الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

كيف نختلف من غير أن نفترق؟

فلنُطَبِّق قواعد الاختلاف فيما يقع بيننا، ونفرِّق بين الاختلاف السائغ وغير السائغ

كيف نختلف من غير أن نفترق؟
ياسر برهامي
الخميس ١٣ يونيو ٢٠١٩ - ١٦:٣٩ م
1079

كيف نختلف من غير أن نفترق؟

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام عل ى رسول الله، أما بعد؛  

فمِن أكبر سلبيات شبكات التواصل الاجتماعي: أنها تُفقِد الإنسانَ الشعور بالاجتماعيات والسلوكيات الضابطة لكثيرٍ مِن التصرفات التي تمنع كثيرًا مِن الناس مِن الانسياق وراء نزعاتهم وخواطرهم التي بمجرد التلاقي مع الشخص الذي تخاطبه تصطدم بهذه السلوكيات الضابطة فتمتنع مِن الظهور، أما شبكات التواصل فإنها تستخرج أضغان الناس ونزغات الشياطين التي تخطر في قلوبهم؛ فيقوم أحدهم بمجرد ورود الخاطر على قلبه فيُفرغه ويَصُبّه على صفحته، ويُعَبِّر عن انفعالاته بأَحَدِّ الألفاظ؛ لأنه لا يواجه الشخص الذي يتكلم عنه، فتُفضح السرائر المليئة بالأحقاد والاضغان.

وخروج الأضغان ضررٌ بالِغ كما يدل عليه قوله -تعالى-: (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ . إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) (محمد:36-37)؛ فالنفوس الإنسانية فيها أضغان كثيرة مِن آثار الجهل والظلم الذي خُلق عليه الإنسان، وبالتهذيب والتربية الإيمانية تُدفن الأضغان في القاع، وتَضمر ولا يظهر أثرها السيئ على قلب الإنسان ولسانه وعمله؛ فإخراج الأضغان ضرر على الفرد والمجتمع، وللأسف سلوك أكثر الناس على وسائل التواصل الاجتماعي يخرج الأضغان، فضلًا عن عدوى الأمراض القلبية، وأمراض الألسنة والأقلام مِن السخرية والاستهزاء النابع مِن الكِبر والعُجب بالنفس، وحب مدح الناس الذي هو الرياء والسمعة النابعة مِن رؤية الكمالات الوهمية للنفس والعمى عن عيوبها، وتزيدها "اللايكات" والمديح اشتعالًا وتدميرًا.

ومِن هذه الأضغان والآفات: نشر الكذب والإشاعات لمجرد السبق الوهمي، وكثرة المشاركات، وكذلك الحسد والضيق بكثرة المتابِعين والمعجبين! وغير ذلك كثير.

وقد وقع فيما بين الإخوة خلال الأيام القليلة الماضية أنواع مِن هذه الأمراض بسبب عددٍ مِن القضايا: كقضية رؤية الهلال، احتمالها أو عدم احتمالها، وصحتها وخطئها، والحساب الفلكي واعتماده أو رَدّه، واختلاف العيد بين بعض البلاد الإسلامية والذي استوعبه المسلمون قرونًا طويلة، بل وفي عنفوان مجد الأمة ووحدة دولتها كان موجودًا هذا الاختلاف ومُستوعَبًا دون تهمة دخول السياسة في الأمر والمؤامرات، فضلًا عن السخرية والاستهزاء، كما دلَّ على ذلك حديث كُرَيب عن ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ فإنه في خلافة معاوية -رضي الله عنه- صام معاوية ومَن معه يوم الجمعة، وصام ابن عباس وأهلُ مكة يوم السبت، والعيد أيضا قد اختلف، لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه مسلم).  

ولقد أخذتْ هذه القضية بُعدًا كبيرًا يختلف عما ينبغي أن تكون عليه مسألة فقهية علمية لها أدلتها، ولكل فريق مِن أهل العلم طريقته مِن الاستنباط والاستدلال دون تباغض ولا افتراق قلوب؛ خاصة مع كون كل أهل بلد يصومون معًا ويفطرون معًا، ومسألة اختلاف المطالع -وهل لكل أهل بلد رؤيتهم أم تلزم الرؤية جميع البلاد إذا ظهرت في بلد- مسألة معروفة عبر الزمان مِن مسائل الخلاف السائغ التي يمكِن للمجتهد -وكذا الهيئة الرسمية التي تحكم بدخول الشهر- أن يكون لها ترجيحها بين هذه الأقوال، مع أن عامة العلماء على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف في الواقعة المعينة وإن لم يرفعه في المسألة العلمية، لكن المشكلة عندنا في السلوك والتعامل مع المسألة بالسخرية مِن الناس، بل ومِن المسألة العلمية ذاتها، والطعن في ذِمَم الناس، وتناقل الأخبار المكذوبة عن سبب اختلاف الدول الإسلامية التي تذكر أنها اتبعت أهواء الحكام، مع أن هذا مِن أبعد الأمور عن التصديق؛ لانعدام سندها وسخافة فكرتها.

ثم جاءت قضية ما نَشَرَه أحد رجال الأعمال مِن تعليق على أحداث سيناء يتهم فيه "صحيح البخاري" بأن بين صفحاته منبع الإرهاب!

ولا شك في كذب هذه المقولة وضررها الفظيع على المجتمع وعلى دين الناس، وهذا مما لا اختلاف فيه؛ وإنما نشأ الاختلاف مِن طريقة التعامل مع هذا المنكر ودرجات الإنكار، ومدى مُناسَبة العبارات التي يذكرها البعض لدرجة المنكر، وأيضًا مدى قبول الاعتذار مِن عدمه والمقاطعة مِن عدمها.

ولا أشك أن هذه المسائل مِن مسائل الاجتهاد التي لا ينبغي أن تُفَرِّق القلوب؛ فليس عند أحدٍ مِن الأطراف نَصٌّ قطعي من كتاب أو سُنَّه أو إجماع على طريقة تعامل معينه عن هذه الواقعة؛ وبالتالي فلا يجوز أن نتشاتم ويتهم بعضنا بعضًا، وينسج البعض أسبابًا يحلل بها مواقف الآخرين فيظنها البعض معلومة فيقررها وينشرها بناءً على ذلك، وهي مجرد ظن وتخمين وقع في نفس البعض؛ فيترتب على ذلك التباغض والشحناء والأحقاد، ونشر الأخلاق السيئة، وتضييع الأعمار فيما لا طائل تحته، بل فيما يضر ولا ينفع!

فلنُطَبِّق قواعد الاختلاف فيما يقع بيننا، ونفرِّق بين الاختلاف السائغ وغير السائغ، ولنحتمل السائغ، ومنه طريقة التعامل مع بعض الأشخاص المرتكِبين للمنكَرات في درجة الإنكار، وفي تعارض المصالح والمفاسد؛ فإنها مِن أمور الاجتهاد التي قد تخفى على الكثيرين، ولنضع نصب أعيننا مثالين وقع فيهما خلاف بين الصحابة في طريقة التعامل، وكان هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- رغم ترجيح أحد الرأيين -بل ونزول القرآن بترجيح أحد الرأيين في إحدى الواقعتين- كان هدي الرسول هو تسكين الخلاف بين الصحابة، وعدم السماح باضطراب الصف الداخلي للمؤمنين لاختلاف وجهة نظرهم في المثالَين.

الأول: في قصة الإفك كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة -رضي الله عنها- في قصة الإفك الحديث، وفيه: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن يومه فاستعذر مِن عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول، قالت: فقال وهو على المنبر: (يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي). قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذِرُكَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ، قَالَتْ: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ-، فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ، قَالَتْ: فَثَارَ الحَيَّانِ الأَوْسُ، وَالخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى المِنْبَرِ، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّضُهُمْ، حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.

فالشرع أمر بالتسكيت والهدوء وعدم المنازعة بين الصف المسلم، ولا اختلاف على جُرم عبد الله بن أبي ابن سلول ونفاقه، كما دلت عليه الأدلة، ومع ذلك فالموقف لابد أن يُراعَى فيه كثير مِن الضوابط في كيفية إنكار المنكر، وفي مراعاة المصالح والمفاسد، وتمكُّن النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن تسكين الفتنة بين المسلمين، وهذا هو الواجب علينا.

وأما المثال الثاني: فهو قوله -سبحانه وتعالى-: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (النساء:88).

روى ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في سبب نزول الآية، قال: "وذلك أن قومًا كانوا بمكة قد تكلّموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا مِن مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحابَ محمد -عليه السلام-، فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا مِن مكة، قالت فئة مِن المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله! -أو كما قالوا-، أتقتلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلَّمتم به؟! أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارَهم، تُستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين، والرسول -عليه السلام- عندهم لا ينهى واحدًا مِن الفريقين عن شيء، فنزلت: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ" (تفسير الطبري 8/ 10-11).

وقد نزل القرآن الكريم بموافقة الطائفة التي أمرت بقتالهم، ومع ذلك فبقيت المودة والأخوة الإيمانية، ولم يسمح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الاختلاف أن يمزِّق الصف المؤمن أو أن يُغَيِّر الصدور للاختلاف في طريقة التعامل مع هؤلاء المنافقين مع شدة نفاقهم، بل قد أظهروه واستوجبوا عليه العقوبة الظاهرة لردتهم عن الإسلام، كما قال -تعالى-: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا) (النساء:89)؛ فالحفاظ على الصف المسلم ضرورة مِن ضرورات الاستمرار في الدعوة إلى الله -عز وجل-، والحفاظ على الكيان.

فلنتأدب بآداب الخلاف، ولا يتهم بعضنا بعضًا، ولا يسخر بعضنا مِن بعض، ولنحسن الظن، ولنُراعِ أمر الاجتهاد؛ فالمجتهد المصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد.

والله المستعان.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة