الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

صفات عباد الرحمن (8) تعظيم حرمة الدماء

كل الشرائع عظَّمت من حرمة الدماء

صفات عباد الرحمن (8) تعظيم حرمة الدماء
سعيد محمود
الأربعاء ١٣ نوفمبر ٢٠١٩ - ١٠:٠٦ ص
804

صفات عباد الرحمن (8) تعظيم حرمة الدماء

 

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الإشارة إلى الشاهد على الصفة من الآيات: قوله -تعالى-: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الفرقان:68)، قال المفسرون: "لا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بما يحق قتلها به".

- إشارة إلى أن هذه صفة أخرى من صفات التخلي في صفات عباد الرحمن.. وإلا: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) (الفرقان:68).

- ما أحوجنا إلى نشر هذه الصفة، وقد امتلأت الأرض بالدماء في هذا الزمان(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ) (متفق عليه).

(1) تعظيم الشرع لحرمة الدماء:

- كل الشرائع عظَّمت من حرمة الدماء فبعد ذكر قصة قتل أحد ابني آدم لأخيه قال -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُون) (المائدة:32)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) (رواه مسلم).

- ولعظم حرمة الدماء، كانت هي أول ما يقضى فيه بين الناس: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في الدِّمَاءِ) (متفق عليه).

- ولأجل ذلك جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعظم ذلك في نفوس المسلمين: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري)، وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ" (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يشيرُ أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار) (متفق عليه).

(2) أنواع الدماء التي حرَّم الله (الدماء المعصومة):

أولًا: دماء المسلمين:

- جميع المسلمين دماؤهم معظمة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) (متفق عليه)، وقال: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) (متفق عليه).

- لذا توعد الله مَن يقتل مسلمًا بأشد العذاب: قال الله -تعالى-: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء:93)(2).

- دماء المسلمين أعظم الدماء، ولو استهان بها الكفار والفجار في كل زمان: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وعن نافع قال: "وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: "مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ" (رواه الترمذي، وقال الألباني: حسن صحيح).

- متى يحل دم المسلم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ، الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) (متفق عليه).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث، فليس لأحدٍ مِن آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه" (تفسير ابن كثير).

ثانيًا: دماء المعاهدين:

- هي تشمل غير المسلمين ممن يقيمون في بلاد المسلمين، أو دخلوا بلاد المسلمين بأمانٍ وعهدٍ: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء:34).

- الوعيد الشديد لمن قتل المعاهدين؛ لما يسببه من فتنة وفوضى وتشويه لصورة المسلمين: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه؛ فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن؟!" (الجواب الكافي).

- متى تحل دماء المعاهدين؟ قال الله -تعالى-: (وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) (التوبة:12)، وقال -تعالى-: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى? إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ? وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8-9).

(3) الأسباب المؤدية الى الاستهانة بحرمة الدماء(3):

أولًا: الجهل:

- الجهل يهون في نفوس الناس حرمة الدماء، ولذلك هو قرين جرائم القتل في كل زمان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ) (متفق عليه). (وَالهَرْجُ): القتل.

ثانيًا: الغلو:

- أصحاب الغلو والكبر من العامة يقابلون الإساءة إليهم بالقتل ونحوه: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة:194).

- أصحاب الغلو من المتدينين الجهلة يستهينون بالدماء بزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال أولهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- في قسمة يقسمها: "يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ" (متفق عليه)، ولما كان يوم صفين قال أصحابه وعقبه تكفيرًا للصحابة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(4) (الأنعام:57).

ثالثًا: انتشار العنف والجريمة في وسائل الإعلام:

- تصوير القتل والتخريب والجريمة على أن ذلك بطولة أو حرية: قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) (النساء:27).

رابعًا: شيوع الظلم والفساد المادي والأخلاقي:

- فلا بد أن يتولد من ذلك الجرائم التي تؤدي إلى القتل بين الناس (السرقة - الزنا - الغصب - .... ): (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران:110).

خامسًا: عدم العقوبة الرادعة:

- كثير من القتلة يفلتون من العقوبة بالثغرات القانونية؛ فضلًا عن كون القوانين مخالفة لأحكام الشريعة(5): قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)، وقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة:45)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعَمْدُ قَوَدٌ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني).

خاتمة: أسباب تعين على تعظيم حرمة الدماء(6):

1- طلب العلم الشرعي الذي يحيي مراقبة الله -تعالى-.

2- ملازمة العلماء الصالحين والرجوع إليهم.

3- إصلاح وسائل الإعلام، ومنع نشر العنف والجريمة، وبث روح التسامح والعفو وحسن الخلق.

4- مواجهة التيارات التكفيرية والدموية بالترتيب الصحيح (المناظرة والتقويم الفكري ثم الردع والاستئصال).

5- إنزال العقوبة الشرعية على مرتكبي هذه الجرائم.

فاللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، واحفظ أعراضهم وآمن روعاتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا يمر يوم من أيام الله، إلا والآلاف من البشر يقتلون هنا وهناك، وبأيدي بعضهم البعض ما بين حروب وصراعات.

(2) ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن القتل العمد للمؤمن لا توبة له، قال: "لا تَوبَةَ لقاتلِ المُؤْمِن عمْدًا" (رواه البخاري)، وإن كان الصحيح خلافه كما هو مذهب الجمهور. وقد قال ابن عباس بذلك؛ للآية، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (كلُّ ذنبٍ عسَى اللهُ أنْ يَغفِرَهُ، إلَّا مَن مات مُشْرِكًا، أوْ مُؤْمِنٌ قَتَل مؤمِنًا مُتعمِّدًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

(3) الإشارة إلى أن هذه أبرز الأسباب وإلا فهي أكثر من ذلك، ثم الإشارة إلى أن التناول سيكون بإجمال؛ وإلا فالأمر يحتاج إلى حديث وبحث منفرد، والله المستعان.

(4) وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما قال فيهم: (يَقْتُلُونَ، أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ) (متفق عليه)؛ وإلا فانظر كم قتل غلاة التكفير "الرافضة والخوارج" إلى يومنا هذا من المسلمين وكم قتلوا من الكفار المشركين؟! بل انظر إلى اتفاقهم على قتل المسلمين من أهل السنة في العراق وسوريا، وغيرهما.

(5) كثير من هؤلاء يزدادون جرمًا وفسادًا بعد عقوبة السجن مع القتلة والمجرمين.

(6) هي عناوين فقط؛ وإلا فكل واحد منها يحتاج إلى تفصيل في حديثٍ منفردٍ.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة