الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (18)

الاضطرابات الأسرية (3) التفكك الأسري المعنوي

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (18)
ياسر برهامي
الخميس ٢٠ فبراير ٢٠٢٠ - ١٩:٠٤ م
1072

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (18)

الاضطرابات الأسرية (3) التفكك الأسري المعنوي

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فكما كان التفكك الأسري الظاهر -غياب الزوج والأب- سببًا للخلل في تربية الأولاد، وحصول القسوة في قلوبهم التي تؤدي إلى ظهور القسوة في المجتمع؛ فإن التفكك المعنوي الذي تتباعد فيه القلوب، وتتباغض رغم تقارب الأبدان، ورغم أن كيان الأسرة لا يزال قائمًا في الظاهر؛ له نفس الدور في خلل التربية والتنشئة مِن التفكك الظاهر، بل في الحقيقة أكبر منه، وغالبًا ما يتمنى أفراد الأسرة انتهاء وجودها بالانفصال؛ ليستريحوا مِن عناء المنازعات والخصومات والاختلافات بين الزوج والزوجة، والأب والأم، وبين الأشقاء والشقيقات بعضهم بعضًا، وبين الآباء والأمهات، والأبناء والأولاد مِن جهة أخرى؛ وذلك لوجود البغضاء والكراهية، وروح التنافس على الدنيا، والحسد؛ التي تحلق الدِّين كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

ولا شك أن فقدان الجلسات العائلية -وخاصة التي تكون جلسة خاصة بين الأب وأبنائه كل واحد على حدة- يؤدي إلى التباعد المعنوي.

وقد قصَّ الله -عز وجل- في كتابه عددًا من قصص هذه الجلسات الخاصة بين الأب وابنه؛ لما لها مِن عظيم الثمرة في نفس الولد، وتهيئة حالته النفسية لتحمل المسئولية الدينية والدنيوية، وتنشئته نشأة سوية يشعر فيها بأنه قد كبر؛ لأن أباه يخصه بهذه الجلسة، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ . يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:13-19).

هذه الجلسة الإيمانية والحوار المباشر الخاص بين الأب وابنه أو المربي ومَن يربيه هي وسيلة التربية الإيمانية؛ تلك الجلسة التي يبث فيها موعظته ومشاعره التي يعبِّر له فيها عن حبه، ويذكره بالعلاقة التي بينهما؛ فكرر النداء بلفظ: (يَا بُنَيَّ) مرات متعددة، وهذه كلمة كادت أو قد اختفت مِن حياتنا كآباء وأمهات مع أثرها العظيم في نفس الابن أو الابنة.

وهذه الجلسة صارت مفقودة في مجتمعنا في معظم بيوتنا!

فمَن يجلس مع ابنه يعظه، ومَن يجلس مع مَن يعلمهم ويربيهم ويؤدبهم بهذه الوصايا قلة نادرة!

بل تكاد تكون غائبة -إلا مَن رحم الله-، وهذه الوسيلة لا تغني عنها الوسائل الأخرى، مثل: الدروس العامة، أو الوسائل المعاصرة: كالكتاب، والشريط، والخطبة، أو وسائل التواصل، وهذه وإن كانت مفيدة بلا شك فيما ينفع -لا فيما يضر، وهو الأغلب الأعم-، لكنها لا تغني عن هذه الجلسة الخاصة التي يبثُّ فيها المربي موعظته ونصيحته، بل ويسمع مِن ولده أو تلميذه ما يجول في خاطره، ويحدِّث به نفسه، وربما ما رآه في منامه، فضلًا عما يقع له بالفعل، كما جلس نبي الله يعقوب مع ابنه يوسف -عليهما السلام- حينما قصَّ عليه المنام الذي رآه في قوله: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ . قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف: 4-5).

لم يكن في هذه الجلسة غيرهما مِن إخوة يوسف، وهذه خصوصية ضرورية بلا شك؛ لكي يُخرج الابن ما في نفسه، ولو تأملت أثر هذه الجلسة في مستقبل الابن؛ لرأيت ذلك واضحًا في قصة يوسف -عليه السلام- فكل ما لقَّنَه له أبوه في هذه الجلسة الخاصة -التي لا تأخذ إلا دقائق معدودة فيما يقرأ القارئ- كان له أعظم الأثر، فقد قال له: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ولم يقل له: "إن إخوانك هم أعداؤك!"، أو: "إنهم يكيدون لك مِن عند أنفسهم!"، بل علَّمه أن الشيطان هو الذي جعلهم يكيدون؛ لا أنهم أعداؤه أصلًا، وقد ظهر أثر ذلك عندما حقق الله رؤياه؛ قال يوسف -عليه السلام-: (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (يوسف:100)؛ فعبَّر عما فعل إخوته، وعما وقع بينه وبينهم بأسلوبٍ رفيعٍ؛ حيث جعل الشيطان هو السبب في العداوة، ولم يقل: "مِن بعد ما فعل إخوتي ما فعلوا".

فأخبرونا مَن مِن أبناء المسلمين يعرف الشيطان ويعرف عداوته البينة للإنسان؟! أم أن الشيطان عندهم هو العفريت الذي يخاف منه إذا هددته أمه أو أبوه بأنه سيخرج له العفريت والجن ليظل مرعوبًا من العفاريت والجن؟!

خصوصًا مع أفلام الكرتون التي تبث في الأولاد في السن الصغير أن العفاريت والجن، ومصباح علاء الدين، والساحرة الشريرة والساحرة الطيبة؛ كأن الحياة كلها ينظِّمها السحرة وأعوانهم، وأن منهم مَن يكون خيِّرًا؛ تعالى الله عن ذلك، فإن السحر من كبائر الإثم عمومًا.

ولولا هذا الأثر السيئ في النفوس، والخوف من الجن والعفاريت والسحرة؛ لما رأينا هذا الكم من الحالات التي يُظن أنها ملبوسة أو ممسوسة أو مصروعة أو غير ذلك، وهي ليست كذلك، وإنما هي حالة نفسية؛ فإن هذا تعظيم لشأن الجن أضعافًا مضاعفة أكثر مما يستحقه ويناسبه بما هو واقع في الحقيقة.

وكذلك حينما علَّمه أبوه أن الله هو الذي يَمُن، وأنه هو الذي يجتبي ويعلِّم، ويفعل ما يشاء؛ أثرت هذه الكلمات المضيئة مِن يعقوب -عليه السلام- حين قال: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف:6).

فلم يقل له: "أنتَ سوف تكون أعلى مِن إخوتك"، أو: "أنتَ ستكون عالمًا بتأويل الرؤى!"، بل لم يتعرض قط لما تضمنته الرؤيا مِن علوٍّ ومُلك دنيوي قد حصل ليوسف -عليه السلم-، بل أعرض عنه بالكلية، واهتم فقط بأن يبيِّن له منة الله واجتباءه عليه (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي: بالنبوة (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ولا شك أن إهمال ذكر الدنيا ومُلْكها بالكلية يجعل قدرها في قلب ذلك الابن صغيرًا حتى عندما تحصل له، وإنما الأعظم في الفضل والمنة والاجتباء والاصطفاء: أمر النبوة، وشرف العلم، والحكمة، والعمل الصالح، وظهر ذلك حين سجد له أبوه وأمه وإخوته حين قال يوسف: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)، ولم يقل: "قد تحققت أو صارت حقيقة"، وإنما قال: (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)، وقال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)، فنسب النعمة إلى الله، والمعتاد منَّا نحن الذين ندعي الالتزام أن نقول: "خرجتُ من السجن في تاريخ كذا!"، ولا يحاول أحدنا أن يستحضر: أن الله هو الذي أخرجه مِن السجن، أو أخرجه مِن الأزمة الفلانية، أو شفاه من المرض الفلاني، بل يقول أحيانًا: "شُفِيتُ من المرض" فيبني الفعل للمجهول هكذا، ولا ينسبه إلى الله!

ثم قال نبي الله يوسف -عليه السلام-: (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) ولم يقل: "جئتم مِن البدو".

ثم علَّمه أبوه أسماء الله وصفاته في قوله: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، وقد ظهر أثر ذلك في آخر القصة حين توجَّه يوسف -عليه السلام- في خطابه لأبيه بهذه الكلمات بعد هذه السنين الطويلة حين قال له: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة