الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

هنا السعادة يا باحثًا عنها!

فلا يزال المؤمن متنعمًا هانئًا بطاعة ربه، وإن أذنب أو أساء يعود سريعًا إلى ربه

هنا السعادة يا باحثًا عنها!
محمد خلف
الأحد ١٣ يناير ٢٠١٩ - ١٨:٢٣ م
971

هنا السعادة يا باحثًا عنها!

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الله -تعالى- قد خلق العباد لغايةٍ ساميةٍ عظيمةٍ؛ ألا وهي عبادته -سبحانه- كما قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، ووعد -سبحانه- أهل الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة، كما قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)، والحياة الطيبة هي الرزق الحلال الطيب، والقناعة والسعادة، وهي الجنة كما قال مجاهد والحسن وقتادة: "لا يطيب لأحدٍ حياة إلا في الجنة"، وقال الضحاك: "الرزق الحلال والعبادة في الدنيا"، وعنه أيضًا: "هي العمل بالطاعة والانشراح بها"، وعلَّق ابن كثير -رحمه الله- على هذه الأقوال، وقال: "والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله".

وقال -تعالى- أيضًا: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) (الانفطار:13). والمراد بالأبرار: القائمون بحقوق الله وحقوق عباده، الملازمون للبر في أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن، في دار الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار القرار. (تفسير السعدي). وعن الإمام ابن القيم مثله أو معناه -رحمه الله-، وغيرها مِن الأدلة.

فهذه العطايا التي أعطاها الله -تعالى- للمطيعين مِن السعادة والقناعة، وانشراح الصدر، والرزق الحلال والنعيم، وغيرها؛ لهي مِن رحمة الله بعباده حتى يُقبلوا على طاعته، مستصحبين معهم جزاء هذا العمل في الدنيا قبْل الآخرة، وما يعود عليهم مِن طاعة ربهم -سبحانه- مِن سعادتهم في الثلاث دور: (الدنيا والقبر والآخرة)، وهذا مع تمام غناه -سبحانه وتعالى- عن خلقه؛ فهو -تعالى- لا تنفعه طاعتنا ولا يُضر بمعصيتنا، كما ورد في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) (رواه مسلم)؛ فهذا مِن أكبر الدواعي للعبد للإقبال على ربه ومحبته، والإخبات إليه -سبحانه-، والتذلل له وطاعته؛ لأنه يعلم أنه -تعالى- أرحم به مِن والدته، كما ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد رأى امرأة مِن السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته، فقال لأصحابه: (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ) قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) (متفق عليه).

وعلى الناحية الأخرى: توعد -سبحانه- في الدنيا المعرضين عنه بالضيق والضنك (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) (طه:124).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: خالف أمري، وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ مِن غيره هداه، (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍ، فلا يزال في ريبةٍ يتردد، فهذا من ضنك المعيشة" (تفسير ابن كثير بتصرفٍ).

وكما قال -تعالى-: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار:14).

قال السعدي -رحمه الله-: "الذين قصَّروا في حقوق الله وحقوق عباده، الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم (لَفِي جَحِيمٍ) أي: عذاب أليم في دار الدنيا، ودار البرزخ، وفي دار القرار. (تفسير السعدي)، وعن الإمام ابن القيم مثله أو معناه -رحمه الله-.

ولعل المتأمل لهذا العقاب الدنيوي قبْل الأخروي يلمح في باطنه رحماتٍ جليلاتٍ مِن رب الأرض والسموات؛ الذي رتب على مخالفة أمره ومعصيته هذا الضنك والألم وضيق الصدر، وذهاب الطمأنينة، والقلق والحيرة والشك حتى يبحث العباد عن سبب للخلاص مِن كل هذا الألم والتعب والأسى، فيعودوا إلى ربهم فيجدون عنده -تعالى- كل الخير، ويجدون السعادة والراحة والطمأنينة التي طالما فقدوها في بُعدهم عن ربهم، فما أن يجد المؤمن ذلك إلا وتجده حامدًا ربه مِن كل قلبه، سائلًا ربه الثبات على ما أنعم عليه مِن الهداية والنعيم، يخشى أن يعود لما عليه مِن الأسى والتعب، كما في قوله -تعالى-: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8).

وأيضًا كما قال أنس -رضي الله عنه-: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وهو أيضًا تجده طامعًا في مزيدٍ مِن هذه اللذة والأنس والسرور التي يحياها، فتجده يكثر مِن ذكر ربه ودعوة غيره إلى هذا النعيم الذي يحياه، ويسأل ربه الكريم الهدى كما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى) (رواه مسلم)؛ لأن العبد يعلم أن في زيادة الهدى مزيد قربٍ مِن الله، وفي زيادة القرب منه نعيمه وسروره، وأنسه وحياته الطيبة التي طالما بحث عنها.

فلا يزال المؤمن متنعمًا هانئًا بطاعة ربه، وإن أذنب أو أساء يعود سريعًا إلى ربه، الغفور الكريم الذي يفرح بتوبته وهو غني عنه، فينعم المؤمن في دنيا وفي قبره وفي الآخرة بفضل الله الكريم المنان.

فاللهم يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك.

والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة