الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

المنظومة الرباعية الأبعاد

(التوبة... رؤية مجتمعية جديدة)

المنظومة الرباعية الأبعاد
أبو بكر القاضي
السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠١٩ - ١٩:٣٩ م
798

المنظومة الرباعية الأبعاد

(التوبة... رؤية مجتمعية جديدة)

كتبه/ أبو بكر القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الدعوة إلى الله ليست واجبًا وتكليفًا يضطلع بها العبد بين يدي ربه فقط، ولكنها رحمة من الله يضعها في قلوب الدعاة، يتحركون بها في كل مكان بسمتهم وسلوكهم، ينشرون النور والبركة في كل مكان.

والبشرية في قمة الحاجة لمن يذكرها بالله لتنزجر عن صلفها وطغيانها ولكي ترعوي عن جحودها و كنودها، وظلمها وجهلها، ولكي تنزع من بؤسها وشقائها ببعدها عن خالقها وفطرتها النقية، بحبه والشوق إليه؛ فأشواق الروح ? يحدها حد إلى الله؛ لولا كثافات المادة، والحمأ المسنون والطين التي تحول بينها وبين الوصول لكمالها بتحقيق إنسانيتها من خلال العبودية.

وكثيرًا ما نظن أن ذلك مسئولية العبد بمفرده أو التائب الذي أراد أن يتحدى العوائق لربه وحده، وإن كان عليه قدر كبير من المسئولية، ولكنه ? يتحملها بمفرده بل هو عنصر من أربعة عناصر في منظومة رباعية الأبعاد، تظهر التوبة والرجوع إلى الله كمسئولية مجتمعية حقيقية، وهذا الذي يفصح عنه حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- الصحيح في قصة قاتل المائة تفس الذي كثيرًا ما يطرق مجالس وعظنا، دون النظر لإصلاح المجتمع من خلاله!

فقد اتضح من خلال القصة أن التوبة منظومة رباعية الأبعاد تتكون من:

1- تائب يتحدى العوائق:

وهو قلب يتيقظ بإذن ربه وهدايته وتوفيقه مِن رقود الغفلة، ويتحدى العوائق والعقبات فيقتحمها، وهي تنقسم لعوائق داخلية من نفسه الأمارة بالسوء بجهلها وظلمها وجزعها، والشيطان الذي يجري منها مجرى الدم من العروق، وعوائق خارجية من الدنيا وفتنها: مِن فتن النساء والولدان، والمال والملك.

وهو العنصر الأساس في هذه المنظومة، وينبغي الاجتهاد في إيجاده من خلال الدعوة الفردية، والبلاغ والوعظ ببيان كل حيل النفوس والشياطين؛ للحيلولة بينه وبين سر سعادته، وبيان فتن الدنيا وكيفية التغلب عليها من تحقيق التعلق بالمطلوب الأعلى؛ فتتقطع كل حبائل الشهوات والجاذبية الأرضية على قدر قوة دفع الحب الذي في القلب، ويقترب من النجاة ولو "بشبر"، وينوء بصدره في سكرات موته نحو القرية الصالحة،  يزحف ويحبو نحو النور فيتحدى الموت أيضًا!

2- داعية عالم:

وهو أكبر التحديات التي تواجه العمل الإسلامي برمته، وهو الشخصية التي ترتقي بنفسها لتكون على مستوى الإسلام علمًا وعملًا، وخُلُقًا وسمتًا وفقهًا، ودعوة وبلاغًا مبينًا بكل أنواع البيان اللفظي والحالي بعيدًا عن الغلو والجفاء والإفراط والتفريط، والتنفير والتكفير، وصد الناس عن سبيل الله بزعم الورع: كالراهب الجاهل؛ مما يؤدي -علم أم لم يعلم- إلى صنع الطواغيت والجبابرة، ولو كانت موجودة يزيد في طغيانها، "فقتله فكمل به المائة".

كم تساوي تلك الكلمة التي ترفع شعارًا أمام مجتمعات: "ليس لك توبة"؟! تزيد من صلفهم وطغيانهم لعداوات شخصية وحظوظ نفسية أو طائفية، وينبغي أن تتجرد الدعوة إلى الله من كل هذه العوائق حتى تخلص من ذلك الغضب المستطير من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على معاذ -رضي الله عنه- حين أطال الصلاة بسورة البقرة، ولم يراعِ أحوال المأمومين، وليس هذا فقط، بل وصف من أنكر عليه بالنفاق، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ -ثَلاَثًا- اقْرَأْ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَنَحْوَهَا) (متفق عليه)، والشق الثاني من فعل معاذ -رضي الله عنه- هو الأخطر، وهو سر التنفير.

وتحدي الداعية العالم الذي يواجه الصحوة ? يعالج بمقالة أو محاضرة وندوة، وشعارات ترفع؛ إنما بالعمل المجتمعي الرباني الجاد في إيجاد تلك الشخصية المتكاملة غير المشوهة التي تضلعت من الشريعة ومقاصدها وكلياتها، فلا يهولنها كثرة الفظائع والجرائم وظلم الواقع للاستغراق فيه دون وزن الأمور بالموازين الشرعية المنطلقة من مشكاة النصوص، وكبح جماح النفوس والعواطف؛ ليستقيم طرحه الدعوي المنهجي المتجرد من رعونات النفوس بدون غلو ولا جفاء، وبالاتباع لا الابتداع في تغيير الواقع الأليم.

إنه الفهم الدقيق والإيمان العميق بالرحمن -تعالى- وبشرعته: "ومَن يحول بينك وبين التوبة":

بمعرفة سعة رحمة الله، وأن ذنوب العباد مهما عظمت فهي شيء، ورحمة الله وسعت كل شيء، وأن جبريل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ البَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وهو يقول الكلمة: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:90)، فإن كانت الرحمة قد تدرك مثل فرعون، فما بالك بمن دونه، ولا يفقه ذلك إلا مَن كان بالرحمن خبيرًا؟!

3- مجتمع إيجابي:

من أكبر العوائق التي تحول بين التائبين وبين طريق الاستقامة: صحبة السوء والبيئة الخبيثة التي ? تخرج إلا نكدًا من الأقوال والأفعال والأخلاق، وليس هذا البيان ليتكئ عليه التائبون فضلًا عن المصلحين؛ لتبرير تعطيل الدعوة، ولكنه بيان لتحدي عقبة لا بد من اقتحامها، وهو يمثِّل ثاني أكبر تحدي يواجه المجتمعات وأعظمهم احتياجًا لمدى طويل للعلاج.

توفير تلك البيئة الصالحة ? يكون بتركها والانعزال عنها، كما كان يسع ذلك الرهبان، ولكن بالاختلاط والانخراط، والصبر على الأذى، وفرض واقع جديد؛ إيماني وعمراني، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان:20)، فالنبوة حقيقتها في البلاغ، وتأدية الرسالة بخلطة البشر والعطاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: (المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

مجتمع سلبي (أرض سوء)؛ لأن الذين عليها ? يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فيوشك الله أن يعمهم بعقابٍ، فليس العقاب والتدمير فقط بالزلازل والبراكين والأعاصير، بل التدمير أيضًا معنويًّا بتدمير المجتمع داخليًّا وخلقيًّا وروحيًّا.

فالتوبة أيضًا مسئولية ذلك المجتمع الذي يرتدع فيه المذنب، ولا يجهر، ويستتر بفعلته، وينبذ بفعل الفطرة المستقيمة لدى هذا المجتمع.

وبالنسبة للفرد ? للمجموع قد يجوز الانعزال لبعض الوقت لاشتداد عود الإيمان واخضراره داخل قلب التائب حتى يتسنى له العدوة على بصيرة، والخلطة للإصلاح وليس هذا تكأة لانعزال طائفة أو عزلة شعورية لها تؤدي لإنتاج أسقام فكرية وعلل سلوكية من الاستعلاء والطغيان بالطاعة، أو التعصب المذموم.

وبعد بيان هذه الأبعاد التي تبيِّن التوبة في رؤية مجتمعية جديدة، كمسئولية لكل فرد من أفراد المجتمع ليس على التائبين أو الدعاة فقط، بل أمر النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين الذين يقودون الناس بكتاب الله ولعامتهم، مسئولية كل مسلم مخلص لربه -تبارك وتعالى-.

4- بعد غيبي:

ويتجلى في نهاية القصة البعد الغيبي الذي ? طاقة للعباد به، وهو إرادة الله رحمة بعبدٍ، فلا مرد له ولا ممسك لرحمته، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (فاطر:2)، (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (الشعراء:78)، (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص:56)، وهنا ترد هذه الآية موردًا صحيحًا بعد الثورة الإصلاحية من الأسفل للأعلى في المجتمع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة:105)، فبعد الأخذ بأسباب الهداية الفردية والجماعية والمجتمعية، فلا بد للتائب والداعي، والمجتمع الصالح المصلح بالإنابة والتوكل، وتفويض أمر الهداية والإضلال، لرب العالمين فهو يخلق الهداية في قلب مَن شاء مِن عباده، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، يرفع ويخفض، ويعطي ويمنع، يقبض ويبسط -تبارك وتعالى-، يسخر أسباب الكون كله لقلب استقام على العبودية "فأوحى لأرض المعصية أن تباعدي، ولأرض الطاعة أن تقربي، فوجدوه أقرب إلى أرض الطاعة بشبر".

فلنستصحب بعد هذه المنظومة ذلك البعد، بل هو في الحقيقة البداية والنهاية، والأصل والفرع، فالتعلق بالله واجب كل مرحلة، ودور كل مسلم في كل نَفَس ولحظة ولفظة.

والله ولي التوفيق.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة