الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

دَعوة مُبَارَكة غيَّرت وجهَ الأرض

دعوة إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَثَّرَت في حياة البشر في هذه البقعة إلى يومنًا هذا

دَعوة مُبَارَكة غيَّرت وجهَ الأرض
ياسر برهامي
الخميس ٠٨ أغسطس ٢٠١٩ - ٢٠:٢٥ م
940

دَعوة مُبَارَكة غيَّرت وجهَ الأرض

 كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالدعاء مِن أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدَّر مقادير وقَدَّرَ لها أسبابًا، ومما قدره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيت الله الحرام؛ للقيام والركوع والسجود والطواف والاعتكاف وسائر أنواع العبادات.

وجعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس؛ به يقوم أمر الناس، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء، أذِن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قدرًا في هدمه، ولا بقاء للناس من دون الكعبة المُشَرَّفَة؛ فمِن أشراط الساعة: "هدم الكعبة"، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) (متفق عليه)، وأما قبل ذلك فلا قوام للناس إلا ببيت الله الحرام، وبتَوَجُّه المؤمنين إلى هذه القِبلة المشرفة.

 كيف عُمِّرت هذه البقعة؟ وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين؟ وتتجه وجوههم وقلوبهم إليها؟!

يذهب الملايين مِن الناس في كل عام إلى هذه البقعة المشرفة لأداء فريضة الحج التي أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بأدائها وافترضها على الناس، وجعلها ركنًا من أركان الإسلام، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ، وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه)، وقد عُمِّرَت هذه البقعة بدعوةٍ مباركةٍ مِن إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

فقد كرَّم الله -عَزَّ وَجَلَّ- سارة بأن كانت مِن المؤمنين، ورَدَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- كَيْدَ الملك الكافر عندما ذهب بها إبراهيم -عليه السلام- إلى أرض مصر، كما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إِلَّا ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ) (الصافات:89). وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) (الأنبياء:63). وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، فَلاَ تُكَذِّبِينِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَا، قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الكَافِرِ، أَوِ الفَاجِرِ، فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ) (متفق عليه).

وضربت سارة مَثَلًا في التضحية؛ إذ وهبت هاجر -وهي خادمتها التي وُهبت لها- لإبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ عسى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقه منها الولد -إذ كانت سارة عقيمًا لا تلد إلى ذلك التاريخ-، فضربت مثلًا في التضحية والحب الحقيقي، والطاعة لله -عَزَّ وَجَلَّ-، فاتخذ إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هاجر سُرِّية، وولدت له إسماعيل، ولكن وقع في قلب سارة ما وقع.

وكان الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد قَدَّرَ تعمير بيته الحرام بإسماعيل -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وذريته، فأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- إبراهيم أن يأخذ هاجر ويهاجر بها إلى موضع مكة المكرمة، وفي هذا المكان الجدب الذي لا أحد فيه؛ لا أنيس ولا جليس، ترك إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هاجر وابنها الرضيع إسماعيل -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وترك لهما جراب تمر، وشملة، وقربة ماء، وتركهم عند دوحة قريبًا من موضع زمزم، ولم يكن قد بُني البيت بعد، وإنما كان مثل الأكمة المرتفعة، أي: مثل التل المرتفع، وتركهم وحدهم في هذا المكان الذي ليس فيه أحد.

فهذه البقعة التي لا نبت فيها ولا زرع، ولا ماء، ولا شيء على الإطلاق مِن مقومات الحياة، اختارها الله -عَزَّ وَجَلَّ- يوم خلق السماوات والأرض لتكون بقعة عبادته وتوحيده إلى آخر الزمان، إلى ألَّا يوجد على وجه الأرض من يقول: "الله... الله".

ولله الحمد والمنة أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرِّمها الناس، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي قَطُّ إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ) (متفق عليه).

اجتبى الله هذه البقعة وجردها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِن مُقَوِّمات الحياة الطبيعية، وقدَّر أن تكون أزحم بقعة على وجه الأرض بمَن يَعبد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذه آية عظيمة مِن آياته -عَزَّ وَجَلَّ-، وبيان لأهمية الدعاء؛ إذ كانت هذه الدعوة من إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم:35)، وفي الآية الأخرى قال -تعالى-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة:126).

فكانت الدعوة قبل تكوُّن البلدة، وبعد تكوُّنها كان هذا الدعاء الذي غيَّر وجه الحياة على سطح الأرض، والذي نشر الله -عَزَّ وَجَلَّ- به التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها؛ إذ مِن ذرية إبراهيم وإسماعيل -عَلَيْهِما السَّلَامُ- وُلد محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الذي أراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد، وهي دعوة الأنبياء جميعًا في أرجاء الأرض كلها بفضل الله -عز وجل-، وتكون أمته مِن بعده حاملة هذا اللواء، تنشر توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وتعلن الكلمة الخالدة: "لا إله إلا الله"، شعارًا للحياة، وشعارًا للأمة الإسلامية.

ولا توجد أمة مِن الأمم سواء ممَن ينتسب إلى الأنبياء أو ممَن لا ينتسب إليهم يرفع هذا الشعار، أو يطبقه في الحياة، أو يسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض، وإنما تجد الأمم حتى مَن ينتسب إلى الأنبياء جعلوا شعائر خاصة بهم خلاف ما أوصى به الأنبياء، وإن كانت الوصية مسجلة عندهم، وهي أول الوصايا جميعًا: "أن نعبد الله وحده لا شريك له"، هكذا في وصايا موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- العشر في التوراة، وكما هي وصية المسيح -عَلَيْهِ السَّلَامُ- في الإنجيل، وبفضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- إنما يرفع هذه الكلمة ويطبقها في الحياة أهل الإسلام الذين يتجهون مِن كل مكان إلى هذه البقاع الطاهرة، ويخرجون في اليوم الثامن قاصدين منى ثم عرفات، ثم يفيضون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية، قاصدين بذلك مرضاة ربهم؛ لأنهم يبتغون فضلًا مِن الله ورضوانًا.

وهكذا قدَّر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن إسماعيل -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وأمه يتركهما إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فتقول له هاجر: "إلى من تتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا أحد؟" وكأن هذا السؤال ما كان ينبغي أن يكون؛ لذا لم يجبها إبراهيم، ولم يلتفت إليها، فكيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم الشفيق بالخلق- كيف تظن به أن يكون قاسيًا على ولده فلذة كبده؟! وعلى امرأته التي عاشرها وعاش معها ووحدت الله -عَزَّ وَجَلَّ- على يديه؟! وكيف يمكن أن يُظن به ذلك، وهو يدعو لمن عصاه بالمغفرة والرحمة؟! يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (إبراهيم:35-36).

الأصنام أضلت مَن دَعَا إليها، وبعادتها تضل كثيرًا من الناس؛ فهو يعتبر بحال الأكثر ويخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس؛ فمَن قال: إنه يأمن الشرك على نفسه فهو جاهل!

ولذا قال مَن قال مِن السلف: "مَن يأمن البلاء بعد إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؟"، ومَن يأمن أن يقع فيما حذر الله منه من الشرك بعد أن يدعو إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بالنجاة منه له ولبنيه؟ وقد استجاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- دعوته، فلم يكن أحدٌ مِن بنيه أو من عصبته مُشركًا، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعده.

انظر كيف تكون الدعوة مُستمرة الأثر أجيالًا مُتتابعة، دعوة إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَثَّرَت في حياة البشر في هذه البقعة إلى يومنًا هذا؛ إذ دعوة التوحيد التي جددها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقام بها في الأرض كلها، بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم، قام بها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الأرض كلها، وبُعِث إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة  الله في كل مكان.

النسَب الحقيقي:

قال الله -تعالى- عن إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (إبراهيم:36)، هذا هو النسب الحقيقي: اتباع إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ولذلك قال -عَزَّ وَجَلَّ-: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج:78)، فإبراهيم أبو المؤمنين وإن لم يكونوا مِن نَسَبِه؛ فهو أبوهم بالروح والقلب؛ ذلك أن ولادة قلوبهم كانت بدعوته، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبو المؤمنين كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب:6)؛ وذلك بأنه هو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي وُلِدَت به هذه القلوب.

وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعوة أبيه إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إذ دعا ربه أن يبعث في ذريته رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويُعلمهم الكتاب والحكمة ويُزكيهم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)، وتوسل إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعزته وحكمته فقال: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:129)؛ فكان محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعوة أبيه إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وبُشرى عيسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ورؤيا أمه التي رأت نورًا خرج منها فأضاء قصور الشام، كما ورد في الحديث عن أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: (دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

إن الدعاء مِن أعظم وأمضى الأسلحة في القرب من الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبحسب قرب الداعي من ربه -عَزَّ وَجَلَّ- واستعانته بحول الله وقوته يؤثِّر الدعاء تأثيرًا عجيبًا يمتد آلاف السنين بقدرة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، يقول إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم:36).

فإذا كان إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يدعو لمَن عصاه بأن يغفر الله -عَزَّ وَجَلَّ- له، وإنما يغفر الله الشرك بأن يتوب العبد منه، فإن مَن مات على الشرك وقد بلغته الحجة لا يغفر الله له الشرك، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء:48).

وقوله: (وَمَنْ عَصَانِي): تشمل مَن عصى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بما دون الشرك، فإبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يستغفر له؛ فالمغفرة لهذا النوع والاستغفار مؤثِّر -بإذن الله-، وأما مَن أشرك فإبراهيم يدعو له بأن يتوب الله عليه، وهذا لمَن لم يمت على الشرك، أما مَن مات على الشرك فإن إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يتبرأ منه كما تبرأ مِن أبيه آزر: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة:114).

فإبراهيم الأواه الحليم المنيب الذي يطلب تأخير العذاب عن قوم لوط -القوم المجرمين الذين فعلوا الفاحشة ما سبقهم بها مِن أحدٍ مِن العالمين، واستهزأوا بنبيهم، وأرادوا إيذاءه-، ومع ذلك إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يدعو لهم بشفقته ورحمته للخلق، والله يحب منه ذلك حتى وإن دعا في بعض الأحيان لمَن لا يستحق أن يُغفر له، ولمَن لا يستحق أن يُؤخر عنه العذاب، وأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- نافذ فيه، لكن الله يحب الحلم والإنابة ويحب الأواه -كثير الدعاء-.

فإبراهيم كثير الدعاء، والله يُحب هذه الصفات التي ترتب عليها هذا الدعاء حتى وإن وقع في غير موضعه؛ فكيف يمكن أن يظن به ألا يكون شفيقًا رحيمًا بوَلَده وأُمِّ وَلَدِه؟!

ذلك مما لا يُتصور؛ فكيف تَسأل هاجر وتقول: "إلى مَن تتركنا؟!"، وكيف يمكنها أن تتصور أنه يتركهم إلى غير أحد، فتكرر السؤال؟!

فيعلمها إبراهيم بالسكوت الذي هو أبلغ مِن الكلام أحيانًا؛ يُعلمها بألا يلتفت، وفي الثالثة تكرر السؤال ولا يُجيب، ولا يلتفت، فتنتبه بعد ذلك فتقول: "آلله أمرك بهذا؟"، فهنا يجيب إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فيقول: "نعم"، وذلك أنه كان ينبغي أن تدرك هذا الأمر مِن البداية.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة