الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الثبات (8)

عوامل الثبات (4) الرفقة الصالحة

الثبات (8)
سعيد محمود
الخميس ١١ أبريل ٢٠١٩ - ٠٠:٠٤ ص
921

الثبات (8)

عوامل الثبات (4) الرفقة الصالحة

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الصالحون يراقب ويتعاهد بعضهم بعضًا، فإذا ضعف أحدهم أو انحرف، أو تعرض لفتنةٍ، هبُّوا لمساعدته والوقوف بجانبه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

- الصالحون إذا نسيتَ ذكروك، وإذا ذكرت أعانوك: قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إخواننا أحب إلينا مِن أهلينا وأولادنا؛ لأن أهلنا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا الآخرة" (قوت القلوب لأبي طالب المكي).

- الصالحون قوة وعون على فعل الطاعات، ومواجهة المحن والأزمات: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا . إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا) (طه:29-35).

(1) فضل الرفقة الصالحة وخطر الرفقة الفاسدة:

- وجوب الحرص على مرافقة الصالحين، واجتناب الغافلين والفاسدين: قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف:28).

- الرفقة الصالحة نفع وخير وصلاح، والرفقة الفاسدة ضرر وشر وفساد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (متفق عليه)، وفي حديث قاتل المائة نفس: (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) (رواه مسلم).

- احذر الرفقة الفاسدة، وإلا كان الندم: قال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) (الفرقان:27-29).

- كثرة المخالطة تجلب المشابهة؛ فاحذر التأويلات الفاسدة في مرافقة الفاسدين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).  

وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "رفيق التقوى صادق، ورفيق المعاصي غادر"(1).

وقال الشاعر:

فـلا تـصاحـب أخـا الـجـهـل وإيـاك وإيـاه          فكم مِن جاهل أردى حليمًا حين أخاه(2)

(2) أثر الرفقة الصالحة في التثبيت:

- سبق أن الصالحين يراقب بعضهم بعضًا، ويتفقد بعضهم بعضًا؛ فإذا تعرض أحدهم لفتنة هبوا لمساعدته بالتثبيت والإعانة بما يستطيعون، وإليك بعض الصور والأحداث الدالة على أهمية تثبيت المسلم لأخيه.

1- تثبيت عمر بن الخطاب لرجلٍ مِن أهل الشام قد فُتن بشرب الخمر:

- قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله -تعالى-: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (غافر:3): "عن يزيد بن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ففقده عمر فقال: ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، يتابع في هذا الشراب. قال: فدعا عمر كاتبه، فقال: اكتب: مِن عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه، وأن يتوب الله عليه. فلما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرؤه ويردده، ويقول: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي. ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان، وزاد: فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع، فلما بلغ عمر -رضي الله عنه- خبره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زل زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه" (تفسير ابن كثير).

2- تثبيت العلماء والصالحين الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن:

- ذكر الذهبي -رحمه الله- في السير: "أن أحمد بن حنبل لما حُمل إلى المأمون، كان معه محمد بن نوح، وكان قد مات في الطريق، وكان مِن كلامه لأحمد: "يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لستَ مثلي، أنت رجل يُقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتقِ الله، واثبت لأمر الله".

- وقال الذهبي -رحمه الله- أيضًا: "قال أبو جعفر الأنباري: لما حُمل أحمد إلى المأمون، أخبرت فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر، تعنيت. فقلت: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن، ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب، ليمتنعن خلق من الناس كثير. ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لا بد مِن الموت، فاتقِ الله ولا تجب. فجعل أحمد يبكي، ويقول: ما شاء الله. ثم قال: يا أبا جعفر، أعد علي فأعدت عليه، وهو يقول: ما شاء الله".

- ولما وضع الإمام أحمد في السجن قال: "لست أُبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلًا بالسيف، إنما أخاف فتنة السَّوط، فسمعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان، ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سري عنه".

3- تثبيت القاضي الفاضل صلاح الدين الأيوبي في حرب الصليبيين:

كان صلاح الدين محاصرًا الصليبيين في عكا ثلاث سنوات متصلة، في أحوال عصيبة، وقوارع مخيفة، وقد أستبطأ النصر، فجعل وزيره ومستشاره القاضي الفاضل يرسل إليه مِن مصر رسائل التثبيت المعينة على الصبر وانتظار النصر من الله -عز وجل-، وهذا مقطع مِن إحداها، قال: ... يا مولانا، أليس الله -تعالى- اطلع على قلوب أهل الأرض فلم يؤهّل ولم يستصلح، ولم يختر ولم يُسهل، ولم يستعمل، ولم يستخدم في إقامة دينه وإعلاء كلمته وتمهيد سلطانه وحماية شعاره وحفظ قبلة موحديه، إلا أنت، هذا وفي الأرض مَن هو للنبوة قرابة، ومَن له المملكة وراثة، ومَن له في المال كثرة، ومَن له في العدد ثروة، فأقعدهم وأقامك، وكسَّلهم ونشَّطك، وقبضهم وبسطك، وحبب الدنيا إليهم وبغَّضها إليك، وصعّبها عليهم وهونها عليك، وأمسك أيديهم وأطلق يدك، وأغمد سيوفهم وجرّد سيفك، وأشقاهم وأنعم عليك، وثبطهم وسيرك: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:46)، وجعل يبشِّره بالنصر القريب" (انظر: البداية والنهاية، وسير أعلام النبلاء).

- العلماء والدعاة أعظم رفقة تعين على الثبات: قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يتكلم عن شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله: "وكُنَّا إذا اشتَدَّ بنا الخَوفُ، وساءَتْ مِنَّا الظُّنونُ، وضاقَتْ بنا الأرضُ؛ أتَيْناه، فما هو إلَّا أنْ نراه ونَسمَعَ كَلامَه؛ فيَذهَبَ ذلك كُّله، ويَنقَلبَ انشراحًا وقوَّةً ويقينًا وطُمَأْنينةً!" (الوابل الصيب من الكلم الطيب).

خاتمة: عاقبة مرافقة الصالحين:

- أنت بينهم سالم رابح، ولو كنت مِن المقصِّرين: ففي حديث الملائكة السيارة: (فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) (متفق عليه)

- مرافقة الصالحين ومحبتهم تجعلك معهم في الجنة ولو كنت دونهم في الأعمال: عن أنس -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلا قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ: لا، إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلامِ فَرَحَنَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: (إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ). قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ كُنْتُ لا أَعْمَلُ بِأَعْمَالِهِمْ. (متفق عليه).

فاللهم إنا نسألك مرافقة الأنبياء، والصحابة، والصديقين والصالحين والشهداء في جنات النعيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كثير مِن رفقاء السوء عند الاختلاف يتحول الى عدوٍّ لدودٍ، ويحمل راية الحرب على مَن كان صاحبًا له.

(2) لا منافاة بين اجتناب الفاسدين وعدم مصاحبتهم، وبين جعلهم محلًّا لدعوتنا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة