الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

حكيم أرطغرل (ابن عربي) في ميزان القرآن والسُّنة (2)

العلوم الكشفية والمنامات ومنزلتها عند (ابن عربي)

حكيم أرطغرل (ابن عربي) في ميزان القرآن والسُّنة (2)
مصطفى إبراهيم
الثلاثاء ١٥ مايو ٢٠١٨ - ١٨:٢٤ م
1557

حكيم أرطغرل (ابن عربي) في ميزان القرآن والسُّنة (2)

العلوم الكشفية والمنامات ومنزلتها عند (ابن عربي)

كتبه/ مصطفى إبراهيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فقد ذكرنا في المقال السابق أن حكيم أرطغرل "ابن عربي" ينتمي إلى المدرسة الفلسفية الغالية، وذكرنا عددًا مِن الروافد الفكرية التي أثَّرتْ في فلسفته: كالتراث الفارسي والهندي الوثني القديم، وتأثره الشديد بالفلسفة الأفلاطونية؛ مما دفع بعض الباحثين بتسميته (ابن أفلاطون)، كما تأثرت فلسفته بالديانة النصرانية المحرفة، والشيعة.

ثم شرعنا في الحديث عن مصادر التلقي عنده، وذكرنا منها ثلاثة مصادر، وهي: "تلقيه عن الله -عز وجل- مباشرة بلا واسطةٍ - وتلقيه عن جبريل -عليه السلام- مباشرة - وتلقيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة في اليقظة!"؛ ذكرنا ذلك كله مدعومًا بالأدلة والنقولات مِن كتب ابن عربي، ثم أتبعناها بذكر الآثار السيئة المترتبة على هذه المزاعم الباطلة.

وسوف نواصل في هذا المقال -بعون الله تعالى- الحديث عن مصادر التلقي عنده.

المصدر الرابع: دعوى التلقي عن طريق العلوم الكشفية:

يعتمد ابن عربي على العلوم الكشفية اعتمادًا كبيرًا في إثبات الأحكام والعقائد، بل إن العلوم الكشفية مِن المصادر القطعية المقدمَةٌ عنده على الكتاب والسُّنة، كما سيظهر ذلك مِن خلال ما سننقله مِن كتبه -إن شاء الله-، ولكن قبل أن نبيّن ذلك لا بد أن نتعرف على معنى "العلوم الكشفية!".

إن المراد بـ"العلوم الكشفية": "تلك العلوم التي تحصل مِن غير استدلال بآيةٍ ولا نظر في حجة!، وهي ليستْ بحجة عند العلماء إلّا عند الصوفيين" (انظر التعريفات، الجرجاني ص51).

وهذا -أيها القارئ الكريم- مِن العجائب! إذ كيف يسمَّى علمًا وهو يحصل بغير استدلال بآية ولا نظر في حجة! فشتان بيْن هذا وبيْن العلم المبني على النور، والهدى المستمد مِن وحي رب العالمين.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إن العلم الحاصل بالشواهد والأدلة هو العلم الحقيقي، وأما ما يدعى حصوله بغير شاهدٍ ولا دليلٍ؛ فلا وثوق به وليس بعلمٍ، ولا يحصل لبشرٍ علم إلّا بدليل يدله عليه، فكل علم لا يستند إلى دليل؛ فدعوى لا دليل عليها، وحكم لا برهان عند قائله، وما كان كذلك لم يكن علمًا؛ فضلًا عن أن يكون لدنيًّا" (انظر مدارج السالكين، ابن القيم 3/ 431-433 بتصرف يسير).

إذن -أيها القارئ الكريم- هذه هي العلوم التي يسمونها: (العلوم الكشفية!).

والسؤال الآن: ما هي منزلة (العلوم الكشفية) عند ابن عربي؟

تبلغ تلك العلوم المزعومة عند (حكيم أرطغرل) أعلى المقامات مِن الاستدلال؛ فهي تفيد عنده الآتي:

أولًا: تفيد عنده إثبات عبادات وأحكام جديدة لا أصل لها في الشرع!

ثانيًا: كما أنها تفيد عنده ترتيبًا جديدًا لعباداتٍ لها أصل في الشرع؛ بمعنى: أنه يأتي لعباداتٍ شرعية ثم يقوم بإعادة ترتيبها، ثم يخرج لنا بعبادةٍ جديدةٍ في صورتها وأجزائها مستمدة مِن الشرع! بما يمكن أن نطلق عليه: (إعادة تركيب لصور العبادات؛ لأجل إنتاج عبادة جديدة)، فيقول في ذلك: "فالولي قد يُلهم لترتيب صورة لا عين لها في الشرع مِن حيث مجموعها، ولكن مِن حيث تفصيل كل جزء منها وجدته أمرًا مشروعًا، فهو تركيب أمور مشروعة أضاف بعضها إلى بعض هذا الولي، أو أُضيفت له بطريق الإلقاء، فظهر بصورة في الشرع بجمعيتها، فهذا القدر له مِن التشريع" (انظر الفتوحات المكية، ابن عربي 3/ 56).

ثالثًا: نسخ -أي إلغاء- بعض الأوامر والنواهي التي جاء بها الشرع! فيقول ابن عربي: "فإذا جاءه بحكم في هذه الصورة فلا يأخذ به إن اقتضى ذلك نسخ حكم ثابت بالخبر المنقول الصحيح المعمول به، بخلاف حكمه لو رآه على صورته؛ فيلزمه الأخذ به، ولا يلزم غيره ذلك" (الفتوحات المكية، ابن عربي 4/ 27).

فأين هذا مِن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)، وفي رواية: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (رواه مسلم)؟!

بل كيف تبلغ جرأة أحد مِن البشر أن ينسب لرب العالمين شيئًا ليس مِن عنده -سبحانه!-، بل ويدعيه علمًا! والله -تعالى- يقول: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:78)، ويقول: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) (الأنعام:93)؛ لذا فكل من تقوّل على الله تعالى بغير علم ولا دليل ولا برهان، فهو من أظلم الظالمين وأكذب الكاذبين.

وإني سأكتفي -أيها القارئ الكريم- بما نقلته لك مِن كلام ابن عربي فيما يتعلق بالعلوم الكشفية، ولن أطيل في الرد على أقواله وبيان بطلانها في هذه المسألة؛ إذ الأقوال الباطلة الساقطة لا تحتاج إلى كبير عناءٍ في بيان بطلانها؛ بل يكفي مجرد ذكرها وحكايتها ليظهر فسادها أمام الجميع.

المصدر الخامس: الرؤى المنامية:

الصوفية يعتمدون الرؤى المنامية كمصدرٍ مهم مِن مصادر التلقي، بل إن الرؤى المنامية ترقى عندهم لإثبات عباداتٍ وأحكامٍ جديدة ما أنزل الله بها مِن سلطان! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأما عند حكيم أرطغرل (ابن عربي) فإن الأمر عنده لا يقتصر على إثبات أحكام جديدة فحسب، بل بلغ به الأمر أن قال إن المنامات تنفي وتلغي ما ثبت في الشرع بالأسانيد المتصلة وتلقته الأمة بالقبول! فيدعي معرفة مراتب الأحاديث عن طريق الرؤى المناميّة! فيقول في كتابه (الفتوحات المكيّة): "هذا هو الفرقان عند أهل الله بيْن الأمرين؛ فإنهم قد يرونه -صلى الله عليه وسلم- في كشفهم؛ فيصحح لهم مِن الأخبار ما ضعف عندهم بالنقل، وقد ينفون مِن الأخبار ما ثبت عندنا بالنقل" (الفتوحات المكية، ابن عربي 4/ 28).

فقد ينام ابن عربي ثم يستيقظ مِن نومه فيجعل الصحيح ضعيفًا، والضعيف صحيحًا! بزعم أنه رأى ذلك في المنام، بل ويزيد على ذلك بتحديث الناس بأحاديث لم يسمعوها مِن قبْل؛ بزعم أنه سمعها مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منامه!

فليس بعجيبٍ إذن أن نجد في كتب ابن عربي كثيرًا مِن الأحاديث الباطلة الموضوعة، المكذوبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالأمر عنده -كما يظهر مِن كلامه- لا يقتصر على مجرد الاحتجاج بالأحاديث الباطلة والموضوعة والأخذ بها، بل يزيد الأمر عنده حتى يصل إلى حدّ نفي الأخبار الصحيحة، واختلاق الأحاديث بنفسه وارتجالها؛ بزعم تلقيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، سواء يقظةً أو منامًا!

ومعلوم لدى كل مسلم ومسلمة أن الرؤيا لا تكون وحيًا إلّا للأنبياء فقط، وأما غيرهم فلا تكون بالنسبة لهم وحيًا بحال، إلّا عند الكاذبين أصحاب الادعاءات الباطلة.

قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "وقوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، ويتفق مثل هذا كثيرًا للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم فقال لي كذا، وأمرني بكذا!"، فيعمل بها ويترك بها، معرضًا عن الحدود المذكورة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأن الرؤيا مِن غير الأنبياء لا يُحكم بها شرعًا على حال، إلا أن تُعرض على ما في أيدينا مِن الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلّا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا" (الاعتصام، الشاطبي 1/ 260، بتصرف يسير).

خطورة هذا المصدر عند ابن عربي:

هذا الرأي عند ابن عربي فيه مِن الفساد والبطلان ما يبطل به الشرع الشريف، بل يعود هذا القول على القرآن الكريم بالإبطال؛ فأين هذا القول مِن قول الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3)؟! وهل ما نسخ مِن الشرع عن طريق الرؤى المنامية يكون لازمًا لمَن رآه في المنام فقط أم يكون لازمًا لعموم الأمة بحيث يكون شرعًا ودينًا؟!

كما أن مِن اللوازم الباطلة لهذا القول أيضًا: أن فيه إقرار وتصحيح لجميع الديانات والعقائد؛ إذ كل عامل أيًّا كان عمله، أو حتى اعتقاده، يستند إلى دليلٍ -يظنه كذلك- مِن المنامات والرؤى التي يزعمون أنّها ربّانية، وما هي إلا شيطانيّة -والعياذ بالله-!

وثمة حديثان قد يذكرهما مَن يدافع عن ضلالات ابن عربي في مسألة المنامات؛ لذا وجب التنبيه على المعنى الصحيح لتلك الأحاديث.

الحديث الأول: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) (متفق عليه).

- معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ): قال الخطابي وغيره: "قيل المراد إذا قارب القيامة" (شرح صحيح مسلم، النووي 15/ 20).

- معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا): أي أن المسلم أصدق الناس رؤيا.

- وأما معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ): فقد تنوعت تعليلات أهل العلم في تفسير هذه النسبة، وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله- عددًا منها في كتابه "فتح الباري"، ولعل أشهر تلك التعليلات قوله -رحمه الله-: "كأنه قيل: كانت المدة التي أوحى الله إلى نبينا فيها في المنام جزءًا مِن ستة وأربعين جزءًا مِن المدة التي أوحى الله إليه فيها في اليقظة" (فتح الباري، ابن حجر 12/ 365)، حيث كان مجموع مدة البعثة ثلاثة وعشرين سنة، منها ستة أشهر من الرؤيا الصالحة، والستة أشهر تمثِّل 1/ 46 مِن ثلاثة وعشرين سنة.

فإذا رأى العبد المؤمن رؤيا صالحة فإنها تسره ولا تغره، وقد يستأنس بها العبد، ولكنها لا تلغي حكمًا مِن أحكام الشريعة كما لا تثبت حكمًا جديدًا، قال ابن دقيق العيد: "هذا الاستئناس والترجيح لا ينافي الأصول" (بواسطة تيسير العلام، عبد الله البسام، ص 402).

الحديث الثاني: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ، لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي) (متفق عليه).

قال النووي -رحمه الله- في بيان معنى هذا الحديث: "فيه أقوال: أحدها: أن يراد به أهل عصره، ومعناه: أن مَن رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة عيانًا. وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته. وثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك" (راجع شرح صحيح مسلم، النووي 15/ 26).

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "هو على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم- في الرواية الأخرى: (لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ)" (فتح الباري، ابن حجر 12/ 385).

وليس معناه قطعًا أن أحدًا مِن الناس يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة بعد وفاته كما يدَّعي ابن عربي!

وإلى هنا ينتهي الحديث عن مصادر التلقي عند ابن عربي، وقد ذكرنا منها خمسة مصادر، وهي:

1- التلقي عن الله -تعالى- مباشرة بلا واسطةٍ!

2- التلقي عن جبريل -عليه السلام- بلا واسطةٍ!

3- التلقي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة!

4- التلقي عن طريق العلوم الكشفية.

5- التلقي عن طريق الرؤى والمنامات.

وسوف نبدأ في المقال القادم -بإذن الله تعالى- في الحديث عن أخطر وأقبح مقالات ابن عربي؛ ألّا وهو القول بوحدة الوجود، ومعناه ولوازمه، وآثاره السيئة.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة