الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وثيقة المدينة .. ملامح ومعالم (8)

كان لليهود بيوت لتعليم دينهم ومُدارَسَتِه

وثيقة المدينة .. ملامح ومعالم (8)
ياسر برهامي
الخميس ١٦ فبراير ٢٠١٧ - ١٧:٤٢ م
1444

وثيقة المدينة .. ملامح ومعالم (8)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أشرنا في المقال السابق إلى حديث أبي داوود عن ابن عمر قال: "أَتَى نَفَرٌ مِنْ يَهُودٍ، فَدَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْقُفِّ -وهو اسم وادٍ بالمدينة- فَأَتَاهُمْ فِي بَيْتِ الْمِدْرَاسِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ: إِنَّ رَجُلًا مِنَّا زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ، فَوَضَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: (بِالتَّوْرَاةِ)، فَأُتِيَ بِهَا، فَنَزَعَ الْوِسَادَةَ مِنْ تَحْتِهِ، فَوَضَعَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: (آمَنْتُ بِكِ وَبِمَنْ أَنْزَلَكِ) ثُمَّ قَالَ: (ائْتُونِي بِأَعْلَمِكُمْ)، فَأُتِيَ بِفَتًى شَابٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الرَّجْمِ. وذكر الحديث إلى آخره، وإن كان فيه مقالٌ إلا أن عموم القرآن وبقية الأحاديث تشهد لصحة معناه، وحَسّنه الألباني في "صحيح أبي داوود".

وذكرنا أن لنا فيه وقفات..

الأولى: أن الحديث يدل على أن اليهود كان لهم بيوت لتعليم دينهم ومُدارَسَتِه لأتباعهم ولأولادهم، وأنهم لم يكونوا يُمنَعون من ذلك، وعلى هذا؛ يصح لأهل الذِّمَّةِ والمُعاهَدين أن يخصِّصوا في بيوتهم -أو ما يملكونه- مدارس خاصة بهم، يُعَلِّمون فيها أتباعَهم دينَهم، وأن ذلك ليس إقرارًا من المسلمين بالكُفر، ولا رضىً به، بل هذا من الأمور التي يصح العهد والصُلح عليها، مع الاهتمام بدعوتهم إلى الإسلام، واستحباب الذهاب إليهم في مَدارِسِهم ومَعَاهِدهم ومُناظَرَتِهم في دينهم، ودعوتهم إلى الإسلام، ومناشدتهم بالله أن ماجاء به الأنبياء هو الحق الذي بُعِثَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا متكرر في مواضع من السُنّة.

الثانية: قال القرطبي في تفسير قوله تعالى "فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ": {هذا تخيير من الله تعالى; ذكره القشيري; وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادَعة لا أهل ذمة; فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قَدِمَ المدينة وادَع اليهود، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا.

فأما أهل الذمة، فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟

قولان للشافعي، وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم. قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي، واختلفوا في الذميين; فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مُخَيَّر; روي ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزِّنا; فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حُدَّ ولا حَدَّ عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حَدَّ عليهما; وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما، وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال: يُجلَدان ولا يُرجَمان، وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا. قال ابن خويز منداد: ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم.

فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام، وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم; لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم; ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا; ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارًا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات; لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين.

وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات; لأن فيها وجهًا من المظالم وقطع الفساد. والله أعلم.

وفي الآية قول ثان: وهو ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ" وأن على الحاكم أن يحكم بينهم; وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم، وروي عن عكرمة أنه قال: "فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" نسختها آية أخرى "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ"، وقال مجاهد: لم ينسخ من "المائدة" إلا آيتان; قوله: "فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" نسختها "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ"، وقوله: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ" نسختها "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ".

وقال الزهري: مضت السُنّة أن يُرَدّ أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله. قال السمرقندي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة إنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا، وقال النحاس في "الناسخ والمنسوخ" له: قوله تعالى "فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" منسوخ; لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله -عزّ وجلّ- "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ". وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي; وهو الصحيح من قول الشافعي; قال في كتاب الجزية: ولا خيار له إذا تحاكموا إليه; لقوله عزّ وجلّ: "حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ". قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات; لأنه إذا كان معنى قوله: "وَهُمْ صَاغِرُونَ" أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يُردّوا إلى أحكامهم; فإذا وجب هذا فالآية منسوخة، وهو أيضًا قول الكوفيين أبي حنيفة وزُفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يُعرِض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم.

وقال الباقون: يحكم، فثبت أن قول أكثر العلماء إن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس; ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة; لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيبٌ عند الجماعة، وألا يُعرِض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركًا فرضًا، فاعِلًا ما لا يحل ولا يسعه.

قال النحاس: ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر; منهم من يقول: على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدًا من حدود الله -عزّ وجلّ- أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه، ويحتج بأن قول الله -عزّ وجلّ- "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم" يحتمل أمرين: أحدهما: وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك. والآخر: وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك -إذا علمت ذلك منهم-.

قالوا: فوجدنا في كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا; فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ"، وأما ما في السُنّة فحديث البراء بن عازب قال: مُرَّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيهودي قد جُلِد وحُمِّم فقال: أهكذا حد الزاني عندكم؟ فقالوا: نعم. فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: سألتك بالله أهكذا حد الزاني فيكم؟ فقال: لا. الحديث، وقد تقدم.

قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث.

فإن قال قائل: ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم-; قيل له: ليس في حديث مالك أيضًا أن اللذَين زنيا رَضِيا بالحكم، وقد رجمهما النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قال أبو عمر بن عبد البر: لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج; لأن في درج الحديث تفسير قوله عزّ وجلّ: "يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا" يقولون: إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حَكَّموه، وذلك بَيِّنٌ في حديث ابن عمر وغيره.

فإن قال قائلٌ: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حَكَّما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا رضيا بحكمه، قيل له: حد الزاني حقٌ من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته. ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والله أعلم.

قوله تعالى: "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ"..

روى النسائي عن ابن عباس قال: كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قَتَل رجلٌ من قريظة رجلًا من النضير قُتِل به، وإذا قَتَل رجلٌ من النضير رجلًا من قريظة ودى مائة وسق من تمر; فلما بُعِث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَتَل رجلٌ من النضير رجلًا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله; فقالوا: بيننا وبينكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلت: "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ"، "النَّفْسُ بالنَّفْسِ"، ونزلت: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} انتهى كلامه.

وهذا دليل واضح على تفرقة أهل العلم بين الذِمّيين والمُعاهَدين، ثم اختلافهم في الذِمّيين، هل يلزم الحكم بينهم في جميع ما اختصموا فيه وما وقع منهم؟ والصحيح أن ما يعم به الفساد بينهم أو بين المسلمين يَلزم فيه الحكم بالشرع، وهو من ضمن شروط عقد الذمة، وهو الصَّغَار الذي نص عليه القرآن، والذي فَسّره الشافعي -رحمه الله- بالتزام أحكام الشريعة، وأما ما لا يَعُمّ فيه الفساد -كأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية- فلا يلزمنا إلزامهم به، بل إذا تحاكموا إلينا جاز لنا الإعراض عنهم وجاز لنا الحكم بالشريعة، وهذا على أن الآية غير منسوخة، وهو الصحيح، وأما على القول بالنسخ فيلزم الحكم ولا يجوز الإعراض.

وعلى أي حال فالمُعاهَدون يصح لنا أن نترك إلزامهم فيه بالتحاكم إلى شريعتنا في شئونهم الخاصة وما لا يَعُمّ فساده، أما ما يَعُمّ فساده فطالما كانوا في سلطان الدولة الإسلامية وجب علينا الحكم فيهم بالشريعة.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة