الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مصابيح لا شموع!

من المهم أن تعلم أنَّ الله لم يكلفنا أن نكون شموعًا من أجل الآخرين

مصابيح لا شموع!
أبو بكر القاضي
الثلاثاء ١٥ أكتوبر ٢٠١٩ - ٠٩:٢٢ ص
756

مصابيح لا شموع!

كتبه/ أبو بكر القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد خلقنا الله -تعالى- في هذه الحياة الدنيا؛ لإقامة العبودية له تعالى بكلِّ أنواعها قلبًا وقالبًا؛ حبًّا وشوقًا، خوفًا ورجاءً، ركوعًا وسجودًا.

وأعظم درجات التعبُّد: أن تكون بينه وبين خلقه دعوةً وبلاغًا وتعليمًا، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر.

وذاك المقام هو مقام الأنبياء، وعلامةٌ على الاصطفاء: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) (الحج:75).   

والنبوَّة لها وظائفُ أربع كما جاء في الكتاب العزيز: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:151).

1- يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا.

2- وَيُزَكِّيكُمْ.

3- وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ.

4- وَالْحِكْمَةَ.

إذًا فالنبَّوة تلاوةً وتعليمًا، وتربيةً وتصفيةً وتهذيبًا.

وهذا الأمر يتطلَّب من القائم به دائمًا تجديدًا لإيمانه ويقينه، و تعاهدًا لأوراده وعلومه وفهومه، وتقدُّمًا حقيقيًّا في السير إلى الله -تبارك وتعالى-.

ومع الأسف الشَّديد: فإن كثيرًا ممن تصدَّى لهذا الشأن أصبح شأنه كشأن الشمعة! يحترق ليضيء للآخرين الطريق، أو كالشجرة الوارفة الظلال التي يستظل بها الناس من كلِّ حدبٍ وصوبٍ وقد دبَّ داخلها السوس؛ فتجتث من فوق الأرض ما لها من قرار!

لذلك من المهم أن تعلم أنَّ الله لم يكلفنا أن نكون شموعًا من أجل الآخرين، وليس ذاك هو حقيقة وراثة النبوَّة والقيام بشعيرة الأمر بالمعروف، بل أمرنا أن نكون كالمصابيح.

قال -تعالى-: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور:35).

قال أبيُّ بن كعبٍ وابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: "مثل نوره في قلب المسلم كمثل تجويفٍ في الحائط -وهو يشير إلى التجويف الصدري- فيها مصباح، وهو مصدر النور الإيمان، المصباح في زجاجة، والزجاجة هي القلب، يرى الحق بنقائه وهو صلب في اعتقاده، ورقيق لكل ذي قربى ومسلم".

والفرق بين المصباح والشمعة: أنَّ الشمعة تُستهلك فتنفد وتُلقى، أمَّا المصباح فهو قابل للتجدُّد والنماء، ولو استهلك فتيله ووقوده فيجدِّد و يتزوَّد، فيعود وهَّاجًا وضَّاءًا منيرًا.

وكثير منَّا قد استهلك بالأعمال الدعويَّة عن تجديد وقوده، وتراه ملء السمع والبصر حركةً وشهرة، ولكن قد دبَّ السوس في قلبه وقاربت شمعته على الانتهاء، ولا بد هنا من توازن بين التقدَّم الكمي والكيفي على مستوى الفرد والجماعة، والمجتمع والأمة.

فقدان هذا المعنى هو سبب أننا نشكو من تقدُّم المظهر على الجوهر، ومن تقدُّم العلم على العمل والأخلاق، والأعمال الظاهرة على طاعات السِّر، والأعمال الدَّعويَّة على التعبُّد الخاص بين العبد وربِّه؛ لذلك؛ لا بد مِن توازنٍ و توسُّط، لا بد مِن عطاءٍ للقلب كي نستطيع أن نأخذ منه "لا بد من وقود".

(زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ): ذاك القلب الزجاجي وقوده من زيتٍ زيتوني مبارك، من شجرةٍ مباركة، وهي: شجرة الوحي الصافي الثجَّاج النازل من السماء، لا شرقي ولا غربي، لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء؛ لا مع المغضوب عليهم ولا مع الضالين، لا مع أهل الغي علم بلا عمل، ولا مع أهل الضلال عملٌ بلا علم، لا مع أهل العلو ولا مع أهل الفساد.

وإنما توسط في الإرادات والتصورات، والأعمال والسلوكيات.

الخُلاصة لكي تكون مصباحًا لا شمعة:

1- الوحي لا بد أن تتزوَّد منه؛ تتزوَّد بآيةٍ أو حديث لا لتنشر ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا لتقوله في محاضرة، بل لتجدِّد ذاك المصباح الذي ينير الزجاجة.

2- أثر ذلك المصباح أنَّك تجد ذاك النور في وردك وصلاتك وعباداتك ومعاملاتك، وبذلك تكون صالحًا في نفسك، ومُصلحًا لغيرك.

3- أوَّل ما يعينك على أن تكون مصباحًا أن تعتني بتزكية نفسك، وتطهير قلبك من أمراض الشهوة والشبهة.

4- في تعلُّم الكتاب والحكمة لا تكفيك الخطوط العريضة أو العناوين والشعارات الجوفاء، بل تحتاج إلى دراسةٍ مؤصَّلة أكاديميَّة لكلِّ فروع الشريعة مِن العلوم الخادمة والمخدومة.

5- لا تتوقَّف عن تنمية ذاتك في علمك وعبادتك وأورادك؛ لا بد أن تتاجر وتربح، وتنفق من الربح، إيَّاك أن تنفق من رأس المال فتفشل تجارتك مع الله وتنحسر دعوتك، وتخفت وتخبو في الأرض، وقبل ذلك: تفقَّد قلبك ورضا ربك، ولا تغتر بشهرةٍ أو ثناءٍ أو ألقابٍ زائفة.

6- وأخيرًا: "كُنْ مِصْبَاحًا، وَلَا تَكُنْ شَمْعَة".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة