الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

المذهب العاطفي!

لابد مِن سدِّ منابع هذه الفتنة

المذهب العاطفي!
محمد جمال القاضي
الخميس ١٥ مارس ٢٠١٨ - ١٨:٠٢ م
1581

المذهب العاطفي!

كتبه/ محمد جمال القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالناس يختلفون في عقلياتهم وبيئاتهم التربوية، وفي نظرتهم لأمور الحياة اختلافًا كبيرًا، وهذا جعلهم يختلفون في فهم الدين وأدلته، وبالتالي في تقريراتهم الشرعية وترجيحاتهم في مسائله اختلافًا كبيرًا، وقد ينضبط هذا عند بعضهم فترى المذاهب المنضبطة بأصول الشريعة في الجملة والتي لا تشذ في أقوالها إلا في النادر، وبعض هذه المذاهب هي مذاهب منحرفة لا تتقيد في أصولها بضوابط الكتاب والسُّنة، وقواعد الشريعة العامة أو الخاصة؛ فتراها منحرفة ضالةً في أصولها وفروعها بدرجةٍ تمثـِّل خطرًا على الأمة.

ولسنا بصدد الوقوف على هذه المذاهب القديمة؛ إذ نحن اليوم نستقبل ميلاد مذهبٍ جديدٍ تحكمه أصول وقواعد أيضًا؛ عامةُ أهله مِن الشباب الممتلئ بحب الخير، لا نريد أن نتسرع في الحكم عليهم حتى نرى هذا المولود الجديد، وما هي معالمه؟ وهل أيامه الحالية تبعث فينا أملَ بقائه أم تنبئنا بأنه لن يعيش كثيرًا، وهل سيكون هذا الغلام بارًّا بأهله أم عاقًّا لهم؟!

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (الشورى:10)، (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء:59)، لنرَ كيف يفكِّر أحبابنا الشباب لنحكم على هذا الفكر؟ فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.

في الحقيقة هذا المذهب كما يبدو جليًّا مِن اسمه: "مذهب عاطفي"، والعاطفة المقصودة هنا هي عاطفة الحماسة، ولا نعني بها حماسة الشجاعة أو حماسة الرغبة في التغيير والنهوض، ولكن حماسة المحب الذي يطأ الزجاج المكسور بقدميه، ويحمل الجمر بيْن يديه دون أن يشعر بنزيف الدم المُنسال منه، ولا بعظامه التي انكشفت تحت لحمه مِن حريق الجمر، تؤزه عاطفته نحو هدفٍ هو في غالب الأمور سامٍ، لكن الطريق إليه وعرٌ، مزلةٌ خطر، ولكنه لا يأبه ويصر ألا يأبه! ويرى في استمرار سيره لبضع خطوات علامة على أنه سيصل، حتى ولو كانت سنن الحياة تقول خلاف ذلك، فمَن نزف جلَّ دمه لن يعيش أبدًا فضلًا عن أن يصل لغايته، والذي بدت عظام يده لن يمسك بهدفه ولو وصل إليه، والكسيح الأشل لن يكون فاعلًا في التغيير.

مَن ترك الأصول حُرم الوصول، ولكن أحبابنا هؤلاء، ظنوا أنهم سيضعون أصولًا جديدة تخترق حواجز الكون، وتكسر قواعد الطبيعة، فما المشكلة في أن نأخذ العظة مِن التاريخ، ولكن بطريقتنا، الحسن تنازل لمعاوية -رضي الله عنهما- عن الحكم، والحسين ثار على بني أمية، الحسين هو قدوتنا وهو مَن سنسير على خطاه، والحسن مخطئ، حتى ولو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدح الحسن لذلك، وحتى لو كان الصحابة نصحوا الحسين بألا يفعل!

لماذا لا يكون ابن الأشعث ومَن معه مِن التابعين قدوتنا في الخروج على الحجاج ومِن خلفه عبد الملك بن مروان؟! حتى لو كان ابن الأشعث فشل ومات مقتولًا طريدًا، وقتل معه جمع مِن أهل الفضل والعلم، وبقي الحجاج وزادت قوته، فلنمُت كما ماتوا ونقول كلمة حق في وجه سلطان جائر، حتى لو كانت كلمة الحق لن تغير؟ حتى لو كانت تضر قائلها ومَن وراءه! حتى لو كانت لن تغير شيئًا في الواقع، المطلوب أن تقول الكلمة حتى لو أدت لمفسدة أكبر، المفروض أن تقاتل كل يوم مَن لا تقدر عليه!

لماذا لا تكون بطلًا في وجه الغاصب المعتدي، حتى لو قتلك الغاصب المعتدي دون أن تنال منه أي شيء؟!

لم يكن موسى -عليه السلام- على حق حينما نهى الإسرائيلي عن قتال الفرعوني! لم يكن على حق حينما قال له: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (القصص:18)! قال القرطبي -رحمه الله-: "لأنه يشاد كل يوم مَن لا يقدر عليه".

هكذا لسان حالهم ولسان مقالهم إذا ألزمتهم الحجة أحيانًا، حتى إن المرء ليخاف إذا ناظرهم بالدليل أن يجحدوه انتصارًا لمذهبهم العاطفي الحماسي، وقد نصحني صادق ألا أذكر للشباب اليوم حال السلف مع حكامهم؛ لئلا يكفروا بالسلف، ومذهبهم ودينهم كله!

لسنا بصدد الكلام عن ولاية شرعية أو غير شرعية، ولا مساواة حاكم لا يدعي لنفسه الولاية الشرعية بخلفاء وولاة أمور شرعيين، ولا يلزم مِن التشبيه في وجهٍ مِن الوجوه المماثلة مِن كل الوجوه، ولكن أخذ الفائدة مِن اعتبار السلف لموازين المصالح والمفاسد، ولسنا أحرص منهم على الدين.

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للشاب الذي أراد الرخصة في الزنا: (أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟), قَالَ: "لَا، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ" (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فقال: لا، ومِن شبابنا اليوم مَن لو سألته: أترضاه لأختك؟! لقال: نعم! إنها ثورة في الفهم والتأصيل والاستنباط، وبالتالي يتولد عنها كائن غريب في السلوك والواقع العملي، أحدهم علَّق على صورة خلف ضابط جيش مكتوب عليها: "اسم فلسطين"، وأخرى على الجزيرة القطرية عليها اسم دولة الاحتلال: "إسرائيل"، فقال: "هذا الفارق بيْن الواقع المر، والخداع وتغييب العقول"، هو بداية منحاز للجزيرة وضد الجيش، لذلك فالجزيرة حُلوة، وكل ما يأتي منها حُلو، حتى لو كان اعترافًا بالاحتلال، فهو "واقع"، فالجزيرة صادقة إذ ذكرت الواقع، والجيش مخادع ويغيب عقولنا!

أرأيت إلى هذه العقلية في التفكير والاستنباط، كيف نتعامل معها؟!

حينما يقترب الأمر مِن التشكيك في البدهيات لهذا الحد، كيف يكون حوارنا سويًّا؟!

وعلى أي أساس نتحاور؟!

إذا كان السلف أنكروا على الحكام وبايعوهم، فيأتي بعض الشباب يستدل بالإنكار على الحكام على عدم انتخاب حكامنا اليوم، ويستدل آخر بالمبايعة على عدم الإنكار على الحكام اليوم! الحقيقة لا أريد أن أسخر منهم، ولا أحب أن أكون أنا مَن يغلق الباب في وجه محاوري ما دام للخير طريق، لكن هذا المسلك في الاستدلال يشبه طريقة مَن يتعاطى مخدرات أو أدوية مهلوِسة، فهو يطير في البحر، ويسبح في السماء، ويراقب النجوم تحت السرير!

الهوى، ذلك الباب الذي لا قرار بعده، يهوي بصاحبه إلى حيث لا يعلمه إلا الله؛ لأنه فك زمام العقل، وتحرر مِن ضوابط الشرع؛ فما الذي يوقفه أن يتجه في أي اتجاه، ما دام هو يهواه؟!

ما يمنعه أن يرى الخضر مفسدًا وخائنًا لأمانة مَن أركبوه سفينتهم، حتى لو كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة بغير عيبٍ غصبًا؟! يرى مَن يعاون الظالم آثمًا حتى لو عاونه على البر والتقوى، وأنكر عليه الإثم والعدوان، ما دام اسمه ظالمًا، فالوقوف مع الظالم خيانة، والضحك إليه خيانة، والجلوس معه خيانة، والمرور جنب بيته خيانة، ولو سألونا خطة يعظمون فيها حرمات الله ما أجبناهم إليها! وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن صده عن المسجد الحرام حين صدوه: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري)، وقد جلس -صلى الله عليه وسلم- إليهم، وكلمهم وعاهدهم، وما صده بغضهم وما فعلوه به عن أمرٍ كان فيه خير للمسلمين.

الهوى حين يسبق إلى النفس، فيضع القواعد والأسس ثم تأتي نصوص الشرع؛ فلا يقدر الإيمان بها على مقاومة الهوى وقواعده السابقة في النفس، فيلوي الهوى أعناق النصوص حتى يموت أثر هذا النص في نفس صاحب الهوى، والمؤمن المتبع يجعل هواه تبعًا لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقدِّم قولًا أو رأيًّا على قوله -صلى الله عليه وسلم-، فيأتيه النص على قلبٍ فارغٍ، جاهز لقبول الشرع، ثم تأتي كل فكرة وسلوك منقادًا لهذا الهدى الرباني النبوي.

والهوى الجديد الذي نراه اليوم ليس هوىً خارجيًّا أو اعتزاليًّا أو قدريًّا، لكنه جمع أطرافًا مِن هنا وهناك، ليصير هوى حماسيًّا عاطفيًّا، قابلًا لأن يصير محلًا لأي واحدٍ مِن الأهواء القديمة إن لم يجتمع فيه أكثر مِن واحد منها، وليس الخطر في وجود هوى منعزل في زاويةٍ مِن زوايا مجتمع عريض، لكن الكارثة أن يصير هذا الهوى هوىً عامًّا ومزاجًا سائدًا عند شباب الجيل، تحت تأثير غبيٍ يثير حفيظتهم كل يوم بغشمٍ أحمق أو ماكرٍ خبيث يطرق الحديد وهو ساخن ليشكله على مأربه المنحرف الذي لا يسير خلف نص، ولا يقف عند قاعدة، ولا يحترم سنة إلا ما أشرب مِن حماسته الجارفة التي قد تغرق الأخضر واليابس، حتى صار مَن أحضر العفريت لا يستطيع صرفه.

المِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنه-، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تَقْتُلْهُ) قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ) (متفق عليه). فهذه حماسة رجل يأنف ألا ينتقم ليده المقطوعة، لكنه يحكمها بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشبابنا هؤلاء قد لا يعجبهم هذا الكلام -والعياذ بالله!-، ولا يريدون أن يسمعوه ابتداءً!

لابد مِن سدِّ منابع هذه الفتنة، إن كان أعياك كفُ الظالم، اللهم إلا مِن نصيحة؛ فأين أنت مِن الوقوف لهذا العابث بعقول أبنائنا ليل نهار، أين أنت مِن مفارخ هائلة للأفكار السامة والكلمات المسعرة للحروب، والأكاذيب المضللـة والشائعات المشنعة على أهل العلم وسعاة الإصلاح، حتى صار عددٌ هائلٌ مِن الشيوخ جليس بيته، حبيس صمته؛ خشية أن يشتموه أو يلعنوه أو يكفروه أو يجمعوا الكل له، وحتى صار نصف الصف الإسلامي أو يزيد منافقين خونة منبطحين.

إذا كان هؤلاء يفسدون كل هذا الإفساد؛ فلماذا السكوت عنهم وعدم بيان شرهم، وأبواب أهوائهم الخبيثة ليهلك مَن هلك عن بينةٍ ويحيى مَن حيّ عن بينة، وليتعظ أبناؤنا وإخواننا وشبابنا الذين هم أغلى ما نملك، وأعظم ما ندخر لغد، والله أعلم بما في غدٍ؟!

نسأل الله أن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة