الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

(فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)

كم مِن معاصٍ تُرتكب، وتصدّ كثيرًا مِن الناس عن ديننا الحق

(فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)
عصام حسنين
الاثنين ٣١ يوليو ٢٠١٧ - ٠٨:٠٧ ص
1145

(فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)

كتبه/ عصام حسنين 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن نور القرآن الذي يجب على كل مسلم أن يستنير به، وأن يتبعه، قوله -تعالى-: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:94).

اللغويات:

(أَيْمَانَكُمْ): جمع يمين، وهو الحلف. (دَخَلًا): خداعًا ومكرًا. (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا): تقول العرب لكل مبتلى بعد عافية، أو ساقط في ورطة: "زلَّتْ قدمه"، وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم؛ لأن القدَم إذا زلتْ؛ نقلت الإنسان مِن حال خير إلى حال شر! (تفسير القرطبي).

(السُّوءَ): ما يسوء الإنسان. (بِمَا صَدَدْتُمْ): الباء سببية، أي: تذوقوا ما يسوؤكم؛ بسبب صدكم عن سبيل الله. (سَبِيلِ اللَّهِ): أي دينه القويم.

التفسير:

(وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ): كررها تأكيدًا. (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا): مبالغة في النهي؛ لعِظم موقعه في الدين، وكثرة تردده واستعماله في معاملات الناس، أي: لا تستخدموا الحلف وسيلة للغش والخداع، وأكل أموال الناس بالباطل؛ فتصدون الناس بذلك عن سبيل الله -تعالى-؛ لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبقَ له وثوق بالدين؛ فانصدّ عن الدخول في الإسلام؛ لهذا حذّر الله -تعالى- عباده مِن ذلك‘ ورتَّب عليه ثلاث عقوبات.

الأولى: الميل عن الاستقامة، والانتقال مِن حال الخير إلى حال الشر.

الثانية: يعاقب بنقيض قصده؛ فيذوق ما يسوؤه لا ما يُسعده بظنه.

الثالثة: العذاب العظيم في الآخرة.

وكل ذلك (بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). نعوذ بالله -تعالى-. (راجع تفسير ابن كثير - تفسير القرطبي - تفسير الجزائري).

- وقال الله -تعالى- في سورة النحل أيضًا: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (النحل:92).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي تحلفون للناس ولو كانوا أكثر منكم؛ ليطمئنوا إليكم؛ فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم؛ فنهى الله عن ذلك؛ لينبه بالأدنى على الأعلى، إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه؛ فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى" (تفسير ابن كثير).

الله أكبر! ما أعظم هذا الدين!

وما أجلّ وأحسن شرائعه!

- ومِن أعجب المواقف التطبيقية للوفاء وعدم الغدر "يوم الحديبية": حين جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو -رضي الله عنهما- يرسف في قيوده، وكان مستضعفًا بمكة، وألقى بنفسه بيْن المسلمين؛ لكن بعد انقضاء المعاهدة، فلما رأى سهيل ابنه؛ أخذه، وقال: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ لُجَّتِ -أي وجبتْ- الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا. قَالَ: (صَدَقْتَ). فَقَامَ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ، قَالَ: وَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي. قَالَ: فَزَادَ النَّاسُ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ) (رواه أحمد بسندٍ حسن).

- وموقف معاوية -رضي الله عنه- يوم أن خرج بجيشه إلى أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد؛ فأراد أن يدنو منهم؛ فإذا انقضى أمد المعاهدة غزاهم، فجاءه عمرو بن عنبسة -رضي لله عنه- على فرسه وهو يقول: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَفَاءٌ لَا غَدَرَ، فَنَظَرُوا، فَإِذَا عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

فماذا فعل معاوية -رضي الله عنه-؟

رجع بالجيش!

- أخي المسلم الحبيب... نحن في حاجةٍ ماسةٍ لهذه الأخلاق العظيمة في معاملتنا مع جميع الناس؛ مسلمهم وكافرهم، فما أنجحها وأنجعها مِن دعوةٍ صامتةٍ نرضي بها ربنا -تعالى-، وننوي بها أن يهدي الله -تعالى- لدينه مَن شاء مِن عباده!

- فالواقع مرٌّ أليم؛ فكم مِن معاصٍ تُرتكب، وتصدّ كثيرًا مِن الناس عن ديننا الحق؛ بسبب غدرٍ بعد عهدٍ، أو خيانةٍ بعد وعدٍ أو غشٍّ بعد يمينٍ مِن أناسٍ ظاهرهم الصلاح؛ فضلًا عن غيرهم!

- فيا أخي... احذر أن يُعصى الله بسببك؛ فيُقال: فلان (الشيخ) يفعل ما ينكره عليَّ، وفلانة (المحجبة) تفعل ما تنكره عليَّ!

- عن غسان بن المفضل، قال: "سمعتُ مَن يذكر أن الربيع بن خثيم -مِن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه- كان بالأهواز ومعه صاحب له، فنظرت إليه امرأة فتعرضت له؛ فدعته إلى نفسها! فبكى، فقال له صاحبه: ما يبكيك؟ قال: إنها لم تطمع في شيخين إلا رأت شيوخًا مثلنا" (حلية الأولياء 2/ 116).

نعم، كم منا سبب في معصية الله، وفي صدٍّ عن الالتزام بالدين أو الدخول فيه.

فالله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً