الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)

وشأن المؤمن أن يكون دائم الاشتغال بما فيه مرضاة الله

(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)
محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الثلاثاء ١٨ يونيو ٢٠١٩ - ١٨:٤٧ م
882

(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)

كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال الله -تعالى- في خاتمة سورة الشرح: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:7-8)، وهي سورة عظيمة ذكَّر الله -عز وجل- فيها نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بنعمه العظيمة عليه، فقال مقررًا ذلك: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ . وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ . الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ . وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح:1-4)، ثم ختم -تعالى- السورة بقوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)؛ ليبيِّن أن مِن شكر النعم استمرار الطاعة وثباتها، وعدم التحول عنها في وقتٍ دون وقتٍ أو زمانٍ دون زمانٍ.

وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله -تعالى-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ).

قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "وقوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ): اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فإذا فَرغتَ مِن صلاتك، فانصب إلى ربك في الدعاء، وسله حاجاتك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: (فَإِذَا فَرَغْتَ) مِن جهاد عدوّك (فَانْصَبْ) في عبادة ربك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإذا فرغت مِن أمر دنياك، فانصب في عبادة ربك.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول مَن قال: إن الله -تعالى ذكره- أمرَ نبيَّه أن يجعل فراغه مِن كلّ ما كان به مشتغلًا مِن أمر دنياه وآخرته، مما أدّى له الشغل به، وأمره بالشغل به إلى النصب في عبادته، والاشتغال فيما قرّبه إليه، ومسألته حاجاته، ولم يخصص بذلك حالًا مِن أحوال فراغه دون حالٍ، فسواء كلّ أحوال فراغه، مِن صلاة كان فراغه، أو جهاد، أو أمر دنيا كان به مشتغلًا؛ لعموم الشرط في ذلك، مِن غير خصوص حال فراغ، دون حال أخرى" (تفسير الطبري بتصرفٍ).

وشأن المؤمن أن يكون دائم الاشتغال بما فيه مرضاة الله -تعالى- ومغفرته، وإن كنا نرى في الدنيا أهل الصنائع والوظائف مِن الأطباء والحرفيين وغيرهم، أنهم إذا فرغوا مِن عمل نصبوا مباشرة في غيره؛ فإن طلاب الآخرة وأهلها أولى بذلك؛ أولى أن يستديموا على طاعة الله، فلا يخصوا بذلك زمانًا دون زمان -كرمضان- أو موسمًا مِن مواسم الطاعة، فإذا ما مضى وقته عادوا إلى ما كانوا عليه مِن الدعة والسكون، بل ينبغي لهم أن يكون حالهم على الدوام المسابقة في مرضاة الله، والبدء في طاعة بعد طاعة، والرغبة إلى الله -تعالى- ومغفرته ورضوانه، كما قال -سبحانه وتعالى- مثنيًا على صفوة خلقه مِن أنبيائه ورسله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء:90)، فاجتمع فيهم الوصفان: حرص دائم على الطاعة والمسابقة إليها، ورغبة ورهبة إلى الله -سبحانه-.

قال الإمام الطبري: "وقوله: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ): يقول -تعالى ذكره-: وإلى ربك يا محمد فاجعل رغبتك، دون مَن سواه مِن خلقه؛ إذ كان هؤلاء المشركون مِن قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد!" (تفسير الطبري بتصرفٍ).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما الرغبة في الله، وإرادةُ وجهه، والشوقُ إلى لقائه، فهي رأس مال العبد، وملاكُ أمره، وقوامُ حياته الطيبة، وأصلُ سعادته وفلاحه، ونعيمه وقرة عينه، ولذلك خُلِق، وبه أُمِرَ، وبذلك أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلا بأن تكون رغبتُه إلى الله -عز وجل- وحده، فيكون هو وحده مرغوبَه ومطلوبه ومراده؛ كما قال الله -تعالى-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)".

نسأل الله -تعالى- أن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com