الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

العجيبة الثامنة

العجيبة الثامنة
الشيخ/ علي الطنطاوي
الجمعة ١٣ سبتمبر ٢٠١٩ - ١٩:١٨ م
1235

العجيبة الثامنة

علي الطنطاوي

 

عجائب العالم القديم سبع: أهرام مصر، وحدائق بابل، وبقية السبع التي تعرفونها.

 وهي عجائب حقًّا، ولكنها هياكل شُيِّدَت من حجارة قُطِعت من صخور الجبل أو آجر جبل من تراب الأرض ونضج على جمر الأفران، وهذه العجيبة الثامنة أثر من عمل الأذهان.

 

تلك تحف من عمل السواعد القوية والأيدي الصناع، وهذه من عمل الفكر الخالص والقرائح العبقرية... إنها كتبٌ لو جمعت لبُنِيَ منها هرم صغير أو لشُيِّدَ برج هائل.

 

فهل يقاس أثر لا روح فيه -وإن لم يخل من عبقرية تروع ناظريها ويكبرها المتأمِّل فيها- بآثار حية تبعث الأرواح في الأجساد، وتثير السواكن من الأفكار، وتُحرِّك القرائح فتدفعها إلى الابتكار؟

 

هل عرفتم (القاموس المحيط)؟

إن فيه ستين ألف مادة، فهل فيكم من قرأه كله؟

 

من يستطيع أن ينسخه بخطه نسخاً؟ فكيف بمن ألفه تأليفاً؟!

 

و(لسان العرب)، وهو أكبر منه وأوسع، فيه ثمانون ألف مادة. من قرأه منكم؟ ومن يستطيع أن يكتبه؟

 

و(تاج العروس شرح القاموس)؟

 

و(الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، العربي الأموي الذي كان على أمويته يتشيع؟

 

و(نهاية الأرب)، و(صبح الأعشى)، و(تفسير الطبري)، و(فتح الباري)، و(المبسوط)، و(شرح المواقف) للسيد الجرجاني، والزرقاني على (المواهب)، و(معجم البلدان)...

 وأمثال هذه الكتب التي تعد بالعشرات، بل بالمئات؟

 إنها تمضي الأعمار دون قراءتها قراءة، فضلاً عن كتابتها كتابة.

 

فتصوروا كيف ألَّفها مؤلفوها وكتبوها بأيديهم، وتناقلها الناس ونسخوا منها نسخاً؟

حتى كان في مكتبة العزيز بن المُعِزّ، وهو من ملوك الدولة العبيدية التي تُدعَى بالفاطمية، بضع وثلاثون نسخة من كتاب (العين).

 

وهو أول المعجمات بالعربية، بل لعلي لا أكون مبالغاً إن قلت إنه أول المعجمات في الألسن كلها، ابتكره رجل كان من أذكى البشر جميعاً، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع عِلماً جاء به كاملاً، هو عِلم العروض.

 استنبطه من أصوات القصارين وهم يخبطون بالمخابط على الثياب فتختلف أصواتها، فميُّز منها (السبب) (طق) من (الوتد) (ططق)، وطبَّق ذلك على شعر العرب ووضع هذه الأوزان.

 

وكان في هذه المكتبة عشرون نسخة من تاريخ الطبري، منها -كما يقول المقريزي في (خططه)- نسخة بخط الطبري نفسه، وفيها مائة نسخة من (الجمهرة) لابن دريد. وكل ذلك في عهد لم تكن عُرِفَت فيه المطابع ولا الطابعات.

 

المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب، ذهب جلها ولم يبقَ منها إلا قُلُّها.

وهذا الذي بقي هو الأقل الأقل، وهو -على ذلك- شيء عظيم؛ ففي مكتبات إسطنبول -كما نقلوا- أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية، وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم، وفي مصر ثمانون ألف مخطوط، وفي موريتانيا واليمن وغيرهما.

 

ولا نزال مع ذلك نجد بالمصادفة نوادر أخرى لم نكن نعرف لها وجوداً، آتيكم عليها بأمثلة:

 

- فهذا كتاب (الفصول والغايات) الذي قالوا إن المعرِّي عارض به القرآن، واستمرت التهمة أكثر من تسعة قرون والمتهم بريء، والكتاب مفقود، وفقده يؤكد التهمة ويقويها، حتى وجده خالي محب الدين الخطيب في مكة في موسم الحج أيام الشريف حسين، لما كان محرِّر (القبلة) التي حلَّت محلها الجريدة الرسمية (أم القرى)؛ رآه بيد أحد الباعة، فاشتراه بثمن بخس، وأهداه إلى مكتبة صديقه أحمد تيمور باشا -التي ضُمَّت بعدُ إلى دار الكتب-، ثم طبعة الأستاذ الزناتي، وهو ثالث الإخوان الثلاثة: "الزيات، وطه حسين، والزناتي".

 

وكان صديقنا الأستاذ عز الدين التنوخي يفتش عن رسالة لأبي الطيب اللغوي في خزانة شيخنا مفتي الشام، الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين، فوجد بالمصادفة كتابه (الإبدال) -الذي كان يعتقد بأنه مفقود- ضمن مجموعة من المخطوطات.

 

وكنت قبل قدومي إلى المملكة من نحو خمس وعشرين سنة أزور مكتبة محدِّث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله، فوجدت كتاباً عظيماً هو ركيزة من ركائز عِلم اللغة، كان المعتقد أنه فقد فيما فقد من كنوز مكتبنا الإسلامية، وهو (معجم الأصلين)، أي الكتاب والسنة، للإمام الهروي، أحد أئمة اللغة في القرن الرابع. وقد ذكره ابن الأثير في مقدمة (النهاية) وعدَّه خير ما أُلِّف في هذا الموضوع.

 

وجدت منه نسخة صحيحة، مشكولاً أكثرها مكتوبة من ثمانمائة سنة عليها خطوط بعض الأعلام، وقد سألت صديقنا الدكتور صلاح الدين المنجد -وكان يومئذ مدير معهد المخطوطات- فعلمت أنه ليس في الدنيا من هذا الكتاب إلا نسخة ناقصة في جامعة بوسطن في أمريكا، ونسخة أخرى ناقصة أيضاً في إسطنبول.

وهذا الكتاب إذا طُبِع كان أصلاً من الأصول، وصُحِّح عليه القاموس ولسان العرب.

 وقد كتبت إلى كل جامعة أو مجمع آمل أن يعتني به وأن يطبعه، فما وجدت عند أحد اهتماماً ولا تلقيت منه جواباً!

 

وبيعت مرة تركة عالِم في دمشق بالمزاد، وكانت عنده كتب كثيرة، فجرد أولاده -وهم جهلة- الكتب المطبوعة المجلدة فاحتفظوا بها ثم أشعلوا النار بالباقي.

 

وبينما كانت النار تأكل هذا الكنز الذي لا يُقدَّر بثمن رأوا بينها كتاباً فيه صور ملونة أعجبتهم، فسلُّوه من وسط اللهب وقد احترق طرفه، عرضوه على الوراقين، فإذا هو نسخة من (عجائب المخلوقات) للقزويني مكتوبة من أكثر من أربعمائة سنة، مِيزتها أن فيها صوراً ملونة مذهَّبة كأنما صُوِّرت الآن، لها قيمة فنية لا تُقدَّر، فباعوه بمئة ليرة -يوم كانت لليرة منزلتها-، وباعه الذي اشتراه للمتحف البريطاني بألف ومئتي ليرة، وأحسب هذه النسخة قد استقرت هناك.

 

هذه المكتبة التي أصابتها المصائب وحاقت بها النكبات، العامة الشاملة والخاصة المفردة؛ كنكبتها بالمغول لما انحدر علينا سيلهم المُدمِّر من أقصى الشرق، فجرف في طريقه مظاهر العمران وثمار الفكر حتى وصل إلى هذه المكتبة، فألقوا -من جهلهم- كتبها في دجلة يمرون عليها يتخذونها جسراً!

حتى نقلوا أن ماء دجلة حيال الضفتين قد اسودَّ مسافات مما ذاب فيه من المداد والحبر، بل من حصاد الأدمغة ونِتاج العقول.

 

ولما دخل الإسبان الأندلس أحرقوا مكتباتها، حتى صار ليلها نهاراً مما صع

العجيبة الثامنة

علي الطنطاوي

 

عجائب العالم القديم سبع: أهرام مصر، وحدائق بابل، وبقية السبع التي تعرفونها.

 وهي عجائب حقًّا، ولكنها هياكل شُيِّدَت من حجارة قُطِعت من صخور الجبل أو آجر جبل من تراب الأرض ونضج على جمر الأفران، وهذه العجيبة الثامنة أثر من عمل الأذهان.

 

تلك تحف من عمل السواعد القوية والأيدي الصناع، وهذه من عمل الفكر الخالص والقرائح العبقرية... إنها كتبٌ لو جمعت لبُنِيَ منها هرم صغير أو لشُيِّدَ برج هائل.

 

فهل يقاس أثر لا روح فيه -وإن لم يخل من عبقرية تروع ناظريها ويكبرها المتأمِّل فيها- بآثار حية تبعث الأرواح في الأجساد، وتثير السواكن من الأفكار، وتُحرِّك القرائح فتدفعها إلى الابتكار؟

 

هل عرفتم (القاموس المحيط)؟

إن فيه ستين ألف مادة، فهل فيكم من قرأه كله؟

 

من يستطيع أن ينسخه بخطه نسخاً؟ فكيف بمن ألفه تأليفاً؟!

 

و(لسان العرب)، وهو أكبر منه وأوسع، فيه ثمانون ألف مادة. من قرأه منكم؟ ومن يستطيع أن يكتبه؟

 

و(تاج العروس شرح القاموس)؟

 

و(الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، العربي الأموي الذي كان على أمويته يتشيع؟

 

و(نهاية الأرب)، و(صبح الأعشى)، و(تفسير الطبري)، و(فتح الباري)، و(المبسوط)، و(شرح المواقف) للسيد الجرجاني، والزرقاني على (المواهب)، و(معجم البلدان)...

 وأمثال هذه الكتب التي تعد بالعشرات، بل بالمئات؟

 إنها تمضي الأعمار دون قراءتها قراءة، فضلاً عن كتابتها كتابة.

 

فتصوروا كيف ألَّفها مؤلفوها وكتبوها بأيديهم، وتناقلها الناس ونسخوا منها نسخاً؟

حتى كان في مكتبة العزيز بن المُعِزّ، وهو من ملوك الدولة العبيدية التي تُدعَى بالفاطمية، بضع وثلاثون نسخة من كتاب (العين).

 

وهو أول المعجمات بالعربية، بل لعلي لا أكون مبالغاً إن قلت إنه أول المعجمات في الألسن كلها، ابتكره رجل كان من أذكى البشر جميعاً، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع عِلماً جاء به كاملاً، هو عِلم العروض.

 استنبطه من أصوات القصارين وهم يخبطون بالمخابط على الثياب فتختلف أصواتها، فميُّز منها (السبب) (طق) من (الوتد) (ططق)، وطبَّق ذلك على شعر العرب ووضع هذه الأوزان.

 

وكان في هذه المكتبة عشرون نسخة من تاريخ الطبري، منها -كما يقول المقريزي في (خططه)- نسخة بخط الطبري نفسه، وفيها مائة نسخة من (الجمهرة) لابن دريد. وكل ذلك في عهد لم تكن عُرِفَت فيه المطابع ولا الطابعات.

 

المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب، ذهب جلها ولم يبقَ منها إلا قُلُّها.

وهذا الذي بقي هو الأقل الأقل، وهو -على ذلك- شيء عظيم؛ ففي مكتبات إسطنبول -كما نقلوا- أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية، وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم، وفي مصر ثمانون ألف مخطوط، وفي موريتانيا واليمن وغيرهما.

 

ولا نزال مع ذلك نجد بالمصادفة نوادر أخرى لم نكن نعرف لها وجوداً، آتيكم عليها بأمثلة:

 

- فهذا كتاب (الفصول والغايات) الذي قالوا إن المعرِّي عارض به القرآن، واستمرت التهمة أكثر من تسعة قرون والمتهم بريء، والكتاب مفقود، وفقده يؤكد التهمة ويقويها، حتى وجده خالي محب الدين الخطيب في مكة في موسم الحج أيام الشريف حسين، لما كان محرِّر (القبلة) التي حلَّت محلها الجريدة الرسمية (أم القرى)؛ رآه بيد أحد الباعة، فاشتراه بثمن بخس، وأهداه إلى مكتبة صديقه أحمد تيمور باشا -التي ضُمَّت بعدُ إلى دار الكتب-، ثم طبعة الأستاذ الزناتي، وهو ثالث الإخوان الثلاثة: "الزيات، وطه حسين، والزناتي".

 

وكان صديقنا الأستاذ عز الدين التنوخي يفتش عن رسالة لأبي الطيب اللغوي في خزانة شيخنا مفتي الشام، الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين، فوجد بالمصادفة كتابه (الإبدال) -الذي كان يعتقد بأنه مفقود- ضمن مجموعة من المخطوطات.

 

وكنت قبل قدومي إلى المملكة من نحو خمس وعشرين سنة أزور مكتبة محدِّث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله، فوجدت كتاباً عظيماً هو ركيزة من ركائز عِلم اللغة، كان المعتقد أنه فقد فيما فقد من كنوز مكتبنا الإسلامية، وهو (معجم الأصلين)، أي الكتاب والسنة، للإمام الهروي، أحد أئمة اللغة في القرن الرابع. وقد ذكره ابن الأثير في مقدمة (النهاية) وعدَّه خير ما أُلِّف في هذا الموضوع.

 

وجدت منه نسخة صحيحة، مشكولاً أكثرها مكتوبة من ثمانمائة سنة عليها خطوط بعض الأعلام، وقد سألت صديقنا الدكتور صلاح الدين المنجد -وكان يومئذ مدير معهد المخطوطات- فعلمت أنه ليس في الدنيا من هذا الكتاب إلا نسخة ناقصة في جامعة بوسطن في أمريكا، ونسخة أخرى ناقصة أيضاً في إسطنبول.

وهذا الكتاب إذا طُبِع كان أصلاً من الأصول، وصُحِّح عليه القاموس ولسان العرب.

 وقد كتبت إلى كل جامعة أو مجمع آمل أن يعتني به وأن يطبعه، فما وجدت عند أحد اهتماماً ولا تلقيت منه جواباً!

 

وبيعت مرة تركة عالِم في دمشق بالمزاد، وكانت عنده كتب كثيرة، فجرد أولاده -وهم جهلة- الكتب المطبوعة المجلدة فاحتفظوا بها ثم أشعلوا النار بالباقي.

 

وبينما كانت النار تأكل هذا الكنز الذي لا يُقدَّر بثمن رأوا بينها كتاباً فيه صور ملونة أعجبتهم، فسلُّوه من وسط اللهب وقد احترق طرفه، عرضوه على الوراقين، فإذا هو نسخة من (عجائب المخلوقات) للقزويني مكتوبة من أكثر من أربعمائة سنة، مِيزتها أن فيها صوراً ملونة مذهَّبة كأنما صُوِّرت الآن، لها قيمة فنية لا تُقدَّر، فباعوه بمئة ليرة -يوم كانت لليرة منزلتها-، وباعه الذي اشتراه للمتحف البريطاني بألف ومئتي ليرة، وأحسب هذه النسخة قد استقرت هناك.

 

هذه المكتبة التي أصابتها المصائب وحاقت بها النكبات، العامة الشاملة والخاصة المفردة؛ كنكبتها بالمغول لما انحدر علينا سيلهم المُدمِّر من أقصى الشرق، فجرف في طريقه مظاهر العمران وثمار الفكر حتى وصل إلى هذه المكتبة، فألقوا -من جهلهم- كتبها في دجلة يمرون عليها يتخذونها جسراً!

حتى نقلوا أن ماء دجلة حيال الضفتين قد اسودَّ مسافات مما ذاب فيه من المداد والحبر، بل من حصاد الأدمغة ونِتاج العقول.

 

ولما دخل الإسبان الأندلس أحرقوا مكتباتها، حتى صار ليلها نهاراً مما صعد منها من اللهب. وحسبكم أن تعلموا أن واحدة من مكتبات قرطبة كانت فهارس دواوين الشعر فيها -كما يقول ابن خلدون- أربعة وأربعين دفتراً كبيراً. فهارس دواوين الشعر فقط! أحرقها الإسبان فأضاءت ليالي الأندلس...

 

هذا عدا ما أصابها من النكبات الفردية، من التحريق والتخريق والتمزيق والتغريق، حتى لم يبقَ من هذه المكتبة إلا الأقل الأقل، وهذا الأقل لا تزال المطابع في الشرق والغرب تطبع منه من مئتي سنة إلى الآن، ولم تطبع إلا بعض هذا القليل الذي بقي.

 

لقد اطلع عالِم تركي على طرف من هذا التراث، هو حاجي خليفة صاحب (كشف الظنون)، فوصف في كتابه العظيم ما اطلع عليه فكان نحو عشرين ألف كتاب، وألفت ذيول لكشف الظنون تزيد عليه أضعافاً، وكلها مطبوع معروف تتداوله أيدي الناس.

 

وعالِمٌ تركي آخر هو طاش كبري زاده، صاحب (مفتاح السعادة)، وصف جانباً آخر اطلع عليه فكان في ثلاثمائة وستة عشر علماً -أو بحثاً إذا شئتم التدقيق والتحقيق-.

 

وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن مكتبة الخليفة العبيدي -الذي يُسمِّيه الناس الفاطمي- لما استولى عليها صلاح الدين الأيوبي كانت كتبها تقرب من المليون.

 

إن من هذه الكتب ما لا يستطيع الواحد منا أن يقرأه قراءة، فكيف إذا حاول أن ينسخه نسخاً؟

 

فكيف وكثير منها أملاه مؤلفوه إملاء لأنهم كانوا من مكفوفي البصر؟

كـ(المخصص) لابن سيده، أوسع كتاب في اللغة، أملاه إملاء. و(الاستيعاب) لابن عبد البر، أملاه إملاء وهو ضرير لا يقدر أن يأخذ من الكتب.

 

و(المبسوط) أوسع كتاب في الفقه، أملاه مؤلفه وهو محبوس في الجُبِّ تحت الأرض لكلمة حق قالها عند حاكم ظالم، فكان تلاميذه يقفون في الطريق يستملون ويكتبون، وهو يملي عليهم من بطن الجُبِّ، ما عنده كتاب ينظر فيه، ولا مرجع يرجع إليه، وقد بيَّن ذلك في كتاب العبادات في آخر باب الإقرار.

 

والطبري كان يريد أن يجعل تاريخه في ثلاثين ألف ورقة، فسأل تلاميذه فاستكثروه، فجعله في ثلاثة آلاف وقال: "وا أسفاه، لقد كلَّت الهِمم عن طلب العلم!".

 

وقاضي مصر بكار بن قتيبة؛ لما سجنه ابن طولون وطال سجنه سأله طلاب الحديث أن يأذن لهم بالسماع منه، فكان يُحدِّثهم وهو في السجن يأخذون عنه من وراء الباب.

 

وابن تيمية كتب كثيراً من رسائله وهو في السجن.

وابن سينا ألَّف رسالته عن القولنج -ونحن لا نزال إلى الآن نستعمل في الشام كلمة القولنج- ورسالة حي بن يقظان -التي قلَّدها ابن طفيل الأندلسي، فاشتهرت قصته وماتت قصة ابن سينا- كتبها وهو سجين.

 

وقصة (حي ابن يقظان) هي التي نسج على منوالها ومشى على أثرها مؤلف رواية روبنسون كروزو المشهورة.

بل إن الكتاب العظيم لابن سينا، وهو (الشفاء) الذي بقي الأساس في دراسة الكتب في جامعات أوروبا إلى ما قبل أربعمائة سنة، ألَّفه وهو هارب مُتنقِّل في البلدان متوارٍ عن الأبصار.

 

بل لقد أخرجت هذه العصور المتأخرة كتباً كبيرة، كـ (شرح القاموس للزَّبيدي) -الهندي الأصل اليماني المقام-.

 بل لقد أُلِّفَت في عصرنا هذا كتاب كبار، ككتاب (الأعلام) للزركلي،

ومجموعة (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) لأحمد أمين، و(تاريخ العرب قبل الإسلام) لجواد علي العراقي، و(شرح الكامل) للمرصفي.

 

ولقد حدث أحد تلاميذه أنه دخل عليه يوماً -وكان يسكن غرفة مقفرة من دار خربة في حي قديم من أحياء القاهرة، يضل الماشي في أزقته ويغوص في وحله، لأنه كان من فقره لا يستطيع أن يجد غير هذه الدار في غير هذا الحي- فوجده قاعداً على حصير بالٍ مفروش في وسط الغرفة، ليس فيها سواه، وأمامه كتب منثورة والصحائف منشورة، وحول الحصير خيط من الدبس مصبوب على الأرض.

فسأله: ما هذا الدبس يا مولانا؟

 فضحك الشيخ وقال: إنه سور يحميني من هجمات البق!

 

... في هذه الغرفة العارية، على هذه القطعة من الحصير، أَلَّف الشيخ كتابه العظيم (شرح الكامل للمبرد)، هذا الكتاب من الكتب التي يفاخر بها عصرنا العصور الخوالي، لهذا العالِم الذي ينافس بأمثاله القرون الماضيات.

 

ولا تزال في المكتبات العامة والخاصة عشرات، بل مئات، من المخطوطات؛ في دار الكتب المصرية، وفي المكتبة الظاهرية في الشام، وفي مكتبات إسطنبول وبغداد، وفي مكتبة باريس، وفي مكتبة المتحف البريطاني، وفي الإسكوريال في إسبانيا، وفي مكتبة عارف حكمة في المدينة، وفي مكتبات فاس وغيرها في المغرب، هذه التي سَلِمَت من أيدي المتعصبين من أعضاء محكمة التفتيش،

ولو بقي كل ما كان في الأندلس لوجدنا شيئاً عظيماً، وفي ليدن في هولندا، وفي مكتبة بوسطن في أمريكا...

 

في هذه المكتبات التي رأيت بعضاً منها واطلعت على فهارس بعض، وسمعت الأخبار عن بعض، لا تزال فيها الآن آلاف مؤلفة من هذه المخطوطات.

 

وفي المكتبات الخاصة آلاف أخرى، أذكر لكم من هذه المكتبات ما عرفته أو سمعت به:

 

- من أكبرها مكتبة أحمد تيمور باشا الذي تعقب كتب التاريخ خاصة، فكان يشتري الكتاب منها بوزنه ذهباً إن لم يستطع شراءه بأقل من ذلك.

ومكتبة أحمد زكي باشا -وكلا المكتبتين في دار الكتب المصرية الآن والحمد لله-.

 

- ومكتبة عبد الحي الكتاني في المغرب، وهي من أغنى الكتب في التاريخ.

 

- ومكتبة أنستاس الكرملي، وفيها كثير من المفردات ليس لها ثوان.

 

- ومكتبة صديقنا إسعاف النشاشيبي رحمة الله عليه وعلى كل من ذكرت، هذه المكتبة -على كبرها واتساعها- لا يكاد يوجد فيها كتاب واحد يخلو من فهارس ومن تعليقات، رأيت كثيراً منها.

 

- ومكتبة الشيخ خليل الخالدي، وقد زرتها لمَّا كنت ذاهباً إلى مصر للدراسة سنة 1928م.

 

- ومكتبة شيخنا المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين رحمه الله...

 

وفي هذه المكتبات نوادر لا تزال راقدة تنتظر من يوفقه الله لإخراجها ببعثها من مرقدها؛

من ذلك أن رجلاً من أسرة معروفة في الشام كان يشتغل أسلافها بالعلم توفي من أكثر من خمسين سنة، فباعوا كتبه المخطوطة، ثم نبههم أحد الخبراء إلى أن فيها كتاباً نادراً، فأحبوا أن يسترجعوه ممن اشتراه، وأبى عليهم استرجاعه، وأقيمت بشأنه قضايا في المحاكم لا أريد التعرُّض لها، ولكني أريد أن أقول: إن هذا الكتاب هو (كتاب البيزرة) أو (البزدرة) وهو عِلم طب البزاة.

 

وأنتم تعرفون البازي والصقر والشاهين، هذه الطيور التي كانوا يصطادون بها -ولا يزالون يتخذونها للصيد في بعض نواحي الجزيرة العربية-.

 

ولقد كتبت عن هذا الكتاب في السنة الثانية أو الثالثة من مجلة الرسالة، فاقرؤوا ما جاء فيه تجدوا عجائب لا تكاد تُصدَّق؛ من ذلك أن فيه باباً عنوانه: (باب معرفة مرض الطائر من فحص مائه). أي أنهم -من فحص بول الطائر- يعرفون مرضه!

لم يكتفوا بأن عنوا بعِلم الحيوان عامة أَلَّفوا فيه الكتب، حتى أَلَّفوا في هذه الناحية الخاصة من طب الحيوان.

 

ولم يكن هذا إلا بعد أن أوفوا على الغاية من العناية بالطب الإنساني، وأنا لست من أهل الاختصاص في الطب، ولكني وقفت خلال مطالعاتي على نصوص عجيبة؛ منها أنني وجدت مرة في (وفيات الأعيان) لابن خلكان أن الحجاج مرض مرضاً لم يستطيعوا أن يعرِفوا حقيقته ولا سببه، فجاؤوا بإسفنجه صغيرة ربطوها بخيط وجعلوه يبتلعها، ثم استخرجوها ففحصوا عصارته المعدية، على مقدار ما كانوا يعرِفون يومئذ من أمثال هذه البحوث.

 

وقرأت في (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني أنها أجريت للسيدة سكينة بنت الحسين، إحدى عقيلتي قريش وأجمل نسائها، وهي التي جمع مصعب بن الزبير بينها وبين العقيلة الأخرى عائشة بنت طلحة، كانت لها في عينها نقطة -أو شيء لا أعرف حقيقته-،

فأجريت لها عملية في العين واستخرجوا هذه النقطة من وراء الجسم الزجاجي.

وقد قرأت وصف هذه العملية للجاحظ ولكني نسيت في أي كتاب قرأتها.

 

وإذا نظرتم في تاريخ المستشفيات في الإسلام؛ تعرفون مبلغ ما وصلوا إليه في هذا الباب.

 اقرؤوا (تاريخ المستشفيات) للدكتور عيسى المصري، والكتاب الآخر الذي أَلَّفه أستاذ من الكلية الأميركية في بيروت نسيت اسمه الآن عن المستشفى النوري الذي أنشأه في دمشق نور الدين زنكي، وبقي بناؤه إلى الآن ولكنه صار مدرسة التجارة، تجدوا أن أطباء هذا المستشفى عرفوا طريقة عزل المرضى المعدين، وعرفوا أسلوب التخصص في الطب.

 

والبيروني؛ المفكر العظيم الذي يقول عنه سخاو -وهو أحد المستشرقين الألمان- بأنه أكبر عقلية كانت في القرون الوسطى، يذكر في كتابه (الصيدنة) -أي الصيدلة- أنهم لم يكتفوا بدراسة الطب عامة بل كانوا يعرفون التخصص فيه.

 

لكي تروا جانباً من جوانب عظمة المكتبة الإسلامية اقرؤوا كتاب (ثقافة الهند) الذي طبعه المجمع العلمي في دمشق لمؤرخ الهند العالم الجليل والد أبي الحسن الندوي، وهو في خمسمائة صفحة من القطع الكبير بالحرف الصغير، كله أسماء للكتب التي أُلِّفت في الهند.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

نُشِرَ عام 1987م

 

المصدر:

 (فصول في الثقافة والأدب؛ علي الطنطاوي رحمه الله، جمع وترتيب: مجاهد مأمون - دار المنارة، ط1، 2007هـ، ص: [89] بتصرُّف).

تصنيفات المادة