الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

معالم في مواجهة التحديات المعاصرة

وها نحن نرى خطر تفريغ الأجيال القادمة مِن شخصيتها الإسلامية

معالم في مواجهة التحديات المعاصرة
ياسر برهامي
السبت ٠٩ مارس ٢٠١٩ - ١٨:٢٤ م
1063

معالم في مواجهة التحديات المعاصرة

كتبه/ ياسر برهامي

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن سُنَن الله الكونية التي ترتبط بحِكمة وجود النوع الإنساني على الأرض: أنَّ الحق ينقص في قلب ابن آدم، والباطل يزيد، وكذا في المجتمعات والحضارات؛ وذلك لأن الله -سبحانه- أَوْجَد النوع الإنساني في الأرض ليعبده المؤمنون في وسط الفساد وسفك الدماء، قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أَيْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَّرْتُمُوهَا مَا لَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ؛ فَإِنِّي سَأَجْعَلُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَأُرْسِلُ فِيهِمُ الرُّسُلَ، وَيُوجَدُ فِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَالصَّالِحُونَ وَالْعُبَّادُ، وَالزُّهَّادُ وَالْأَوْلِيَاءُ، وَالْأَبْرَارُ وَالْمُقَرَّبُونَ، وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَالْخَاشِعُونَ، وَالْمُحِبُّونَ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمُتَّبِعُونَ رُسُلَهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ" (تفسير ابن كثير،1/ 216 - 217).

حتى يُعبد الله بالمُرَاغَمة والمُدَافَعة، والمُجَاهَدة والمُقَاوَمة للشر والفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلابد أن يوجد الفساد وسفك الدماء، ولابد أن يُوجَد ذلك بالعدل (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49)، فقَدَّرَ -سبحانه- أن يَفعل المُفسِدون ذلك بإرادتهم وقدرتهم التي خلقها الله لهم؛ ليُقَاوِمهم أهلُ الإيمان، ثم يحاسب -سُبْحَانَهُ- كُلًّا مِن الفريقين بما يَستحقه.

والإنسان قد خُلِق على التوحيد والعلم؛ فآدم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أبو البشر كان نَبِيًّا مكلما، قال -تعالى-: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة:31)، ثم يتحول الإنسان إلى الجهل والظلم بعدل الله، ولا يكون ذلك إلا بنقصان الحق مِن قلوب بني آدم ومجتمعاتهم، ومِن خلال عملهم وجهلهم وإعراضهم عن العلم، واكتفائهم بالهيئة الظاهرة مِن ادعاء حب العلماء، واتِّباع الأنبياء مُدَّةً مِن الزمن، يبدأ الحق فيها بالضعف؛ بسبب البدعة والظلم والعدوان حتى يضمحل، ويزداد الجهل ويُنسخ العلم حتى يُعبد غير الله.

روى البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ؛ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ، وهي أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ؛ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ".

وكذا روي عن عكرمة والضحاك وقتادة وابن إسحاق نحو هذا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "هَذِهِ أَصْنَامٌ كَانَتْ تُعْبَدُ فِي زَمَانِ نُوحٍ"، وروى ابن جرير عن محمد بن قيس في "وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" قال: "كانوا قومًا صالحين مِن بنى آدم، وكان لهم أتباع يَقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يَقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم؛ فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر؛ فعَبَدوهم" (تفسير الطبري، 23/ 639).

وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي الْمُطَهَّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ -وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي- يَزِيدَ بْنَ الْمَهَلَّبِ قَالَ: فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ؛ أَمَا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ وَدًّا -قَالَ: وَكَانَ وَدٌّ رَجُلًا مُسْلِمًا وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ، فلما مات عَسْكَرُوا -اعتكفوا- حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَجَزِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُمْ عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ؛ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ أُصَوِّر لكم مِثلَه فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَصَوَّرَ لَهُمْ مِثْلَهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ قَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ تِمْثَالًا مثله، فيكون له في بيته فتذكرونه؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَمَثَّلَ لَكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ؛ فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ وَتَنَاسَلُوا وَدَرَسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَوْلادُ أَوْلادِهِمْ؛ فَكَانَ أول ما عُبِد غير الله: الصنم الَّذِي سَمَّوْهُ وَدًّا" (انتهى باختصارٍ من تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3375 - 3376).  

فتأمل كيف تَوَصَّل الشيطان للشرك بهذه الخطة الخبيثة بالتدرج مع بني آدم بنقصان الحق وزيادة الباطل؛ فلَم يَبدَأهم بالأمر بعبادة الأوثان، ولكن أوحى إليهم بدعة التماثيل التذكارية والعكوف على قبور الصالحين العلماء المُوَحِّدين؟!

وقد كانت التلامذة عندهم حقيقة التوحيد دون فهم الفرق بين السُّنة والبدعة، ثم ضَعف العلم أكثر وأكثر؛ فجاء تلامذة التلامذة الذين لم يفهموا مِن التوحيد وأصل الدين ما كان يفهم شيوخهم وآباؤهم فسهُل على الشيطان أن يدعوهم إلى الشرك باسم التوسل والاستسقاء، كما يُجَوِّز مُبتدعة زماننا ذلك، ويطلبون المدد والشفاء، والسند والأمان، وحراسة البلاد مِن الصالحين الأموات!

ويشتدون في النكير على دعاة التوحيد، ويتهمونهم بأنواع التهم الباطلة لتشويه صورتهم؛ ليتسنى لهم إضلال العامة، ولم يفكروا قط في أن أدعية القرآن كلها؛ عن الأنبياء وغيرهم لم تتضمن آية واحدة منها دعاءً فيه التوسل الشركي المزعوم بدعاء الأموات أو دعاء الملائكة والصالحين، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد عَلَّم أمته الأدعية العظيمة والأذكار السامية في كل مواقف حياتهم اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية والعمرية وفي جميع الأحوال لا تجد فيها حرفًا مما يَذكره أهل البدع إلا في الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي اخترعوها، أو التلبيس على الناس بالاستدلال بما ليس بدليل.

ويتغير الحال وينقص الحق بالتدريج بعد كل نبي من الأنبياء، وهناك مِن الأمم مَن دَخَله النقص في حياة نبيهم، كاليهود؛ فإنهم عَبَدوا العجل في حياة موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بعد أن تركهم أربعين ليلة، بل في وجود هارون -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وكادوا يقتلونه لنهيهم عن عبادة العجل، وقد تَعَرَّض المسلمون الأوائل بعد وفاة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهذا النقص الشديد؛ حين ارتد أكثر العرب واتبعوا أدعياء النبُوَّة ولم يكن يُسجد لله في الأرض إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومسجد عبد القيس في جواثا بالبحرين، لكن ثَبَّت الله أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فثبت بثبوته الصحابة، وحاربوا المرتدين حتى نصرهم الله عليهم وقضوا على الردة نهائيًّا، وانتشرت بعد ذلك الفتوح ففتحت المشارق والمغارب، ووصلت دولة الإسلام شرقًا إلى الصين، وغربًا إلى الأندلس، وشمالًا إلى القوقاز، وجنوبًا إلى إفريقيا.

ثم وَقَعَت الفتن المتتابعة؛ لينظر الله كيف نفعل، وكيف نعبده في زمن الغربة، وتحمل مشاق الغربة، وهو -سبحانه- يحب من عباده المؤمنين الغرباء أن يتحملوا ذلك، وقد شهدنا في زماننا صحوة إسلامية، وعودة إلى الالتزام بالدين كتابًا وسُنَّة ويَقَظَةً واسعة، لترك البدع والخرافات والدعوة إلى تحكيم الشريعة والحفاظ على هوية الأمة، ثم وقعت الفتن.

وها نحن نرى خطر تفريغ الأجيال القادمة مِن شخصيتها الإسلامية، ونشر الشبهات والشهوات في الشباب، والشبهات أخطر والشهوات أكثر؛ فقد أَطَلَّت الخُرافة مِن جديدٍ، وظهرت البدع المخالِفة لمنهج السلف مرة أخرى، بل وظهر الإلحاد والاعتراض على القرآن صراحة، فضلًا عن الطعن في السُّنة ومرجعيتها وثبوتها ومصادرها، وقَوِيَت حركة التغريب واعتبار ذلك تَمَدُّنًا حضاريًّا، وانتشرت فكرة فصل الدين عن الدولة والسياسة -بل عن الحياة كلها- وإلغاء مرجعية الشريعة في مواجهة القانون الوضعي، والدعوة صراحة لإلغاء "الولاء والبراء" كأنه ليس منصوصًا عليه في القرآن!

بالإضافة إلى كَمٍّ هائلٍ مِن الشبهات حول عامة قضايا التوحيد والإيمان.

أما الشهوات فالمال والجنس والمواقع الإباحية والمخدرات، والصراعات السياسية على المُلك والرياسة والسيطرة تمثِّل أخطر الاختراقات التي تهدد مجتمعَنا.

وكذا إلهاء الشعوب بالمسلسلات والأفلام ومباريات الكرة العابرة للقارات فضلًا عن المحلية؛ مما صارت معه المحافظة على الصلاة في الشباب والنساء نسبة ضئيلة، وصار تعمير المساجد لكبار السن كما كان قبل "الصحوة"، وأصبح الفِطر في رمضان أمرًا مُعتادًا في كثيرٍ مِن البلاد، أما كثرة سفك الدماء بغير حق والسباب والقذف، بل سب الدين -وأحيانًا سب الإله سُبْحَانَهُ- فأصبح أمرًا اعتادته كثيرٌ مِن الشعوب!

فما المخرج إذًا؟!

أولًا: لابد مِن إدراك الخطر والشعور بالأزمة؛ لاستخراج الطاقة الكاملة المتكاسلة عند الكثيرين، والتي صبغ خمولها حياتنا بالعجز والكسل -نعوذ بالله مِن العجز والكسل-.

ثانيًا: لابد مِن الاهتمام ببناء الإنسان؛ فهو حجر الزاوية في الإصلاح والتغيير، فلابد مِن الاهتمام بالعلم بالوحي "كتابًا وسُنَّةً" ليكونا أساس بناء الإنسان؛ عقيدةً، وعملًا وسلوكًا، ومنهجًا، ولابد مِن الاهتمام بأداء العبادات على وجهها وفي أوقاتها، والحذر مِن تضيعها، قال -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت:45)، والعودة إلى تعمير المساجد، والمحافظة على الأذكار الموظَّفَة وغير المُوَظَّفة، ولابد في مسائل العلم مِن إتقان الرد على الشبهات المُضِلَّة والبِدَع المحدَثة القديمة منها والحديثة، وإعداد فِرَق مِن طلاب العلم للتخصص في القضايا المختلفة المطروحة؛ ابتداءً مِن الإلحاد، والحلول والاتحاد، ونفي الصفات والأفعال، والقول بالجبر أو نفي القَدَر، إلى مسائل التكفير وفكر الخوارج، والتشيع والرفض، والتغريب، وغير ذلك مِن أنواع البدع. 

ثالثًا: لابد مِن الدعوة إلى الله بكل الوسائل، والوصول إلى كل طبقات المجتمع، ورفض التحوصل؛ للحفاظ على كيان المجتمع بالحفاظ على الكيان الدعوي للدعوة الوسطية الحقيقية الصحيحة -الدعوة السلفية-، ورفض خيارات التدمير والتخريب والصراع الصفري كما يسميه أصحابه.  

رابعًا: لابد مِن التحمُّل والصبر والثبات على ثوابت الدين، والبذل والتضحية في سبيل ذلك، (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:1-3).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة