الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

حزب النور ومقترحات التعديل الدستوري

حزب النور ليس مِن الزمَّارين -ولن يكون

حزب النور ومقترحات التعديل الدستوري
جمال متولي
السبت ٢٣ مارس ٢٠١٩ - ٢٣:٠٣ م
1085

حزب النور ومقترحات التعديل الدستوري

كتبه/ جمال متولي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالتعديلات (المقترحة) على دستور 2014م هي الشغل الشاغل للنخبة السياسية الآن، ومما لا شك فيه أن الأمر يستحق مثل هذا الانشغال، بل وأكثر؛ إذ كما نعلم: الدستور ليس مجرد قانون مِن القوانين مهما كانت أهميتها بالنسبة للمواطن المصري الذي لربما قضى البعض عمره، والكثير مِن ترسانة القوانين المصرية لم تمسه أو يحتاج إليها في حياته.

بعكس الدستور الذي -كما هو معروف- هو: العقد الاجتماعي الذي ينظِّم شأن المجتمع والدولة مِن جميع النواحي، وينظم العلاقة بين المواطن -كل مواطن-، وبين مؤسسات الحكم والرئيس في الوطن؛ لذلك فالدستور يخص المواطن ولو كان جنينًا في بطن أمه، بل ولربما يخص أيضًا المواطن بعد وفاته، وليس في حياته فحسب.

ومِن هنا كان حقيق لكل المواطنين أن ينشغلوا به، وليس فقط النخبة السياسية.

ويترقب المجتمع -ولا شك- آراء نخبته وأحزابه السياسية؛ لينيروا له طريق مقترحات هذه التعديلات ويوضحوا، كل حسب رؤيته ما في هذه المقترحات مِن مثالب وسلبيات، ولربما سيئات، وما فيها أيضًا مِن مزايا وإضافات إيجابية، ولربما ضرورات بحسب وجهات نظر أخرى.

وسنجد مَن يتبنى أيًّا مِن وجهتي النظر هاتين، ويتحمس لما يتبناه أو لما يراه مَن يقتنع به مِن السياسيين، وسنجد أيضًا مَن يرفض مناقشة مبدأ التعديلات دون أي نقاش؛ لمجرد الظن المتحسس ممَن خططوا أو اقترحوا هذه التعديلات، والهدف والغاية مِن ورائها.

وسنجد مِن بين شعبنا مَن يرفع أو يهوي سواء بآراء أو بأشخاص أو بأحزابٍ تؤيد أو ترفض؛ كل حسب قناعته، بل ولربما حسب عاطفته وليس للقناعة!

وحزب النور مِن بين الأحزاب المصرية التي أعلنت رؤيتها في هذه المقترحات مبدئيًّا؛ إذ لابد من الوضع في الاعتبار أن الأمر حتى اللحظة هو عن مبدأ القبول بمقترحات التعديلات أو الرفض، ولم نصل بعد للتفاصيل التي لابد بعد الانتهاء مِن صدور النسخة النهائية منها مِن تحديد الرأي القاطع إما بالقبول المطلق أو الرفض المطلق.

قلنا ونكرر القول: حزب النور ليس مِن الزمَّارين -ولن يكون- الذين يهللون ويطبلون لكل ما يأتي ويصدر عن السلطة معتبرين أنه عين المصلحة للشعب والوطن، أو أنها السلطة التي لا يأتيها الباطل مِن بين يديها ولا مِن خلفها!

وأيضًا: حزب النور ليس مِن المتذمرين مِن وطنه -ولن يكون- الكارهين والمتربصين بكل ما يصدر مِن السلطة، ولا يري فيه إلا غصبًا مِن حق المواطن.

فمِن نافلة القول: نكرر أن حزب النور ينتمي لمدرسةٍ إصلاحيةٍ عميقة الجذور، تأسست على الإنصاف والحكم على الأشخاص والمواقف بحسب مجمل ما فيها مِن خير يَنتفع منه الناس، أو شرٍّ يَفتن الناسَ ويهضم حقوقهم.

وهو ما تعرِّفه العلوم السياسية حديثًا بالطريق الثالث الذي لا هو مؤيد ويوافق لمجرد التأييد، ولا هو معارض ورافض لمجرد المعارضة.

ولن نكرر ما يردده البعض: مِن أن الدستور ليس نصوصًا قدسية لا يصح الاقتراب منها أو إعادة التفكير فيها، وأنه منتج بشري قابل للتعديل والتغيير والمناقشة.

ولا قول مَن يقول: إن الدستور هو العقد الاجتماعي الثابت الراسخ لعقودٍ مِن الزمن لا يتطور ولا يتبدل.

وبالرغم من ذلك: فإننا نري أن الدستور هو: وثيقة نظام الحكم بين المواطن وسلطة الحكم التي ينبغي ألا تطولها يد العبث ولا شخصنته ولا تفؤيئته -أي ترجيحه لفئة- بحالٍ مِن الأحوال؛ وإلا لضاعت هيبته، وفقد قيمته وصفته.

لماذا الموافقة الجزئية على مبدأ مقترحات التعديلات؟

مِن حيث المبدأ: أعلن حزب النور موافقته وقبوله جزئيًّا لمبدأ (مقترحات) التعديلات، وليس كما يزعم المناوئون والمتربصون لحزب النور، بأنه وافق على مجمل مقترحات التعديلات.

وقبل الدخول في التفاصيل وحتى نكون محددين؛ لاحظ قارئي العزيز: أن موافقتنا الجزئية هي على (مقترحات تعديل)، وهذا ما نؤكد عليه؛ مما يعني بوضوح أننا في انتظار النسخة النهائية لما نستطيع ان نُسميه تعديلات الدستور، فالمطروح حتى الآن هي نقاشات وحوارات حول مقترحات، وليست نصوصًا نهائية.

لماذا الموافقة الجزئية على مبدأ مقترحات التعديلات؟!

من هنا كانت الموافقة والتأييد (الجزئي) لمقترحات التعديلات؛ مما يعني أن (مقترحات) التعديلات منها ما نراه تطورًا إيجابيًّا، كما أن منها ما هو قابل للنقاش والحوار، ويحتمل لمساحات الرفض والقبول بأريحية -من وجهة نظرنا على الأقل-، ومنها -ولا شك- ما يستحق الرفض بجدارة، وهذا هو المقصود بالتأييد الجزئي من حيث المبدأ للمقترحات المطروحة.

فمِن إيجابيات التعديل على سبيل المثال -فيما نراه-:

اقتراح تعديل نص المادة (160)، والذي يستهدف استحداث منصب نائب أو أكثر لرئيس الجمهورية؛ وذلك لمعاونته في أداء مهامه وتنظيم الحالة الخاصة بمَن يحل محله حال غيابه أو إذا تعذر القيام بمهامه.

واسمحوا لنا بإنعاش ذاكرتنا السياسية: بأن أحزاب المعارضة المصرية بلا استثناء في "عهد مبارك"، وقبل ثورة 25 يناير 2011م، بحت أصواتهم مِن المناداة بضرورة تعيين نائب لرئيس الجمهورية آنذاك، حتى إن "مبارك" وتحت الضغط المتكرر من المعارضة آنذاك استجاب (جزئيًّا وشكليًّا) لهذا الطلب تحديدًا، ولكن بدلًا مِن أن يعين نائبًا للرئيس عيَّن وزير الدفاع آنذاك السيد أبو غزالة تحت مسمى مساعد رئيس الجمهورية.

صحيح كان هدف المعارضة مِن الإلحاح على مبارك في تعيين نائب له هو قطع الطريق على توريث الحكم لابنه جمال -كما كان مزمعًا حينذاك-، لكن يظل المبدأ أن استحداث هذا المنصب في الدستور خطوة لا يمكن اعتباراها شرًّا محضًا (مع الأخذ في الاعتبار أن هناك بعض الأصوات التي تعتبر أن استحداث هذا المنصب الآن، يعني توريثًا للحكم متسترًا للنائب الآتي)، ولكن يظل مثل هذا التخيل بعيدًا في ظل وجود انتخاباتٍ حقيقيةٍ، وصناديق انتخابية يتم فرزها في مكان التصويت، وليس استفتاءً على رئيس الجمهورية، كما كان في العهود السابقة على الثورة المجيدة؛ فضلًا عن كون هذا المنصب كان منصوصًا عليه في الدساتير المصرية المؤقتة والدائمة منذ حركة الضباط الأحرار في 52 وحتى الإعلان الدستوري الصادر في 13 فبراير 2011م الذي عطل العمل به، قبل أن يتم إلغاؤه عقب الاستفتاء على دستور مصر الحالي، والصادر في 18 يناير 2014م.

وفي رأيي الشخصي: إن وجود نائب لرئيس الجمهورية قد يكون مفيدًا بحقٍّ؛ خاصة لو أن الرئيس -أي رئيس- فوَّض نائبه تفويضًا حقيقيًّا في بعض الاختصاصات الرئاسية المهمة؛ إذ إن هذه النيابة مِن الأهمية بمكانٍ، وليست منصبًا شرفيًّا كما يتصور البعض، اللهم إلا إن جعله الرئيس وقتذاك مجرد سد خانة.

أما المادة (140) التي تنص على تعديل مدة الرئاسة مِن أربع سنوات إلى ست سنوات، فإن مثل هذا التعديل بعيد عن المادة الانتقالية بالطبع، مع التذكير بأن المادة 226 مِن الدستور لا تمنع ولا تحظر تعديل مدة الرئاسة، لكنها تمنع إعادة انتخاب الرئيس لأكثر من مدتين، ومن المؤكد أن هذا قابل للنقاش؛ إذ إن الحديث منحصر هنا عن مدة الرئاسة، وليس عن عدد ولايات الحكم.

ونحن نتفهم جيدًا ونعرف حساسية تلامس التعديلات ولو للمدة الواحدة للرئاسة؛ إذ إن تحديدها بأربع سنوات هو واحد مِن مكتسبات ثورة 25 يناير.

والست سنوات على وجه الخصوص ذات سمعة سيئة لدى المواطن المصري؛ إذ إنها المدة التي تم تحديدها بعد حركة 52 لتناسب الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" آنذاك وبقيت حتى الثورة، وكان ما بين ذلك تتأرجح بين ولاية تفصلها عن لاحقتها للرئيس الواحد مدة مماثلة خارج الرئاسة كما كان في دستور 71، وولايات مفتوحة العدد في دستور 80؛ ليستفيد منها الرئيس "السادات"، ولم يحصل له ذلك، واستفاد منها مبارك.

أخطر ما في مقترحات التعديلات:

وبما أننا اخترنا بعضًا مِن مقترحات تعديل الدستوري وأخضعناها للمناقشة، وقلنا: إنه -على الاقل في رأينا- يمكن مناقشة بعض مِن هذه التعديلات، وهناك تعديلات أخرى يستحيل تمامًا مناقشتها؛ لأنها -ومِن دون مواربة- تصطدم مع هوية الشعب المصري وثوابته بشكلٍ مباشرٍ.

ومِن هذه المقترحات: هذه الكلمة اللقيطة المسماة: بـ"مدنية الدولة" التي تم -أو يتم- إقحامها وحشرها داخل المادة 200 - الفقرة الأولى من مقترحات التعديل، وبشكل اختار مقترحوها أن يكون منزويًا داخل التعديل الخاص بالمؤسسة العسكرية التي تحتل في نفوس وقلوب المصريين مكانة اعتزاز وفخر؛ ليتم تمريرها بهذا الانزواء، وكأنهم يتوارون ويتترسون بدرع الشعب (قواته المسلحة) خوفًا مِن ردة الشعب عليهم؛ إذ يعلمون أن الشعب المصري لن يَخيل عليه مثل هذا التلاعب بإقحام وحشر الكلمات التي لا هدف مِن ورائها إلا طمس هويته والاعتداء بها على ثوابته الوطيدة.

والنص المقترح يقول: "القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، وصون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب، وحقوق وحريات الأفراد، والدولة وحدها هي التي تنشئ هذه القوات، ويحظر على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية".

ونحن في حزب النور حينما نقول: إن (مدنية الدولة) تعبير لقيط؛ فذلك لأنه بالفعل لا يوجد في قواميس المصطلحات السياسية الموثقة والعلمية مثل هذا المصطلح على الإطلاق.

وحينما نرفض هذه الكلمة فلا يمكن أن يزايد علينا أحدٌ؛ فإننا مِن أشد أنصار تحديث الدولة وإدارتها بالأسلوب العلمي الرصين الذي يعمل على تطويرها في كل مناحي الحياة في إطار هويتها الأصيلة المتمثلة في مرجعيتها فوق الدستورية، وهي أن دين الدولة: "الإسلام، والشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع فيها"، وإنما نرفض كلمة مدنية؛ لأنها مِن الناحية العلمية لا دلالة لها محددة، ولا معلوم لها معنى يمكن أن نسير عليه ونقول إنه المقصود بمدنية الدولة!

وبعد جهدٍ جهيدٍ في البحث والتنقيب عن مدلول مدنية الدولة في العلوم السياسية وفشل الحصول على هذا المصطلح الغريب داخل مراجعها، قمتُ بسؤال بعض مِن أساتذة العلوم السياسية والخبراء السياسيين عن مدلول الكلمة أو المصطلح -إن جاز لنا أن نسمي مدنية الدولة مصطلحًا!-.

وكانت الإجابة الأشمل مِن السيد الدكتور خبير العلوم السياسية "عمرو هاشم ربيع" -نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، وهو أعرق مركز دراسات في الشرق الأوسط- نصًّا هي: "لا نستطيع أن نقول: إن مدنية الدولة لها معنى محدد نستطيع أن نفسِّر ونفكك به الكلمة، بل هي من الكلمات المطاطة شديدة المرونة التي مِن السهل أن يستخدمها ويطوعها كلُّ مَن يريد أن يستخدمها، فرجال الدين يمكنهم أن يستخدموها في نظامهم مدعين أنها تعني أن الدولة ليست عسكرية. والسياسيون يمكنهم أن يستخدموها في نظام الدولة مدعين أن مدنية الدولة تعني فصلها عن الدين، وجيشها بعيد عن السياسة فيها.

والعسكريون يمكنهم أن يستخدموها في نظامهم مدعين أنها تعني عدم حكم رجال الدين، وهكذا... تعبير مطاط -وليس مرنًا-، وليس له تفسير تستطيع أن تقول هذا هو التفسير المحدد للكلمة".

الاعتداء على الشريعة باسم مدنية الدولة:

والخطورة في حشر مدنية الدولة في هذه المقترحات هو ما وجدناه مِن ممارسة عملية واقعية في استغلال هذه الكلمة بالاعتداء المباشر والسافر على شريعة الله -سبحانه وتعالى- في تونس، وتونس دولة عربية مسلمة تنص المادة الأولى في دستورها على أن: "تونس دولة حرة مستقلة، وذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها... ".

وتنص مادتها الثانية على أن: "تونس دولة ذات طبيعة مدنية... ".

ونتذكر أن السيد/ سمير ديلوا -وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في تونس في الحكومة التي تلت إقرار هذا الدستور قال نصًّا يومئذٍ في حواره مع إذاعة "بي بي سي" لندن بتاريخ 29-1 -2014م: "النص على أن تونس دولة مدنية باعتبارها مرجعية مشتركة لا يجعل مِن تونس بلدًا علمانيًّا".

وكلنا يعلم أن تونس اليوم قد تجرأت واعتدت على شريعة الإسلام في المواريث وحرَّفتها وغيرتها وبدلتها باسم مدنية الدولة المنصوص عليها دستوريًّا لديهم.

والرئيس التونسي "السبسي" حينما خرج ليسوِّغ هذا الاعتداء على حدود الله -تعالى- المقدسة، قال نصًّا: "نحن مرجعيتنا ليست القرآن أو الدين، ولكن الدستور التونسي الذي ينص على أن تونس دولة مدنية!".

اي ان المدنية عند "السبسي" وعند برلمان تونس تعني العلمانية في أفج وأقبح صورها، والتي تعني تصادمها وتقاطعها مع الدين وثوابت الأمة!

فهل نضع رؤوسنا وعقولنا في الرمال، ونصدق أن المدنية لا تعني العلمانية، ولا تعني فصل الدين عن الأمة؟!

وهل ننتظر في مصر أن يخرج علينا مَن يستغل مثل هذه الكلمة اللقيطة؛ ليميع ويضيع هوية المصريين ويعتدي بها على ثوابتهم، ويُفرغ الدستور من مضمونه ليجعله متعارضًا متصادماً بين مواده؛ مما ينذر بحالة شديدة الخطورة إذا ما كان ذلك لا سمح الله؟!

وللقاضي -أي قاض- بشكلٍ خاصٍّ، والمحاكم القضائية بشكلٍ عامٍّ وظيفة وغاية، أما الوظيفة فهي تطبيق القانون، وأما غاية هذه الوظيفة فهي تحقيق العدل؛ هذا بإيجاز شديد وبشكل مباشر ما يدعونا أن ندخل في الموضوع مباشرة، ومِن دون أي مقدمات فنقول: مِن أجل تحقيق هذه الغاية بشكل سليم وجاد لابد للقاضي مِن أمرين لا يمكن أن يتحقق العدل مِن دونهما وهما: "الاستقلال والحصانة".

ومِن المستحيل تصور تحقيق العدل بين المتخاصمين -اي متخاصمين- سواء كانت الخصومة بين المواطنين وبعضهم أو بين المواطنين وجهات الإدارة المختلفة في البلاد؛ إلا بتحقيق الاستقلال الحقيقي للسلطة القضائية، وهذا الاستقلال الذي يضمن للقاضي أن ينطق بالعدل والحق لصاحبه دون تخوف مِن أن يتأثر شخصيًّا أو وظيفيًّا بما حكم به.

والدساتير في الدول المحترمة تضع الاستقلال الكامل للقضاء مواضع الاهتمام والعناية القصوى باعتبار أن هذا الاستقلال ليس لصالح القاضي في حقيقته، بل لصالح المواطن وحقه في التقاضي مِن الدرجة الأولى.

ثم إن مِن سمات صحة المجتمعات والحكم الرشيد فيها هو الفصل الكامل غير المنقوص بين سلطات الدولة الثلاث: "التنفيذية والتشريعية والقضائية"، وضمان عدم تدخل سلطة مِن هذه السلطات في أعمال الأخرى، وبصفة أخص سلطتي التشريع والقضاء لابد من حمايتهما وصونهما، بل وتحصينهما مِن أي تغول من السلطة التنفيذية على أيٍ منهما.

لذلك فإن الصورة التي نراها على المحاكم هي تعبير دقيق عن تحقيق ضمانة مبدئي العـــدل والمســـاواة بين المتنازعين، وهي صورة سيدة معصوبة العينين، والتي تعني أن العدالة لا تنظر ولا تعرف أشخاص المتنازعين، وأنهم أمامها على قدمٍ سواءٍ.

وبالنظر في التعديلات الأخيرة المقترحة نجدها تنسف مبدأ هذا الاستقلال بأبشع صوره؛ إذ كيف نضمن استقلالًا حقيقيًّا للقضاء مع وجود مجلس القضاء الأعلى برئاسة رئيس السلطة التنفيذية نفسه؟! (وبغض النظر عن شخص هذا الرئيس وسلوكه أو إدارته كما في اقتراح تعديل المادة 185 بإنشاء مجلس أعلى للهيئات القضائية برئاسة رئيس الجمهورية)؛ إذ إن هذه الوضعية مِن حيث المبدأ تشي بإمكانية التدخل إذا ما اقتضي الأمر في شئون القضاء وضرب استقلاله في مقتل!

فمثل هذا التعديل لا يمكن معه اليقين في حِس المواطن أنه إذا ما احتاج للإنصاف مِن ظلمٍ وقع عليه من جهة الإدارة أن يضمن أن القاضي الذي يرأسه في الأساس رئيس الجهاز التنفيذي والإداري للدولة، أنه سينصفه منها.

فضلًا عن التعديلات المقترحة الأخرى المذكورة في المادة (189)، التي تستهدف في الفقرة الثانية: اختيار النائب العام مِن بين ثلاثة يرشحهم مجلس القضاء الأعلى، ويصدر بالاختيار قرار مِن رئيس الجمهورية.

والمادة (193) "فقرة ثالثة": التي جعلت اختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا وتعيينه بيد رئيس الجمهورية أيضًا، وإن كان الاقتراح يقول إنه من بين أقدم خمسة نواب رئيس المحكمة.

وكذلك إحداث منصب نائب رئيس المحكمة مِن بين اثنين: أحدهم ترشحه الجمعية العامة للمحكمة، ويرشح الآخر رئيس المحكمة، ويصدر قرار التعين مِن رئيس الجمهورية.

فإن مثل هذه التعديلات لو تمت -كما هو مقترح- فإننا بذلك نطعن المواطن المصري في أخص حقوقه مِن ناحية، ومِن ناحية أخرى: نحن نرى أن الدولة جادة فعلًا في مكافحة الفساد وضربه في جذوره، ومِن البديهي أن المجلس التشريعي يراقب أداء السلطة التنفيذية والقضاء يراقبها قانونيًّا؛ فكيف يستقيم أن تحارب الدولة الفساد والرئيس يعين رؤساء الهيئات القضائية، والنائب العام، ورئيس المحكمة الدستورية، وهم المنوط بهم هذه الرقابة؟!

وكما أنه يستحيل عقلًا أن يتم تعيين رئيس المجلس التشريعي بحال، فكذلك ينبغي أن يكون رؤساء الهيئات القضائية أيضًا حتى تستقيم الأمور، وكما ذكرنا في بداية كلامنا -في إيضاح موقف حزب النور وسبب تحفظه، بل ورفضه لبعض هذه التعديلات، ومنها مقترحات المواد المتعلقة بالقضاء-: أننا نربأ بالبرلمان وبالنظام السياسي المصري ككل ألا يرفع عن مصر الحرج مِن البخس بها وبسمعتها السياسية والدستورية في نظر الآخرين، وخاصة أن هؤلاء الآخرين ربما يكون عمر دولهم ذاتها مِن عمر أول دستور كتبه المصريون، فمصر أكبر وأعظم مِن أن يقف رئيسها في كل زيارة ليدافع ويسوغ عن أخطاء وأفكار تتسبب في خلق الحرج لمصر!

الكوتة:

مصطلح يعبِّر عن اتخاذ السلطة التدبير أو الإجراء الذي يضمن التمثيل النيابي للفئات المهمشة أو الأقليات لفترةٍ او لمرحلةٍ مؤقتة، وهو ما يسمَّى بالتمييز الإيجابي لهذه الفئات.

ولقد أُطلِق لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية على سياسة تعويض الجماعات المحرومة (الأقلية السوداء) في ستينيات القرن الماضي، بأن ألزمت السلطات حينذاك المؤسسات التعليمية بتخصيص نسبة معينة للأقليات السوداء -والتي كانت محرومة ومضطهدة حينذاك-، ثم انسحب هذا الإجراء بعد ذلك إلى التمييز السياسي بهدف إيصال المرأة إلى مراكز التشريع أيضًا كإجراءٍ مؤقت ومرحلي.

بدأ العمل بنظام الكوتة النسائية في مصر عام 79 وظل حتى عام 1986، حيث حكمت المحكمة الدستورية ببطلانه لإخلاله بمبدأ المساواة، ثم عاد مرة أخرى بمقتضى القانون 149 لسنة 2009، وتم النص على أن يكون النظام مؤقتًا، وحدد القانون له فصلين تشريعين فقط.

وهكذا نجد نظام الكوتة في سائر مراحله نظامًا مؤقتًا ومرحليًّا؛ حتى عند نشأته في أصل مصدره.

وهذه المرحلية التي تعني تنبيه المواطن لمدة مؤقتة يظهر له فيها أداء وقدرات الفئات المهمشة أو المحرومة لسببٍ أو آخر في تمثيله، ثم بعد ذلك تٌدمج هذه الفئات في العملية الانتخابية كسائر المواطنين المرشحين، ويقيم الناخب بعدها مثل هذا الأداء حتى يصل إلى الاختيار الحُر المباشر بين كافة المرشحين أمامه دون تمييز يٌفرض عليه ويلزمه باختيارٍ رغمًا عنه.

اما أن تهل علينا مقترحات تعديل الدستور بفرض كوتات على المواطن المصري ثبت عمليًّا أنها كانت عبئًا عليه على مرِّ التاريخ السياسي، ولم تكن يومًا إضافة ذات قيمة له؛ اللهم إلا في استثناءات معدودة ليس إلا.

وحتى نكون أكثر صراحة:

يَشهد التاريخُ السياسي عمومًا "والبرلماني خصوصًا" أن نظامَ الكوتة لأي فئةٍ، ما كان يومًا يصب في صالح تمثيل المواطن تمثيلًا نيابيًّا جادًّا؛ إذ إن كوتة الـ 50% عمال وفلاحين على سبيل المثال، متي كان لها فائدة حقيقية وجادة في البرلمان؛ اللهم إلا في مرحلة الستينيات ليس إلا، وذلك بعد أن كان لا يصل إلى البرلمان إلا الإقطاعيين أو أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، ولم يكن ممكنًا لعامل أو فلاح الوصول للبرلمان بالرغم مِن أنهم القاعدة العريضة في المجتمع!

من هنا كان فعلًا لابد مِن النص على وجوب حجز حصة للعمال والفلاحين، ولكن بعد فترة الستينيات، بل وفي منتصف السبعينيات تغيير الحال تمامًا، وبدأ يستغل هذا النص ويستفيد منه أيضًا غير العمال والفلاحين، حتى بتنا نرى طوال العقود الماضية أن غالب العمال والفلاحين في البرلمان المصري لا يمتون لهذه الصفة بصلة على الإطلاق، وأصبحت الحصة المحجوزة للعمال والفلاحين يستغلها أساتذة جامعات وأصحاب المناصب الإدارية العليا والمرموقة!

حتى بٌح صوت الخبراء والوطنيين -بما يشبه الإجماع- بضرورة إلغاء هذه الحصة، حتى استجابت لذلك لجنة الخمسين فنصت عليها في دستور 2014م لفصلٍ تشريعيٍ واحدٍ.

فما هو الجديد الذي طرأ حتى يخرج علينا مَن يريد استرجاع ديمومة هذه الحصة مرة أخرى؟! اللهم إلا إن أراد بذلك نفس الاستغلال السيئ لهذا التمييز.

ونفس الشيء يُقال عن الكوتة النسائية، فمنذ نشأتها والنص عليها في سبعينيات القرن الماضي حتى آخر مظاهرها ما كان في برلمان 2010 الذي جاءت كوته فيه بـ 64 امرأة كلهن كُن مِن أعضاء الحزب الوطني أو الموالين له تمام المولاة!

ولم نرَ ممَن نجحن في الكوتة مَن قامت بالدور الرقابي الأمثل على مرِّ تاريخ تلك الحصة في مصر، فلم نجد منهن استجوابًا -مثلًا- ضد الحكومات المتعاقبة بعد كارثة أو حادثة فساد واحدة!

وما كُن إلا صوتًا لإرادة الحكم السياسية وليس صوتًا للناخب أو الناخبة بحال!

ثم نعود لحقيقة الموقف: وهو ما ذكرناه في بداية حديثنا مِن أن الأنظمة السياسية المتعاقبة تصنع الكوتات لمرحلة يتم بعدها الدمج السياسي الطبيعي فيما بعد للفئات المقصودة، بعد اطلاع الموطن على وجودها ووقوفه على جودة أدائها، لا مِن أجل ديمومتها واستمراها بما يخل بمبدأ المساواة.

وأن الرغبة في استمرار هذا الوضع الاستثنائي لا يعني سوى احتمالين اثنين لا ثالث لهما:

الأول: الفشل الذريع لهذه الفئات في القيام بمهمتها التشريعية ودورها الرقابي، مما لا يمكنها إقناع المواطن بجدارة تمثيلها، ومما لا شك فيه أن الفشل محسوب على النظام السياسي الذي لم يفلح في تجويد أداء هذه الفئات.

والثاني: أن يكون الهدف من ديمومة هذه الكوتات هو حجز أصوات مؤيدة للإرادة والسياسة الحكومية بشكلٍ مطلقٍ.

وهذا ما يجعلنا في حزب النور نرفض النص على ديمومة واستمرار هذه الكوتات برمتها، وليس رفض نوعٍ محددٍ منها.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة