الخميس، ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٥ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

دروس مِن قصة الثلاثة الذين خلفوا (8) (موعظة الأسبوع)

ضاقت عليهم أنفسهم نتيجة المحاسبة على الذنب؛ لأن النفس تكره المحاسبة

دروس مِن قصة الثلاثة الذين خلفوا (8) (موعظة الأسبوع)
سعيد محمود
الأربعاء ٠٢ يناير ٢٠١٩ - ١٩:٠٠ م
993

دروس مِن قصة الثلاثة الذين خلفوا (8) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

خاتمة: التناول القرآني للقصة:

المقدمة:   

- التناول القرآني يركِّز على الأحوال الإيمانية القلبية التي كانت هي أعظم أسباب التوبة عند الثلاثة -رضى الله عنهم-: قال الله -تعالى-: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) (التوبة:118).

- الأحوال الإيمانية القلبية هي أشرف العبادات؛ لأن أعمال الجوارح لا تصلح بغيرها، فهي كالروح للجسد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وهِيَ القَلْبُ) (متفق عليه).

الحالة الإيمانية القلبية الأولى: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ):

- أرض المدينة التي وُلدوا فيها تتنكر لهم بسبب شؤم المعصية: قال كعب -رضي الله عنه-: "وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ" (متفق عليه).

- الأرض تتأثر بالمعاصي، وتضيق بالعصاة، وتستريح بموتهم: عن أبي قتادة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: (مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: (العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) (متفق عليه)، وقال -تعالى- في شأن الفراعنة: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان:25-29)، وروي: "إذا مات العبد الصالح، بكاه مصلاه مِن الأرض".

- الأرض الضيقة بسبب الذنوب وهجر الصالحين، ستتسع بالتوبة وملازمة الصالحين، وتضيق أكثر بسبب موافقة العاصين والفاجرين: قال كعب عن رسالة ملك غسان "وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ، وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ البَلاَءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا".

- راجع نفسك إذا هجرك إخوانك الصالحون، فإنهم شهود الله في الأرض: عن أنس -رضى الله عنه- قال: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: (وجَبَتْ)، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: (وجَبَتْ)، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: مَا وجَبَتْ؟ قَالَ: (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ) (متفق عليه).

الحالة الإيمانية القلبية الثانية: (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ):

- ضاقت عليهم أنفسهم نتيجة المحاسبة على الذنب؛ لأن النفس تكره المحاسبة: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف:53).

- النفوس مجبولة على حب الراحة واستثقال التكاليف، وإيثار متاع الدنيا على الآخرة؛ إلا مَن ضيَّق عليها وجاهدها: قال -تعالى-: (فَأَمَّا مَن طَغَى . وآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:37-41)، وقال -صلى الله عليه وسلم: (وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال: (وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه الحاكم، وحسنه الألباني).

- الصالحون نفوسهم لوامة، تريد أن ترقى إلى النفس المطمئنة: قال كعب -رضي الله عنه-: "وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ!"، وقال: "فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ". قال الحسن البصري -رحمه الله-: "لا يُلقَى المؤمنُ إلا يعاتب نفسَه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردت بشَرْبتي؟ والفاجر يمضي قُدُمًا لا يعاتب نفسه".

- حاسب نفسك وإن ضاقت، محاسبة التاجر الحاذق لتجارته (رأس مال - أرباح - خسائر): قال عمر -رضى الله عنه-: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا".

الحالة الإيمانية القلبية الثالثة: (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ):

- لا نجاة مِن أقدار الله المؤلمة: (هجر الصالحين لهم - الخوف من عقوبة الله المنتظرة) إلا باللجوء إلى الله: قال الله -تعالى-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) (الذاريات:50)، وقال -صلى الله عليه وسلم: (ولَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ) (متفق عليه).

- الصادقون ينتظرون الفرج مِن الله، وإن طالت العقوبة، وعاشوا القلق وضيق النفس والأرض: قال -تعالى- في حقهم: (وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:106)، وقال في غيرهم قبلها: (وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة:102)، وتأمل قوله فيهم: (واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، ولم يقل كما قال في غيرهم: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

- الذين يسلكون غير طريق الله إذا نزلت بهم الأقدار المؤلمة: (ضيق أرزاق - تسلط أعداء - مرض - ... )، إنما سلكوا طرقًا مسدودة، وإن ظنوا الراحة فيها: قال -تعالى-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل:62)، وقال: (وإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ) (الأنعام:17)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَعَلَيكُمْ بِالجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنمِ القَاصِيَةَ) (رواه أبو داود والنسائي، وحسنه الألباني).

- النبي -صلى الله عليه وسلم- يرسِّخ هذه العقيدة في نفوس المسلمين: عن البراء بن عازب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا أَتَيتَ مَضْجَعَكَ فَتَوضَّأْ وضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلى شِقِّكَ الأَيمَنِ، وقلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نفِسي إِلَيكَ، وفَوَّضتُ أَمري إِلَيْكَ، وأَلَجَأْتُ ظَهرِي إِلَيْكَ، رغبةً ورهْبَةً إِلَيْكَ، لامَلجأَ ولا مَنجي مِنْكَ إِلاَّ إِليكَ... ) (متفق عليه).

 خاتمة:

- ختمت الآيات بالأمر بلزوم الجماعة الصادقة، والحذر مِن مفارقتهم: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119).

- الإشارة في الختام مرة أخرى إلى فضل القصة، وما اشتملت عليه مِن فوائد عظيمة ينتفع بها المؤمنون.

 فاللهم انفعنا بما قلنا وسمعنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة