الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (25)

في إرداف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفضل بن عباس خلفه؛ دليل على حرصه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على صحبة الشباب له

تأملات في حجة الوداع (25)
ياسر برهامي
السبت ١٢ يناير ٢٠١٩ - ١٦:٣٥ م
815

تأملات في حجة الوداع (25)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا؛ فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ؛ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ؛ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي" (رواه مسلم).

في إرداف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفضل بن عباس خلفه؛ دليل على حرصه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على صحبة الشباب له؛ ليتعلموا منه، ولينقلوا سُنَّتَه، وليوجِّههم ويرشدهم ويؤدبهم ويعلمهم.

وفي وضع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده على وجه الفضل قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: "فِيهِ الْحَثُّ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ عَنِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَغَضِّهِنَّ عَنِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ "وَكَانَ أَبْيَضَ وَسِيمًا حَسَنَ الشَّعْرِ" يَعْنِي أَنَّهُ بِصِفَةِ مَنْ تُفْتَتَنُ النِّسَاءُ بِهِ لِحُسْنِهِ.

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَوَى عُنُقَ الفضل فقال له العباس: "لويت عنق بن عَمِّكَ؟"؛ قَالَ: "رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنِ الشيطان عليهما"؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَضْعَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ كَانَ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ عَنْهُ وَعَنْهَا.

وَفِيهِ: أَنَّ مَنْ رَأَى مُنْكَرًا وَأَمْكَنَهُ إِزَالَتَهُ بِيَدِهِ لَزِمَهُ إِزَالَتُهُ؛ فَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْكَفَّ الْمَقُولُ لَهُ وَأَمْكَنَهُ بِيَدِهِ أَثِمَ مَا دَامَ مُقْتَصِرًا عَلَى اللِّسَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (انتهى من شرح النووي على مسلم، 8 / 190).

والظاهر أنَّ وضعَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده على وجه الفضل كان في الطريق من مزدلفة إلى منى؛ ولأن وجه الفضل كان ظاهرًا للنساء، وكنَّ عددًا مِن النساء (ظُعُنٌ يَجْرِينَ)؛ فكانت تغطيته أولى، وأما لَيّ العُنُق فكان عند سؤال المرأة الشابة رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند جمرة العقبة عن الحج عن أبيها؛ فكان الأنسب لصرف الفتنة عنهما، أما مع تعدد النساء فتغطية الوجه كان أنسب.

وأما تحريك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دابته في وادي مُحَسِّر؛ فلأنه المكان الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل لما أرادوا هدم الكعبة عامَ مَولِده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والسُنَّة في هذه الأماكن التي أهلك الله فيها الكافرين سرعة المرور؛ خشية أن يصيب الإنسان ما أصابهم، وكذا فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ديار ثمود لما مر بها في غزوة تبوك، وقال: (لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ) (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

والطريق التي سلكها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الوصول إلى منى المسماة بالطريق الوسطى أو طريق المأزمين لم يعد ممكنًا معرفتها على وجه التحديد بعد الاتساع الشديد في تغيير جغرافية المكان وعمارته، إلا أنها في المكان المتوسط بين الطرق التي تخرج على الجمرات مباشرة؛ فيسير الحاج فيها ويدخل منها إلى الجمرة قدر إمكانه.

وأما قوله: "حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ": فهي جمرة العقبة الكبرى التي شهدت بيعتي العقبة بين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والأنصار، الأولى والثانية، وهي نهاية مِنى؛ فحَدُّ مِنى إلى منتصف جمرة العقبة، وقد أُزيلت الشجرة من مئات السنين.

وقوله: "فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ": قال النووي -رحمه الله-: "وَفِيهِ: أَنَّ السُّنَّةَ لِلْحَاجِّ إِذَا دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فَوَصَلَ مِنًى أَنْ يَبْدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا قَبْلَ رَمْيِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ.

وَفِيهِ: أَنَّ الرَّمْيَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَأَنَّ قَدْرَهُنَّ بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ، وَهُوَ نحو حَبَّة الباقلاء، وينبغي ألا يَكُونَ أَكْبَرَ وَلَا أَصْغَرَ؛ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ أَجْزَأَهُ بِشَرْطِ كَوْنِهَا حَجَرًا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ الرَّمْيُ بِالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُسَمَّى حَجَرًا، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ.

وَفِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ التَّكْبِيرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ.

وَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْحَصَيَاتِ فَيَرْمِيهِنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنْ رَمَى السَّبْعَةَ رَمْيَةً وَاحِدَةً حُسِبَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَصَاةً وَاحِدَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ "يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ"؛ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ رَمَى كُلَّ حَصَاةٍ وَحْدَهَا، مَعَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ الرَّمْيِ "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".

وَفِيهِ: أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقِفَ لِلرَّمْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي بِحَيْثُ تَكُونُ مِنًى وَعَرَفَاتٌ وَالْمُزْدَلِفَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَمَكَّةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَقِيلَ: يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَكَيْفَمَا رَمَى أَجْزَأَهُ بِحَيْثُ يُسَمَّى رَمْيًا بِمَا يُسَمَّى حَجَرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا حُكْمُ الرَّمْيِ فَالْمَشْرُوعُ مِنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لَا غَيْرَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ نُسُكٌ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ؛ فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى فَاتَتْهُ أَيَّامُ الرَّمْيِ عَصَى وَلَزِمَهُ دَمٌ وَصَحَّ حَجُّهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْسدُ حَجُّهُ.

وَيَجِبُ رَمْيُهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ؛ فَلَوْ بَقِيَتْ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ تَكْفِهِ السِّتُّ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا <مثل> حَصَى الْخَذْفِ"، فإثبات لفظة "مثل" رَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ" (انتهى كلامه باختصار وتصرف يسير مِن شرح النووي على مسلم، 8/ 191).

وينبغي أن يستحضر العبد في رميه حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونِ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ تَتَّبِعُونَ" (رواه البيهقي، وهو حَسَن)، وذلك الرمي ليس لتحَوُّل الشيطان إلى حجر المرمى كما يظنه الجهال؛ بل لأن المُتَّبِع للشرع يُذِلُّ الشيطانَ، ويَطرده عن نفسه بالتزامه بشرع الله.

ومعنى الرجم: الطرد والإبعاد والإهانة والإذلال، وهذا هو المقصود منه، وقد سبق بيان فضله، وأن كل حصاة منها تكفر كبيرة من الكبائر.

والتكبير في هذا الموضع استعانة بالله الكبير على كيد الشيطان الحقير، وعلى كل مَن كان مِن أعوانه، واستشعار العبد صغره وحقارته بالنسبة لعظمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الأكبر مِن كل شيء، وأنه إنما اختاره الله الكبير الأكبر لكي يأتي لهذا المكان دون غيره مِن الناس الذين حرموا مِن هذا النسك؛ فيعلم العبد أن شرفه إنما هو بامتثاله أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبذكره، والتزام شرعه، واتباع سُنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

والمسلم حين يفكر في معاني الاستسلام في المناسك كلها يخرج مِن الحج بحياةٍ جديدةٍ ملؤها الانقياد؛ فيتجدد إسلامه؛ فهو يرمي حجرًا بحجر، ويقبل حجرًا آخر -وهو الحجر الأسود- أو يشير إليه أو يستلمه ويُقَبِّل ما استلمه به، ويطوف بأحجار الكعبة، ويستلم حجرًا آخر فقط دون تقبيل -وهو الركن اليماني-، وهو يوقن أن جميعها أحجار لا تَضر ولا تَنفع كما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الحجر الأسود؛ ولكن الذي ينفع هو طاعة الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والذي يضر هو مخالفة أمر الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فما أعظم تجديد الحج لإسلام العبد وإيمانه.

واعلم أنه لا بُدَّ أن تقع الحصيات في المرمى، وهو رغم توسعته الحالية أكبر بكثير مما كان في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ إلا أن هندسته المخروطية الحديثة تجمع الحصى المرمي المتدحرج مِن جميع طوابق الرمي إلى عين المكان الذي كان فيه المرمى زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والحمد لله، وجزى الله خيرًا مَن فَكَّرَ في هذه الفكرة العظيمة ليتيسر أداء هذا النُّسُك على المسلمين.

وفي قول جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي"؛ دليل على استحباب الرمي مِن أسفل الجمرة وليس مِن فوقها؛ فالأفضل الدور الأرضي لكي يرمي مِن حيث رمى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والسُنَّة أن يَجعل مكة عن يساره ومِنى وعرفات والمزدلفة عن يمينه، وليس أن يستقبل القبلة كما ذكر النووي -رَحِمَهُ اللهُ-.

واعلم أن السُنَّة في وقت الرمي يوم النحر أن يبدأ للرجال مِن طلوع الشمس؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لابن عباس وأُغَيْلِمَة بني عبد المطلب -وقد بعثهم ليدفعوا من الليل مع ضَعَفَة أهلِه- فجعل يَلْطِخُ أفخاذَهم ويقول: (أُبَيْنِيَّ؛ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصَحَّحَه الألباني)، وللنساء مِن نصف ليلة النحر.

وأما انتهاء وقت الرمي؛ فقد دَلَّت السُّنة على امتداده إلى المساء، وفيه أقوال لأهل العلم نستعرضها في مقالٍ قادمٍ -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة