الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في النصيحة (9)

قَسَّم أهلُ العلم أنواع المصلحة -من حيث اعتبارها شرعًا- إلى ثلاثة أقسام

تأملات في النصيحة (9)
ياسر برهامي
الجمعة ٢٣ مارس ٢٠١٨ - ٠٦:٢٢ ص
1224

تأملات في النصيحة (9)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِن المقالاتِ أن مدارَ النُّصح للمسلمين هو حفظ مصالحهم؛ أفرادًا وأُسَرًا وجماعات، وبلادًا ومجتمعات، والأمة كلها، وهذه المصالح تدور حول المصالح الضرورية الخمسة: "الدِّين - النفس - العِرض - العقل - المال"، والعِرض مرتبط بالنسب.

ونُبَيِّن اليوم أنواع المصالح مِن حيث اعتبارها.

قَسَّم أهلُ العلم أنواع المصلحة -من حيث اعتبارها شرعًا- إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: المصلحة المُعْتَبَرة:

وهي المصلحة التي اعتبرها الشرعُ بِنَصٍّ أو إجماع، قال إلامام الغزالي -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَمَّا مَا شَهِدَ الشَّرْعُ لِاعْتِبَارِهَا فَهِيَ حُجَّةٌ... وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ اقْتِبَاسُ الْحُكْمِ مِنْ مَعْقُولِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ... وَمِثَالُهُ: حُكْمُنَا أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ مِنْ مَشْرُوبٍ أَوْ مَأْكُولٍ فَيُحَرَّمُ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ لِحِفْظِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، فَتَحْرِيمُ الشَّرْعِ الْخَمْرَ دَلِيلٌ عَلَى مُلَاحَظَةِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ...

نَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ: الْمُحَافَظَةَ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ، وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ: وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَنَفْسَهُمْ وَعَقْلَهُمْ وَنَسْلَهُمْ وَمَالَهُمْ، فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَكُلُّ مَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الْأُصُولَ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ وَدَفْعُهَا مَصْلَحَةٌ.

وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْخَمْسَةُ حِفْظُهَا وَاقِعٌ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورَاتِ، فَهِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ فِي الْمَصَالِحِ...

وَمِثَالُهُ: قَضَاءُ الشَّرْعِ بِقَتْلِ الْكَافِرِ الْمُضِلِّ وَعُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إلَى بِدْعَتِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُفَوِّتُ عَلَى الْخَلْقِ دِينَهُمْ، وَقَضَاؤُهُ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ؛ إِذْ بِهِ حِفْظُ النُّفُوسِ، وَإِيجَابُ حَدِّ الشُّرْبِ؛ إذْ بِهِ حِفْظُ الْعُقُولِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ التَّكْلِيفِ، وَإِيجَابُ حَدِّ الزِّنَا؛ إذْ بِهِ حِفْظُ النَّسْلِ وَالْأَنْسَابِ، وَإِيجَابُ زَجْرِ الْغُصَّابِ وَالسُّرَّاقِ؛ إذْ بِهِ يَحْصُلُ حِفْظُ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَعَاشُ الْخَلْقِ وَهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَيْهَا.

وَتَحْرِيمُ تَفْوِيتِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَشْتَمِلَ عَلَيْهِ مِلَّةٌ مِنْ الْمِلَلِ وَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي أُرِيد بِهَا إصْلَاحُ الْخَلْقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَخْتَلِفْ الشَّرَائِعُ فِي تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ" (انتهى مِن المستصفى، ص 173-174).

وإذا تَقَرَّر هذا فإن المصلحة قد تكون منصوصًا عليها في كلام الشارع، وقد لا تكون منصوصًا عليها؛ فيهتدي إليها العالم بالفهم الذي يؤتاه في كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالله -سبحانه- يؤتي الحكمة مَن يشاء.

ومِن أمثلة ذلك:

1- قوله -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (طه:14).

2- وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى? لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال:39).

3- نهي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الجمعِ بين المرأةِ ومَحَارِمِهَا؛ منعًا مِن القطيعة؛ وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ" (أخرجه الطبراني في الكبير).

4- ومِن ذلك: وجوب اعتزال النساء في المحيض؛ لأنه أذى؛ لقوله -تعالى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (البقرة:222)، وإذا ثبت أن حال النفاس كحال الحيض في التعرض للأذى؛ وجب اعتزال النساء فيه كذلك؛ قياسًا على الحيض؛ للاشتراك في العلة. والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا.

فالمصلحة المعتبرة هي التي تبنى عليها الأحكام بمقتضى العقولِ السَّلِيمَة والفِطَرِ السَّوِيَّة، المُحَقِّقَةِ لِمُرَادِ الشَّرْعِ مِن العبودية، وليس لمجرد الهوى والظن والتخمين.

قال الإمام الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ-: "الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةُ شَرْعًا وَالْمَفَاسِدُ الْمُسْتَدْفَعَةُ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ تُقَامُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى، لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِي جَلْبِ مَصَالِحِهَا الْعَادِيَّةِ، أَوْ دَرْءِ مَفَاسِدِهَا الْعَادِيَّةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا: مَا سيأتي ذكره -إن شاء الله تعالى- مِن أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِتُخْرِجَ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ دَوَاعِي أَهْوَائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ فَرْضِ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَفْقِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَطَلَبِ مَنَافِعِهَا الْعَاجِلَةِ كَيْفَ كَانَتْ، وقد قال ربنا- سبحانه: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) (المؤمنون:71).

القسم الثاني: مصلحة شهد الشرع لبُطْلَانِها (المصلحة المُلْغَاة):

وهي ما شهد الشرع بإلغائها. وهي باطلة اتفاقًا، ولا يجوز الاحتجاج بها -وَإِن تَوَهَّمَ البعضُ وخُيِّلَ للعقلِ أن فيها صلاحًا-.

ومِثَالُهَا: ما حكاه الإمام الغزالي -رَحِمَهُ اللهُ- وغيرُه: مِن أن يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، صاحب الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، أفتى السلطانَ عبد الرحمن الدَّاخِل -لَمَّا وَاقَعَ جاريةً له في نهار رمضان- بصيام شهرين متتابعين، نظرًا لحالِهِ المُناسِب؛ فلما خرج رَاجَعَهُ بعضُ الفقهاء، وقالوا له: "القادر على إعتاق رقبةٍ؛ كيف يعدل به إلى الصوم؛ والصوم وظيفة المعسرين؟! فهذا الملك يملك عبيدًا غير محصورين"، فقال لهم: "لو فتحنا عليه هذا الباب لَسَهُل أن يخطأ كل يوم ويعتق رقبة؛ فلا يزجره إعتاق الرقبة؛ ويزجره صوم شهرين متتابعين"، وهذا القول باطلٌ باتفاق مَن يُعْتَدُّ بِهِ مِن أهل العلم؛ إذ هذه المصلحة مُتَوَهَّمَة باطلة، وليست مصلحة في الحقيقة" (الموافقات: 2/ 63).

قال الإمام الغزالي -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ وَمُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ بِالْمَصْلَحَةِ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ جَمِيعِ حُدُودِ الشَّرَائِعِ وَنُصُوصِهَا بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ الْعُلَمَاءِ لَمْ تَحْصُلْ الثِّقَةُ لِلْمُلُوكِ بِفَتْوَاهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ مَا يُفْتُونَ بِهِ فَهُوَ تَحْرِيفٌ مِنْ جِهَتِهِمْ بِالرَّأْيِ" (المستصفى، ص 174).

ولا شك أن تعطيل النصوص بزعم المصلحة -كما في تحليل الربا والخمور- لما يتوهمه البعض مِن تحقيق مصلحة اقتصادية جاء النص بإلغائها، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90)، وقال -تعالى-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة:275)، وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ) (متفق عليه).

أو أن ينادي البعضُ بالمساواة بيْن الذكر والأنثى في الميراث بحجة الأخوة الجامعة بينهما، وهذا مردود بلا شك؛ لورود النص الذي يدل على إلغائه، وهو قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (النساء:11)، وقوله: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (النساء:176).

وكذلك سائر المحرمات بزعم المصلحة، وكذا تعطيل الحدود؛ هو مِن هذا الباطل الذي يراد به هدم الشريعة، ومِن هنا نعلم أن نصوص الشريعة هي الأصل في معرفة المصالح، وليس العكس.

القسم الثالث: المصلحة المسكوت عنها:

وهي ما سكت عنها الشارع، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها.

قال الإمام الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ- في: "الثَّالِثُ: مَا سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ، فَلَمْ تَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا بِإِلْغَائِهِ... " (الاعتصام 2/ 611).

وهذا النوع مِن المصلحة:

1- إما يكون موافقًا للقواعد العامة للشريعة والمقاصد الكلية لها؛ فيُلْحَق بالمصلحةِ المُعْتَبَرَة -وإن لم يدل عليه دليلٌ خاص-، وهذا ما يطلق عليه عند أهل العلم: "المصلحة المرسلة"؛ فهي مصلحةٌ مِن حيث ملاءمتها لمقاصد الشريعة وتصرفاتها، ومُرْسَلَة مِن حيث إنه لم يشهد لها دليلٌ خاص.

ومثال ذلك: جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-، مع أنه لا يوجد دليل أو نص خاص ينص على هذه المسألة؛ قال الإمام الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اتَّفَقُوا عَلَى جَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ ثَمَّ نَصٌّ عَلَى جَمْعِهِ وَكَتْبِهِ أَيْضًا، بَلْ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَقْتَلَ (أَهْلِ) الْيَمَامَةِ، وَإِذَا عِنْدَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ لِي: هُوَ -وَاللَّهِ- خَيْرٌ.. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لَهُ، وَرَأَيْتُ فِيهِ الَّذِي رَأَى عُمَرُ.

قَالَ زَيْدٌ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ صَدْرَيْهِمَا؛ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاقِ وَالْعُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَمِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ. فَهَذَا عَمَلٌ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ" (الاعتصام 2/ 612-613).

فجَمْع القرآن مِن المصاحفِ وإن لم يَرِد فيه دليلٌ خاص يدل على فِعْلِه أو تَرْكه، إلا أن أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأوا مِن المصلحة فِعْل ذلك؛ عَمَلًا بالقواعد العامة الداعية إلى حفظ الدين، والقرآن الكريم مِنْ أَهَمِّ أُصولِهِ بلا شك.

وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: "وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَأَفْزَعَهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقُرْآنِ؛ فَقَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَرْسِلِي إِلَيَّ بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا عَلَيْكِ. فَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ بِهَا إِلَى عُثْمَانَ؛ فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ.

قَالَ: فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، بَعَثَ عُثْمَانُ فِي كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَسَخُوهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ" (انتهى).

ومِن ذلك: تضمين الصُنَّاع -وتضمين الصُنَّاع دون تفريط فيه خلاف بيْن أهل العلم-، وقَتْلُ الجماعةِ بالواحِدِ -وقتل الجماعة بالواحد يحتج عليه بالعموم، وبآثار الصحابة التي لا يُعلم لها مخالف-، وصك النقود، وتدوين الدواوين، ونحو هذا مما يلائم مقاصد الشريعة، ولا يتعارض مع نصٍّ مِن نصوصها.

وقال الإمام الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ-: "واعلم أن الإمام مالكًا يراعي المصلحة المرسلة في الحاجيات والضروريات كما قرره علماء مذهبه. ودليل مالك على مراعاتها: إجماع الصحابة عليها، كتولية أبي بكر لعمر، واتخاذه السجون، وكتابة أسماء الجند في الديوان، وإحداث عثمان لأذان آخر في الجمعة، وأمثال ذلك كثيرة جدًّا" (انتهى مِن مذكرة في أصول الفقه، ص 203).

والمصلحة المرسلة: كذلك لا تكون في العبادات؛ إذ الأصل في العبادات أنها توقيفية، ولا في شيءٍ قَدَّرَه الشرعُ -بأن جعل له مقدارًا معلومًا- كنصيب الذكر والأنثى في الميراث؛ فاعتبارُ المصلحة ورَدُّ الكتاب والسُّنة من تحكيمِ الهوى، وهو مُنَازَعَةٌ لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

2- أو أن يكون هذا النوع مِن المصلحة غير ملائم لتصرفات الشريعة ومقاصدها؛ فيُلْحَق بما شهد الشرعُ على إلغائه وبطلانه؛ لأنها تكون بذلك مصلحة مُتَوَهَّمَة مرجوحة.

مثال ذلك: ما يراه المالكية -على تفصيلٍ عندهم- مِن منع المريض مرض الموت مِن الزواج، وفسخ نكاحه -إن وقع-؛ لأنه بزواجه هذا يُدْخِل على الورثة وارثًا جديدًا، وفي هذا إضرار بهم، والقاعدة العامة تقول: "لا ضرر ولا ضرار"؛ فهذه مصلحة غير ملازمة لتفرعات الشريعة الحاضَّة على النكاح والمصححة له -إذا وقع بشروطه- والعمومات في مثل هذا مُقَدَّمَة على مثل هذه المصالح.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة