموا في مكة وكتموا
إسلامهم، وامتنعوا عن الهجرة؛ إيثارًا لأموالهم وأولادهم، مع قدرتهم على
الهجرة".
وقفة وعبرة وتوضيح: توسعَ الناس في لفظ الهجرة
حتى صار مَن يخرج مِن بلاد الإسلام إلى بلاد الكفار يعد مهاجرًا!: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنا بَرِيءٌ مِنْ كلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أظْهُرِ
المُشْرِكِينَ لَا تَرَاءَى نارُهُما) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
خاتمة:
شرع بنو إسرائيل في التجهز للهجرة، وانطلقوا بعد
ذلك في ليلة واحدة وهم نحو ستمائة ألف أو يزيدون -على قول بعض المفسرين-، وسرعان ما
وصل الخبر إلى فرعون؛ فأمر بجمع جنوده مِن جميع أنحاء مصر لطلب بني إسرائيل،
وكانوا يزيدون عن ألف ألف أو أكثر! والله أعلم: قال الله -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ . فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ
قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)
(الشعراء:52-56).
فماذا حدث في هذا اللقاء؟!
هذا ما سيأتي عليه الحديث في المرة القادمة -إن
شاء الله تعالى-.
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com