الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (16)

وللأسف، قد عادت الجاهلية اليوم في أمر الدماء والثأر كما كانت قبْل الإسلام

تأملات في حجة الوداع (16)
ياسر برهامي
الخميس ٠٨ نوفمبر ٢٠١٨ - ١٨:٣٢ م
805

تأملات في حجة الوداع (16)

دماء الجاهلية

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فمِن مظاهر الجاهلية التي هدمها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبته بعرفة في حجة الوداع ووضعها تحت قدميه: "دماء الجاهلية وثاراتها"، وقد كان العرب يعتَدُون في ثأرهم في صراعاتهم القبلية قبل الإسلام، وكان ذلك حسب قوة القبيلة وشرفها فيما بينهم، فربما قَتَلوا الذَّكَر بالأنثى والحر بالعبد، دون اعتبار لشخص القاتل، وإنما للتنكيل بالقبيلة الضعيفة، وكذلك كانوا يقتلون مِن أشراف القبيلة التي منها القاتل دون التزامٍ بالقصاص مِن القاتل دون غيره، وقد جاء الإسلام بهدم ذلك كلِّه، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:178-179)، ونَصَّ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على تكافؤ المسلمين جميعًا في دمائهم، كما قال: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني).

ودَلَّت الآية الكريمة على أن الذَّكَر الحُرَّ القاتل يُقتل بالذَّكَر الحُرِّ المقتول، وأن العبد القاتل يُقتل بالعبد المقتول، وأن الأنثى القاتلة تقتل بالأنثى المقتولة، ودَلَّت السُنَّة على أنه إن قَتَل الذكر أنثى فإنه يُقتص لها منه، كما في الصحيحين أن يهوديًا رَضَّ رأسَ جاريةٍ بين حَجَرين، ثم إنه أُمسِك به فأَقَرَّ، فأمر النبيُّ أن يُرَضَّ رأسُه بيْن حَجَرين؛ فدَلَّ على أنه قُتل قِصاصًا وليس لِنَقْضِ العهد، مع عموم قول الله -تعالى-: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (المائدة:45)،  وظاهرُ النصوص مِن الكِتاب والسُنَّة قتل الحُرِّ بالعَبْدِ، مع أنه خلاف قول الجمهور.

ودَلَّت آية القِصاص في سورة البقرة أيضًا على الترغيب في العفو، فقوله -تعالى-: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (البقرة:178)، تذكيرٌ لهم برابطة الأخوة الإيمانية التي تجمع بينهم -رغم القتل العمد-، وأن القاتل وإن ارتكب الجُرم الفظيع إلا أنه لم يخرج مِن دائرة الإسلام والإيمان -أي مطلق الإيمان لا كماله الواجب-؛ فهذا ترقيق لقلوب أولياء الدم أن يقبلوا الدية بدلًا مِن القِصاص.

وقد أجمع أهل العلم على أنه إذا عفا أحد أولياء الدم -وهم ورثة القتيل رجالًا كانوا أو نساءً أو أطفالًا- سَقَطَ القصاص؛ سواء كان العفو بلا مقابل أو كان عفوًا على الدية، واتفقوا على أن الأطفال دون البلوغ يُؤخَّر تخييرهم بيْن القصاص والعفو والدية إلى أن يَبلُغوا، وأن يُنتظَروا، ولا يجوز القصاص مع وجود بعض الورثة دون البلوغ، ولا يتولاه الكِبار ولا يَستأثِروا بالقرار دونهم، وكل هذا لتجنب القِصاص ما أمكن، ثم عدم إنفاذه إن أمكن أيضًا.

مع ما ثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الترغيب في العفو في القتل العمد، كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: "إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَقَتَلْتَهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتَهُ. قَالَ: كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي؛ فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: مَا لِي مَالٌ إِلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي. قَالَ: فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ. فَرَمَى إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ، وَقَالَ: دُونَكَ صَاحِبَكَ. فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ). فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ، وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟) قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَعَلَّهُ، قَالَ: بَلَى، قَالَ: (فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ)، قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.

ومعنى "فَهُوَ مِثْلُهُ": أنهما استَوَيَا في الوصف بالقتل، وإن كان أحدهما قتل بحق، والآخر قتل بباطل.

و"الِنِسْعَة": هي حبل مِن جلود مضفورة جعلها كالزمام له يقوده بها.

واتَّبَع النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الأسلوب لكي يرجع الوليُّ عما عَزم عليه مِن القصاص؛ ترغيبًا له في العفو.

وللأسف، قد عادت الجاهلية اليوم في أمر الدماء والثأر كما كانت قبْل الإسلام، فصارت العائلات والقبائل تَختار مَن تقتله -ثأرًا ممَن قَتل منها- ولو كان غير القاتل، بل ولو كان بريئًا مُتَبَرِّئًا مِن القتل رافضًا له ناهيًا عنه! ولكنه ذو المكانة العالية والوظيفة الرفيعة؛ فيقتلونه نِكَايةً في العائلة الأخرى!

كما صار القتلُ دون النظر إلى الوَرَثة مِن النساء والأطفال، بل ربما تَوَلَّاه الإخوة وأبناء العم، دون الورثة، ودون أن يَسألوا البالغ عما يُريد مِن الخيارات الثلاثة: القصاص أو العفو أو قبول الدية، ودون أن يَنتظروا الصغير حتى يَبْلُغ، وربما عَيَّروا مَن عفا أو قَبِل الدِّيَة أشد التعيير، وأنه يَقبل العوض في الدم، وأنه يبيع دم أبيه أو أخيه أو قريبه!

وزاد الفساد في استعمال كلمة القصاص في غير مَوضِعها، حتى صارت المُطَالَبة به في قتال الفِتَن والقتل الذي يحدث أثناءها، حيث لا يُتَبَيَّن مَن القاتل لِأَيِّ مقتول؛ إذ إطلاق النار يكون بطريقةٍ عشوائيةٍ لا يُمكن التحَقُّق معها، وليستْ هذه بصورة الاشتراك في القتل -كما يُوَصِّفُه الجُهَّال-؛ بل صورة الاشتراك في القتل بأن يشترك أكثر مِن واحدٍ في الضربات المؤثرة المؤدية إلى القتل، وقتل المعارك في الفتن والثورات والنزاعات القبلية والقومية ليستْ كذلك؛ بل الأغلب أنه لا يمكن معرفة عين القاتل لعين القتيل.

وكم عانى مجتمعُنا مِن تعيير مَن يُطالب بقبول الدية وتعيير مَن يَقبلها، حتى صار الناس يخافون مِن قبول ذلك، مع ترغيب الشرع فيه حقنًا للدماء ومنعًا لاستمرار الصراع الدموي بيْن الناس!

ومِن صور ثأر الجاهلية الباطل:

المُطَالَبة بالقِصاص -أو مُمارَسته بالفعل- في قتل الخطأ وشبه العمد، وهو قتيل السوط والعصى، وأنواع الضرب التي يُقصد بها الإصابة ولا يُقصد بها القتل غالبًا. مع نَصِّ الحديث على إثباته ومَنْع القِصاص فيه، بل فيه الدِّيَة المُغَلَّظة، كما جاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ نَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُعَدُّ وَتُدَّعَى، وَكُلَّ دَمٍ أَوْ دَعْوَى مَوْضُوعَةٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ، وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ، أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا) (رواه أحمد بسندٍ صحيح)

والواجب على المسلمين القضاء على ثارات الجاهلية، ودمائها، وطُرُقِها التي أَبْطَلَها النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووضعها تحت قدميه، في مجامع المسلمين الكبرى في حجة الوداع؛ فلنجتهد أن توضع تحت أقدامنا كذلك، وأن نطبِّق الشرع ونعود إليه، ونلتزم بأحكامه.

نسأل اللهَ أن يُخَلِّصَنا مِن الجاهلية كُلِّها، وكُلِّ شُرُورِها.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة