الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

همسات الوداع!

جبر الله قلوبكم بفراق رمضان... وتجاوز عما سلف وكان، مِن الذنوب والعصيان

همسات الوداع!
محمود الحفناوي الأنصاري
الخميس ٢٢ يونيو ٢٠١٧ - ١٣:٥٥ م
942

همسات الوداع!

كتبه/ محمود الحفناوي الأنصاري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

معاشر الصائمين... ها هو شهركم قد قرب رحيله، وأزف تحويله، فمع بداية هذا الأسبوع يودعنا هذا الضيفُ الكريم، شهر كثيرٌ خيره، عظيم بره، جزيلة بركته، فنسأل الله الذي يسر صيامه وقيامه لنا، أن يتقبله منا، وأن يجعله شاهدًا لنا لا علينا.

معاشر الصائمين... ونحن نودع شهرنا الكريم أكتب لكم: (همسات الوداع)، والعين تدمع، واليد ترجف عند كتابتها.

هذه همسات عشر نودع بها رمضان والليالي العشر، راجيًا مِن الله -تعالى- أن ينفعنا بها ويوم الحشر.

الهمسة الأولى تقول: أحسنوا وداع شهركم... ضاعفوا الاجتهاد في هذه الليالي؛ أكثِروا مِن الذكر، أكثروا مِن تلاوة القرآن، أكثروا مِن الصلاة، أكثروا مِن الصدقات، أكثروا مِن تفطير الصائمين، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها.

هذه بساتين الجنان قد تزينت، هذه نفحات الرحمن قد تنزّلت؛ فحري بالغافل أن يعاجِل، وجدير بالمقصِّر أن يشمِّر، وإن الجياد الأصيلة إذا قاربت الوصول جدت المسير.

الهمسة الثانية تقول: اطلبوا الليلةَ العظيمة؛ ليلةَ العتق والمباهاة، ليلةَ القرب والمناجاة "ليلةَ القدر"؛ ليلةَ نزول القرآن، ليلةَ الرحمة والغفران، ليلةٌ خير مِن ألف شهر، ليلةٌ مَن قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم مِن ذنبه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:  (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، فيا حسرة مَن فاتته هذه الليلة في سنواته الماضية، ويا أسفا على مَن لم يجتهد فيها في الليالي القادمة!

فما بقي مِن الليالي الوترية غير ليلة واحدة؛ فاجتهدوا عباد الله.

الهمسة الثالثة تقول: لا تتركوني مِن دون القيام، اتركوا لذيذ النوم، وجحيم الكسل، وانصبوا أقدامكم، وارفعوا هممكم، وادفِنوا فتوركم، وكونوا ممن قال الله فيهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16).

يـا أيـهـا الــراقـد كـم تــرقــد                          قم يا حبيبي قد دنا الـمـوعــد

وخـذ مِـن الـلـيــل وسـاعـاته                         حــظـًّـا إذا ما هـجــع الـرُّقَــدُ

الهمسة الرابعة تقول: ارفعوا عنكم التنازع والخصام؛ فإنه سببٌ في منع الخير وخفائه، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: (خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ) (رواه البخاري).

الهمسة الخامسة تقول: استغلوا ما بقي مِن شهركم، فقد ذهب معظمه، ولا يعلم أحدكم: هل سيصوم هذا الشهر في أعوامه القادمة أم سيكون في حفرة مظلمة مِن فوقه تراب، ومِن تحته تراب، وعن يمينه تراب، وعن شماله تراب؛ ليس له أنيس ولا جليس إلا عمله الصالح؟!

الهمسة السادسة تقول: لا تفسدوا صفو الليالي ببعض المعكرات التي تفسد الجنان، وتجلبُ الأحزان، وتؤنب الضمائر، وتقلق الخواطر؛ فلقد اعتكف بعض الناس في هذه الليالي في الأسواق ومحلاتها، وتهافتوا على المراكز التجارية ومسابقاتِها، وتسمروا أمام القنوات وشاشاتها!

فيا لله... ماذا قدَّموا للآخرة؟!

ماذا قدموا للقبور وظلماتها، والقيامة وعرصاتها، والنار ودركاتها، والجنة ودرجاتها؟!

الهمسة السابعة تقول: القبول... القبول، فقد كان السلف -رحمهم الله- يجتهدون في إتمام العمل وإكماله، فإذا عملوا كانت قلوبهم وجلة خائفة مِن أن يرد عليهم عملهم، كانوا كما قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60).

ومَن هم أهل القبول؟ إنهم الذين وصفهم الله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27)، جعلنا الله وإياكم منهم.

ويا ليت شعري... مَن المقبول منا فنهنيه، ومَن المطرود منا فنعزيه!

فيا أيها المقبول هنيئًا لك بقبول الله وإحسانه، ورحمته وغفرانه، وثوابه ورضوانه... ويا أيها المطرود بعصيانه، وغفلته وخسرانه، لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانه.

يا هذا... متى يُغفَر لمن لا يُغفَر له في هذا الشهر؟ ومتى يُقبل مَن رُد في ليلة القدر؟!

متى يتوب مَن لم يتب في رمضان؟! ومتى يصلح مَن فيه مِن الجهل والغفلة مرضان؟!

فتب إلى ربك، واستدرك ما بقي مِن شهرك، وابكِ على خطيئتك؛ لعلك تلحق بركب المقبولين.

الهمسة الثامنة تقول: إذا مدَّ الله في أعماركم، وأدركتم يوم عيدكم، فاشكروا الله بإكمال عدة شهركم؛ كبِّروا ربكم، وأدوا زكاة فطركم، واخرجوا يوم عيدكم فرحين بفضل الله ورحمته، شاكرين لنعمته، ومجتنبين ما يسخطه، واعلموا أن للعيد سننًا وآدابًا، يحسن ذكرها والعمل بها.

فمن سنن العيد:

1- التكبير: ابتداءً مِن دخول ليلة العيد وانتهاءً بصلاة العيد، قال الله -تعالى-: -: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185). وصيغة التكبير أن يقول: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد".

يجهر به الرجال في المجامع والأسواق والبيوت، وتُسرّ به النساء؛ لأنهن مأمورات بالستر والحشمة.

2- الاغتسال لصلاة العيد، ولبس أحسن الثياب والتطيب.

3- الأكل قبْل الخروج مِن المنزل على تمرات أو غيرها قبْل الذهاب لصلاة العيد، ويسن أن يأكلهن وترًا.

4- الجهر في التكبير في الذهاب إلى صلاة العيد.

5- الذهاب مِن طريق إلى المصلى، والعودة مِن طريق آخر.

6- صلاة العيد في المصلى؛ إذ هي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والصلاة في المسجد جائزة.

7- اصطحاب النساء والأطفال والصبيان دون استثناء، كما كانت سنته -صلى الله عليه وسلم-.

8- الاستماع إلى خطبة العيد.

9- التهنئة بالعيد: فعن جبير بن نفير قال: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا التقوا يوم العيد، يقول بعضهم لبعض: تقبل منا ومنك". قال الحافظ: "إسناده حسن".

فاتقوا الله ربكم... وسلوه مِن فضله في ختام شهركم، و(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:21).

الهمسة التاسعة تقول: إياكم أن تكونوا كالتي نقضت غزلها مِن بعد قوةٍ أنكاثًا؛ بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، فإذا انسلخ رمضان كان عيدهم إضاعة للواجبات، ونوم عن الصلوات، ومقارفة للمعاصي والمنكرات.

يا هؤلاء... إن كان الله تقبل منكم؛ فليس هذا بفعل الشاكرين! وإن كان الله لم يتقبل منكم؛ فليس هذا بفعل الخائفين.

يا هؤلاء... ليس العيد لمَن لبس الجديد، إنما العيد لمَن خاف يوم الوعيد.

عباد الله... كم هي المعاصي والمنكرات التي يقع فيها المسلمون في العيد، فمنها: إضاعة الصلوات، وشرب المسكرات والمخدرات، والعكوف على القنوات "الفضائحيات!"، ومنها: تزيُّن بعض الرجال بحلق اللحى؛ إذ الواجب إعفاؤها في كل وقت. ومنها: الإسراف في بذل الأموال الطائلة في المفرقعات والألعاب النارية دون جدوى، وحري أن تصرف هذه المبالغ على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وما أكثرهم، وما أحوجهم!

ومنها: خروج بعض النساء متبرجات بزينة "متنقبات أو سافرات"، ومِن المعلوم أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الرجال متبرجة متزينة متعطرة؛ حتى لا تحصل الفتنة منها وبها, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).

وعلى الرجل المسلم أن يَحذر مِن الاختلاط المحرم بيْن الرجال والنساء، ومصافحة المرأة الأجنبية، فعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لاَ تَحِلُّ لَهُ) (أخرجه الطبراني، وصححه الألباني).

الهمسة العاشرة: هذه همسة الوداع الأخيرة تقول: جبر الله قلوبكم بفراق رمضان... وتجاوز عما سلف وكان، مِن الذنوب والعصيان.

ترحلت يا شهر الصيام بصومـنا                     وقــد كـنـتَ أنــوارًا بـكـل مـكـان

لـئـن فـنـيـت أيامك الـزهر بغـتة                     فـما الحزن مِن قلبي عليك بـفان

عـليـك سـلام الله كن شاهـدًا لـنا                     بـخـيـر رعـاك الـلـه مِن رمضان

إن القلب ليحزن، والعين لتدمع، ونحن نودع هذا الشهر الكريم، الذي فيه المساجد تُعمَّر، والآيات تُذكر، والقلوب تجبر، والذنوب تغفر.

فيا شهرنا... أتراك تعود بعدها إلينا؟ أو يدركنا الموت فلا تؤول إلينا؟

مساجدنا فيك معمورة، ومصابحنا فيك مشهورة، فالآن تنطفئ المصابيح، وتنقطع التراويح، ونرجع إلى العادة، ونفارق شهر العبادة.

شهرَ رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم مِن ألم الفراق تشقق.

عسى وقفةٌ للوداع تطفئ مِن نار الشوق ما أحرق.

عسى ساعةُ توبة وإقلاع ترفو مِن الصيام ما تخرق.

عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يَلحق.

عسى أسيرُ الأوزار يُطلق.

عسى مَن استوجب النار يُعتق.

عسى وعسى مِن قبْل يوم التفرق                   إلى كل ما نرجو مِن الخير نلتقـي

فـيُجـبـَر مـكـسـور ويُـقـبَـل تـائـب                    ويُعتـَق خـطاء ويُسعَـد مَن شـقـي

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد.

اللهم اجعل هذا الشهر شاهدًا لنا، وحجة لنا لا حجة علينا، اللهم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في مثله فأحسن عملنا فيه، وإن قضيت بقطع آجالنا فأحسن الخلافة على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا، وعمنا برحمتك وغفرانك، واجعل الموعد بحبوح جنتك ورضوانك.

والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة