(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ) (16) تكملة لبعض أحكام عقد الأمان (7)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
فنستكمل ما ورد في أحكام الأمان في المذاهب
المختلفة؛ وكنا توقفنا في المقال السابق عند شروط المُؤَمِّن.
قالوا في الشرط الثاني مِن شروط المُؤَمِّن:
"العقل: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
أَمَانُ الْمَجْنُونِ؛ لأِنَّ الْعَقْل شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَلأِنَّ
كَلاَمَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ
يَصِحُّ أَمَانُ الطِّفْل، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ إِذَا كَانَ لاَ
يَعْقِل الإْسْلاَمَ قِيَاسًا عَلَى الْمَجْنُونِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا يَعْقِل
الإْسْلاَمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَنِ الْقِتَال، فَذَهَبَ جُمْهُورُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَمَانُهُ؛
لأِنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الأْمَانِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ،
وَبِالْكُفْرِ قُوَّةٌ، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ وَلاَ يُوقَفُ عَلَيْهَا
إِلاَّ بِالتَّأَمُّل وَالنَّظَرِ، وَلاَ يُوجَدُ ذَلِكَ مِنَ الصَّبِيِّ،
وَلاِشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَلأِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْعُقُودَ،
وَالأْمَانُ عَقْدٌ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَعْقِدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَفِي
حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلأِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَطَلاَقِهِ
وَعِتَاقِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ
وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ، لأِنَّ أَهْلِيَّةَ الأْمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
أَهْلِيَّةِ الإْيمَانِ، وَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَعْقِل الإْسْلاَمَ
مِنْ أَهْل الإْيمَانِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْل الأْمَانِ كَالْبَالِغِ، وَإِنْ
كَانَ مَأْذُونًا فِي الْقِتَال: فَالأْصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالاِتِّفَاقِ
بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ،
فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ خِلاَفٌ، قِيل: يَجُوزُ وَيَمْضِي، وَقِيل: لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءً،
وَيُخَيَّرُ فِيهِ الإْمَامُ إِنْ وَقَعَ: إِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ شَاءَ
رَدَّهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ أَمَانُ
الصَّبِيِّ وَفِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَجْهٌ كَتَدْبِيرِه.
وَمَنْ زَال عَقْلُهُ بِنَوْمٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ
إِغْمَاءٍ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ
غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لأِنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِهَا،
وَلأِنَّ كَلاَمَهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الاِخْتِيَارُ:
نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ
يَصِحُّ الأْمَانُ مِنْ مُكْرَهٍ؛ لأِنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ
حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالإْقْرَارِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: عَدَمُ الْخَوْفِ مِنَ
الْكَفَرَةِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ
الأْسِيرِ إِذَا عَقَدَهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ،
وَلأِنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ فَأَشْبَهَ غَيْرَ الأْسِيرِ، قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: وَكَذَلِكَ يَصِحُّ أَمَانُ الأْجِيرِ، وَالتَّاجِرِ فِي دَارِ
الْحَرْبِ. وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عَدَمَ جِوَازِ أَمَانِ
الأْسِيرِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: مَحَل
الْخِلاَفِ فِي الأْسِيرِ الْمُقَيَّدِ وَالْمَحْبُوسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مُكْرَهًا؛ لأِنَّهُ مَقْهُورٌ بِأَيْدِيهِمْ لاَ يَعْرِفُ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ،
وَلأِنَّ وَضْعَ الأْمَانِ أَنْ يَأْمَنَ الْمُؤَمَّنُ، وَلَيْسَ الأْسِيرُ
آمِنًا، وَأَمَّا أَسِيرُ الدَّارِ، وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِدَارِ الْكُفْرِ
الْمَمْنُوعُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا فَيَصِحُّ أَمَانُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ أَمَانُ مَنْ كَانَ مَقْهُورًا عِنْدَ الْكُفَّارِ كَالأْسِيرِ
وَالتَّاجِرِ فِيهِمْ، وَمَنْ أَسْلَمَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِيهِمْ؛ لأِنَّهُمْ
مَقْهُورُونَ عِنْدَهُمْ، فَلاَ يَكُونُونَ مِنْ أَهْل الْبَيَانِ، وَلاَ
يَخَافُهُمُ الْكُفَّارُ، وَالأْمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَل الْخَوْفِ، وَلأِنَّهُمْ
يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ، فَيُعْرَى الأْمَانُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَلأِنَّهُ لَوِ
انْفَتَحَ هَذَا الْبَابُ لاَنْسَدَّ بَابُ الْفَتْحِ؛ لأِنَّهُمْ كُلَّمَا
اشْتَدَّ الأْمْرُ عَلَيْهِمْ، لاَ يُخَلُّونَ عَنْ أَسِيرٍ أَوْ تَاجِرٍ
فَيَتَخَلَّصُونَ بِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: نُقِل فِي الْبَحْرِ عَنِ
الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَمَانُ الأْسِيرِ فِي حَقِّ بَاقِي
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، أَمَّا فِي
حَقِّهِ هُوَ فَصَحِيحٌ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّاجِرَ
الْمُسْتَأْمِنَ كَذَلِك.
أَمَانُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَمَانِ الْعَبْدِ
وَالْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أَوْلاً: "الْعَبْدُ":
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ-: (ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ،
يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ) (متفق عليه)، وَفَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ بِالْعَبْدِ، وَلِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
-رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-: "الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "يَجُوزُ
أَمَانُهُ"، وَلأِنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ.
وَزَادَ النَّوَوِيُّ: يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ
الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ كَافِرًا.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً، وَإِذَا أُمِّنَ فَيُخَيَّرُ الإْمَامُ
بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَرَدِّهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي
رِوَايَةٍ: لاَ يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ
يَأْذَنَ لَهُ مَوْلاَهُ فِي الْقِتَال؛ لأِنَّهُ مَحْجُورٌ عَنِ الْقِتَال فَلاَ
يَصِحُّ أَمَانُهُ؛ لأِنَّهُمْ لاَ يَخَافُونَهُ فَلَمْ يُلاَقِ الأْمَانُ
مَحَلَّهُ، بِخِلاَفِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَال؛ لأِنَّ الْخَوْفَ مِنْهُ
مُتَحَقِّقٌ، وَلأِنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، فَلاَ يُؤْمَنُ أَنَّ
يَنْظُرَ لَهُمْ تَقْدِيمَ مَصْلَحَتِهِمْ.
ثَانِيًا: "الْمَرْأَةُ":
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ
الذُّكُورَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الأْمَانِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ
الْمَرْأَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ) (متفق عليه)، وقوله: (يُجِيرُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ) (رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني)، وَلِمَا رُوِيَ: أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ رَسُول
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَزَوْجَةَ
أَبِي الْعَاصِ أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، وَأَجَازَ
رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَانَهَا؛ وَلأِنَّ
الْمَرْأَةَ لاَ تَعْجِزُ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى حَال الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَفِي قَوْل الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ أَمَانُ الْمَرْأَةِ ابْتِدَاءً، فَإِنْ أَمَّنَتْ نَظَرَ الإْمَامُ فِي
ذَلِكَ؛ فَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ.
وَنَصَّ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ فِي جِوَازِ
عَقَدِ الْمَرْأَةِ اسْتِقْلاَلاً وَجْهَانِ.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ:
أَرْجَحُهُمَا الْجَوَازُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ.
ثَالِثًا: "الْمَرِيضُ":
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
لِصِحَّةِ الأْمَانِ السَّلاَمَةُ عَنِ الْعَمَى وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ،
فَيَصِحُّ أَمَانُ الأْعْمَى وَالزَّمِنُ وَالْمَرِيضُ مَا دَامَ سَلِيمَ
الْعَقْل، لأِنَّ الأْصْل فِي صِحَّةِ الأْمَانِ صُدُورُهُ عَنْ رَأْيٍ وَنَظَرٍ
فِي الأْحْوَال الْخَفِيَّةِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ
لاَ تَقْدَحُ فِيهِ" (الموسوعة
الفقهية الكويتية).
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com