الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (21) علاج التفكك الأسري المعنوي

وشهود نعمة الله وفضله أصل سعادة العبد

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (21) علاج التفكك الأسري المعنوي
ياسر برهامي
الجمعة ١٣ مارس ٢٠٢٠ - ١٥:١٦ م
578

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (21) علاج التفكك الأسري المعنوي

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف:6)، هذه الجلسة التربوية الإيمانية الرائع التي أثرت في يوسف -عليه السلام- عمره كله، وظل أثرها عبر السنين رغم الفراق الطويل، يقصّها الله علينا ليعلِّمنا كيف يُغرَسُ الإيمانُ والحب لله في القلب؛ ولتكون القدوة والأسوة للآباء والمربين في توجيه الأبناء والتلاميذ.

فيخبر الله عن قول يعقوب ليوسف -عليهما السلام-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: كما اختارك وأراك سجود هذه الكواكب والشمس والقمر لك؛ فكذلك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك بفضله.

وشهود نعمة الله وفضله أصل سعادة العبد؛ إذ هي أصل الشكر، وإنما يعمل الشيطان ليجعل الخلق غير شاكرين (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:17)؛ فإذا شكر العبد ربه قطع الطريق على الشيطان فلم يجد إلى قلبه سبيلًا، وشهود الاختصاص بالرحمة والتفضيل من أعظم ما يأخذ بقلب العبد إلى ربه -سبحانه-؛ حبًّا وشوقًا ورجاء وعبودية؛ فالحب ينبت على حافات شهود المنن، ومعرفة الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهذا قد تحقق في كلمات يعقوب -عليه السلام- لابنه يوسف -عليه السلام-.

وأعظم نعمة واجتباء يمُنُّ الله بها على عبده هي نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، ثم الاجتباء بالقرب الخاص والتفضيل على كثيرٍ مِن عباده المؤمنين، وأعلى ذلك الاجتباء بالنبوة والرسالة؛ تأمّل ما ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كلامه لموسى -عليه السلام-: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) (طه:13)، وقوله -تعالى-: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى . وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) (طه:36-37)، إلى قوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه:39)، وقوله -تعالى-: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه:41)، ولولا تثبيت الله لهذه القلوب لضعفت من شدة الفرح والحب، والشوق إلى الله -سبحانه-.

وتأمّل قول الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ فضلُ اللهِ علَيْكَ عَظيمًا) (النساء:113)، وقوله: (وَإنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ) (القلم:4)، ماذا ينالنا نحن من إدراك قبس من النور الذي حلَّ في قلوب الأنبياء؟

وتأمل قول الله -تعالى- لعباده المؤمنين: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران:164)، وتأمل قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (آل عمران:73-74)، وقوله -عز وجل-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78).

فحين تستشعر أن الله هو الذي سمّاك مسلمًا من قبل ولادتك، ومَنَّ عليك من قبل وجودك، وسمَّاك مسلمًا في القرآن -أشرف الكتب المنزلة على أشرف الرسل صلى الله عليه وسلم-؛ يكاد القلب يذوب حبًّا وشوقًا ورجاءً لمزيد الفضل والرحمة منه -سبحانه-، فالكون مليء بأدلة التفضيل بين الخلائق (اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (الإسراء:21)، وتأمل هذا في الدنيا يقود إلى وجود تفضيل أعظم في الآخرة (وَلَلآخرةُ أكْبَرُ درجاتٍ وَأكْبَرُ تَفضيلاً) (الإسراء:21)، وشهود التفضيل بالدين أعظم سبب للحب، مع معرفة صفات الجمال والجلال لله سبحانه.

ولنتأمل في ذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد في قوله: (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)؛ لنجد التوجيه ولفت نظر القلب إلى هذه الخصوصية في العلاقة؛ ربك أنت الذي يفعل بك كل جميل ويَمُنُّ عليك بكل نعمة، ويختصك أنت، ويريدك أنت؛ فلتشهد أفعاله الجميلة بك، ولتحرص على أن تكون له وحده، وتشهد فضله وحده، لا تُحَقِّقُ هذا الشعور غير هذه الكلمة "ربك" في مثل هذا الموضع.

وذِكْر اسم يعقوب -عليه السلام- الذي سُمِّي به في صغره دون ذكر إسرائيل؛ الذي سُمِّي به في كبره بعد جهاده في اللّه، وتضحيته وصبره وغلبته لنفسه لله -عز وجل-؛ هذا -والله أعلم- تواضعٌ لله -سبحانه-.

قوله -سبحانه وتعالى- عن يعقوب -عليه السلام-: (إنَّ ربَّك عَليمٌ حكيمٌ): إن الإيمان بالأسماء والصفات أساس التوحيد والمعرفة، ونجد هنا التربية الإيمانية على التعلق بالأسماء والصفات واستحضار آثارها، وذكر هنا ثلاثة أسماء لله -سبحانه-: (الرب والعليم والحكيم)؛ ذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد؛ ليرى في نفسه خصوصية التعلق وشهود الإصلاح الخاص، فالرب هو الذي يُربي مربوبه؛ أي يصلحه ويقوم على شأنه، والله -سبحانه وتعالى- يخص أنبياءه ورسله ثم أولياءه بأنواع من العناية والإصلاح، ويسبغ عليهم من النعم والفضل ما لا يسبغه على غيرهم؛ فإذا استشعر العبد ذلك؛ عظمت عنده النعمة، وتعلق قلبه بربه تعلقًا خاصًّا حبًّا وشوقًا ورجاءً، يختلف عن تعلق سائر الخلق؛ فإن النعمة الدينية أعظم من النعمة الدنيوية (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ? وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء:113).

والرب أيضًا المالك لمربوبه؛ وإذا استشعر العبد أنه مملوك، مختص بمزيد فضل مالكه؛ مَهَيّأ مُعدٌ لأمر لم يهيأ له غيره من المماليك؛ رَبَأَ بنفسه أن يضيعها أو يرضى لها بأن يملكها غير مالكها الحق، ولم يرضَ بعبودية غير ربه ومولاه.

والرب أيضًا السيد الآمر الناهي المطاع، وفي هذا يشهد المؤمن أن أوامر ربه ونواهيه له هو، وهو المقصود بها قبل غيره، وأن طاعته هي المقصودة، وهذا يجعله أشد حرصًا على التزام الأمر واجتناب النهي، والمداومة على الطاعة.

واسم (العليم) في هذا الموطن: يقتضي شهود علمه بمن يَصْلح للاجتباء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته وأعلم بالشاكرين، وأعلم بكيفية تدبير أمر عبده المؤمن حتى يوصله إلى غايته المحمودة، وأعلم بما في قلوب عباده؛ فيقدر أمره الغالب بعلمه الأول الموصوف به أزلًا -سبحانه-.

واسم (الحكيم): بمعنى الذي لا يفعل ولا يشرع شيئًا إلا لحكمة وغاية محمودة، فهو يضع الأشياء في مواضعها، وإذا اجتبى عبدًا وعلّمه، ومَنَّ عليه بما لم يمُنّ على غيره؛ فلأنه أهلٌ لذلك، فهو أعلم بخلقه، ويفعل فيهم مقتضى الحكمة التي يستحق الحمد عليها، كما أن شرعه -عز وجل- كله حكمة، وأوامره الشرعية لعباده المؤمنين فيها مصالحهم في دينهم ودنياهم، وهذا كله يقتضي التسليم لشرعه، والرضا به -سبحانه وتعالى- وعنه ربًّا مدبرًا قادرًا، لا يتهمه في قضائه ولا يعقب على حكمه؛ وإن غابت عنه الحكمة في مبادئ الأمور؛ فليوقن بها، فما يخلو قضاؤه عنها أبدًا، وليصبر لأمره؛ فسيرى العجب، وليواظب على الحمد والتفويض والتوكل.

واسمه (الحكيم) بمعنى: المُحْكِم للأشياء؛ الذي أتقن صنع كل شيء، وتدبير كل شيء، وكلا المعنيين في قصة يوسف -عليه السلام- يظهر في تفاصيلها من آثارهما العجب، فتأمل حكمة الله في إلقاء يوسف -عليه السلام- في البئر، ثم بيعه رقيقًا وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وكيف كان هذا في الحقيقة سببًا لعلوه، وارتفاعه على إخوته الذين أرادوا إنزاله؛ فارتفع بفضل الله، وأرادوا إذلاله فعَزَّ بتقدير الله وحكمته، وانظر كيف كان السجن سببًا للملك؟! لو لم يُبْتَلَ يوسف -عليه السلام- به لظل في رق العبودية؛ فكان الضيق سببًا للسعة بحكمة الحكيم -سبحانه-، وغير هذا كثير مما سيمر بنا -إن شاء الله- أثناء تفاصيل القصة، وتأمّل كذلك إتقان التدبير والكيد منه سبحانه، وكيف كان الأمر في غاية الإحكام لينفذ أمره، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).

ولقد ظلَّ يوسف -عليه السلام- متعلقًا بأسماء الله الحسنى التي علّمها له أبوه عبر السنين، وظهر هذا جليًّا في نهاية القصة بعد السنين الطوال والفراق البعيد؛ فيقول لأبيه: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100)؛ نفس الأسماء التي ألقاها على سمعه وقلبه أبوه الكريم في صغره، وهذا يؤكد لنا أهمية التربية الإيمانية على فهم معاني الأسماء والصفات والتعلق بها حتى لو كانت البيئة بعد ذلك غير مُعينة على نفس التربية، بل حتى لو كانت البيئة فاسدة؛ كالتي عاش فيها يوسف -عليه السلام- كانت بيئة كافرة ماجنة لاهية، ومع ذلك بقي أثر التربية العظيمة.

ولو تأملت وصية لقمان لابنه كيف يعلمه أسماء الله الحسنى: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان:16)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18)، وتأمَّلت كذلك الكلمات التي يعلمها النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)؛ لظهر لك ضرورة هذه التربية، ومدى التقصير الذي يقع فيه الآباء والمربون إذا أهملوا هذا الجانب من جوانب التربية.

وبالقطع واليقين، إن طريقة علم الكلام بالتعريفات الرياضية والحدود الكلامية هي أبعد الطرق وأظلمها؛ فليبتعد عنها الأب والمربي، وعليه بطريقة الكتاب والسنة والسلف الصالح -رضوان الله عليهم-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة