الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

نحن فقط أمة الإسناد -ولله الحمد-

نبذة عن تفاني وجهود أهل العلم والمحدثين

نحن فقط أمة الإسناد -ولله الحمد-
جابر عبد الوهاب
الأحد ٠٥ مارس ٢٠١٧ - ١٣:٤٧ م
1157

نحن فقط أمة الإسناد -ولله الحمد-

كتبه/ جابر عبد الوهاب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن بعض العلمانيين والكارهين للسُّنة يطعنون -إلى الآن- في صحة الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا سيما الأحاديث الواردة في صحيحي البخاري ومسلم، وهكذا كل حديث صحيح الإسناد والمتن، وهؤلاء الفئة الضالة يجهلون أو يتجاهلون الجهود الجبارة التي بذلها أئمة وعلماء الحديث في حفظ أحاديث نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، حتى أصبح هناك علم مستقل لمعرفة الحديث الصحيح مِن سقيمه، يسمَّى "علم الحديث"، ويتفرع عن هذا العلم علوم أخرى: كعلم مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وعلم العلل، وغير ذلك؛ حماية لجناب ما قاله الصادق المصدوق الناطق بالوحي -صلى الله عليه وسلم-.

ثم يأتي جاهل متعالم ليهدر هذه الجهود العظيمة التي لم تسبق أمةٌ أمةَ الإسلام في هذا المضمار، ولذلك نقول: نحن فقط أمة الإسناد -ولله الحمد-، ويجدر بنا أولاً أن نعرف معنى الإسناد.

الإسناد هو: حكاية طريق المتن كما قال ابن حجر -رحمه الله- في نزهة النظر، بمعنى أنه عبارة عن سلسلة الرواة الذين تحملوا الحديث واحدًا عن الآخر حتى وصلوا به إلى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-.

ثانيًا: نشأة علم الإسناد:

روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، واللفظ له، والترمذي في العلل، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" وغيرهم، عن ابن سيرين -رحمه الله- قال: "لم يكونوا يسألون عن السند؛ لعدالة الصحابة، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم". والمقصود بالفتنة هنا: لما قُتِل عثمان -رضي الله عنه- أمير البررة، وقتيل الفجرة، وجدَ أعداء الإسلام -وعلى رأسهم ابن سبأ اليهودي الذي أسلم نفاقًا- أرضًا خصبة ينفثون فيها سمومهم في قلب هذه الأمة بالأكاذيب والأراجيف، ووضع الأحاديث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الله -تعالى- قيض لهذه الأمة علماء جهابذة يذبون عن سُنة نبيهم ويفرِّقون بيْن الغث والسمين، وبين الصحيح الثابت وبين المكذوب والموضوع، وهذا مِن فضل الله -تعالى- على هذه الأمة.

وعلم الإسناد هو: أصل علوم الإسلام، ومدار ثبوت العقيدة والشريعة بعد القرآن العظيم؛ به حفظ الله -تعالى- دينه مِن التحريف والتبديل، وصانه مِن الزيادة والنقصان فيه، فبقي غضًّا طريًّا كأنه الساعة نزل؛ لأن السُّنة مِن الذكر، وقد تكفل الله بحفظه، فقال -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

قال الحاكم -رحمه الله-: "لولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له -يقصد أئمة وجهابذة الحديث- وكثرة مواظبتهم على حفظه لدَرَسَ -أي بلي وتلاشى-، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترًا -أي مقطوعة-، مستأصلة" (معرفة علوم الحديث).

وقال ابن الصلاح -رحمه الله-: "أصل الإسناد خصيصة فاضلة مِن خصائص هذه الأمة، وسُنة بالغة مِن السنن المؤكدة" (علوم الحديث).

وقال أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي: "إن الله اختص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها مَن قبلها مِن الأمم: الإسناد - الأنساب - الإعراب" (المواهب اللدنية).

ولابن حزم -رحمه الله- في بيان هذه الخصيصة بحث نفيس مفصل اختصره السيوطي، فقال: "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الاتصال -أي السند- خص الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثيرٍ مِن اليهود، لكن لا يقربون فيه مِن موسى -عليه السلام- قربنا مِن محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبيْن موسى -عليه السلام- أكثر مِن ثلاثين عصر (في أزيد مِن ألف وخمسمائة عام)، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه.

قال: وأما النصارى فليس عندهم مِن صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق فقط، وأما النقل بالطريقة المشتملة على كذب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى.

قال: وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن لليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبي أصلاً، ولا إلى تابعي له، ولا يمكن للنصارى أن يصلوا إلى شمعون وبولس" (تدريب الراوي مع زيادة ما بيْن القوسين مِن كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم -رحمه الله-).

وقفة: ولم تكن هذه المزية مطلقة للأمة الإسلامية، بل اختص بها أهل السُّنة والجماعة دون الرافضة وغيرهم مِن أهل البدع.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الإسناد مِن خصائص الأمة الإسلامية، ثم هو في الإسلام مِن خصائص أهل السُّنة، والرافضة مِن أقل الناس عناية به، إذ كانوا لا يصدقون إلا بما وافق أهواءهم، وعلامة كذبه أنه يخالف هواهم (أي الحديث إذا خالف بدعتهم فإنه يكون مكذوبًا أو موضوعًا، هذا هو الحد عندهم)؛ ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء يكتبون ما لهم" (اهـ مِن منهاج السُّنة إلا ما بين القوسين).

ثالثًا: ماهية الرواة الذين يُروى عنهم:

هل يُقبل راوي الحديث الذي يكون في سلسلة الإسناد هكذا بدون ضوابط؟!

قال الإمام محمد بن حاتم بن المظفر -رحمه الله-: "وهذه الأمة إنما تأخذ مِن الثقة المعروف في زمانه المشهور بالعلم والصدق والأمانة، عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمَن فوقه ممن كان أقل مجالسة، ثم يكتبون الحديث مِن عشرين وجهًا وأكثر حتى يهذبوه مِن الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدًّا؛ فهذا مِن أعظم نعم الله -تعالى- على هذه الأمة، نستوزع الله شكر هذه النعمة، ونسأله التثبيت والتوفيق لما يقرب منه، ويزلف لديه، ويمسكنا بطاعته، إنه ولي حميد، فليس أحدٌ مِن أهل الحديث يحابي في الحديث أباه ولا أخاه ولا ولده" (اهـ بتصرف مِن شرف أصحاب الحديث).

وهناك نماذج كثيرة مذكورة في كتب التراجم مِن تضعيف، وربما تكذيب بعض العلماء لأقرب الناس إليهم؛ لأن الأمر كما قال ابن سيرين -رحمه الله-: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، وهذا الكلام الذي ذكره ابن المظفر آنفًا يجتمع فيه أكثر مِن فنٍ مِن فنون علم الحديث: كالجرح والتعديل، وعلم الرجال، وعلم العلل الذي هو مِن أصعب العلوم، والشواهد والمتابعات... وهذا في كل حديث. فاللهم لك الحمد.

وما ذكرته هنا نبذة عن تفاني وجهود أهل العلم والمحدثين؛ وإلا فمهما ذكرنا ما قدموا لدينهم مِن الحفظ والعناية لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلن نوفيهم حقهم -رضي الله عنهم ورحمهم-.

ثم يأتي بعد ذلك جهول حاقد، مبغض للسُّنة وأهلها، ويقول: نطرح جميع هذه الأحاديث، ونكتفي بالقرآن! ثم يأتي الدور على القرآن -يعني في مخيلته الواهية المقيتة- ثم يقول: نحكِّم عقولنا، ثم ينشرون الإلحاد والإباحية والحرية المطلقة، وينسلخ الناس عن دين ربهم... هكذا يخططون، ولن يكون هذا أبدًا ما دام في العلماء والدعاة وطلبة العلم والمسلمون المخلصون عين تطرف -بإذن الله -تعالى-.

وختامًا نقول لهؤلاء الحاقدين على مزايا الإسلام ومحاسنه:

عاب الإسناد أقــوام لا عـقـول لــهــم                           ومـا عــلـيـه إذ عــابــوا مــِـن ضــــرر

ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة                        إذا عــابــهــا مـَـن لـــيــس ذا بـــصـــر

وصلى الله على محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com