الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

حكم التكبير الجماعي في البلكونات والخروج في مسيرات لدعاء الله تعالى برفع وباء كورونا

السؤال: ما حكم ما شاهدناه في كثيرٍ من الأماكن من التكبير في البلكونات بصورةٍ جماعيةٍ، والخروج في مسيراتٍ ليليةٍ؛ للتضرع إلى الله -تعالى- ودعائه لرفع وباء كورونا عن بلاد المسلمين؟ خاصة وأن هناك مِن يستدل على تجويز ذلك ببعض الأدلة الشرعية العامة، مثل: 1- ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لقول الله -تعالى- عن قوم يونس -عليه السلام-: (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (يونس:98)، مِن أنهم: "جأروا إلى الله واستغاثوا به، وتضرعوا له وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله -تعالى- أن يرفع عنهم العذاب" (انظر تفسير ابن كثير 4/ 258). 2- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني). 3- أن هذا الخروج والاجتماع مثل الخروج في صلاة العيدين والتكبير فيهما، ومثل صلاة الاستسقاء، ورفع الصوت بالتأمين في الصلاة، ومثل هذا أيضًا في دعاء القنوت؛ فإن الإمام يدعو ويقوم المأمومون بالتأمين على دعائه، ولأن في التأمين بصوتٍ مرتفعٍ يقظة وافتقارًا إلى الله؛ لأن اليهود يحسدوننا على التأمين، فهذا جهر بالدعاء وليس فيه تعدٍّ حتى يمنع منه. فما جواب فضيلتكم في مشروعة ذلك والاستدلال بمثل هذه الأمور؟ وجزاكم الله خيرًا.

حكم التكبير الجماعي في البلكونات والخروج في مسيرات لدعاء الله تعالى برفع وباء كورونا
الأربعاء ٢٥ مارس ٢٠٢٠ - ٢١:٤٠ م
1680

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

1- فليس في الآية الكريمة إلا أنهم آمنوا، وخروجهم ليس في حديثٍ صحيحٍ تبنى عليه الأحكام، ثم لو صح؛ لكان مِن شرع مَن قبلنا الذي ورد شرعنا بخلافه في النهي عن كل محدثة.

2- أما الحديث: فهو في الخروج الاضطراري غير المرتب؛ وإلا فقد عَلِم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لا نعلم، وما خرج بأصحابه إلى الصعدات، ولا ترك التلذذ بالنساء على الفُرش، ولا أمر أصحابه بذلك؛ فهلَّا خرج علينا أهل البدع بتحديد يومٍ يَترك الرجال فيه التلذذ بالنساء على الفُرش كما فعلوا في المسيرات والبلكونات، وأسطح المنازل حتى يروا ما يصنع الناس بهم؟!

وإنما الحديث في الشغل بالآخرة الذي يهم صاحبه حتى لا يجد رغبة في التلذذ بشيءٍ مِن الهمِّ والغمِّ؛ لا أنه يشرع التعبُّد بذلك، فكذلك الخروج إلى الصعدات خروج اضطرهم إليه شدة الخوف الذي يعطِّل شئون الحياة، فمِن رحمة الله بنا أن لم يعلِمنا ذلك، وشرع لنا خلافه؛ بل حتى عندما ألزم بعض الصحابة -رضي الله عنهم- نفسه بترك التلذذ طلبًا للآخرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم: (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه).

فكذلك نقول لهؤلاء: علِم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يفعل، ومَن رغب عن سنته -صلى الله عليه وسلم- فليس منه؛ فاستقيموا، واتبعوا ولا تبتدعوا، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

وكذلك نقول لمَن منعوا الناس مِن بيوت الله: هلا تركتموها مفتوحة، كما فعل مَن نادى: "صلوا في رحالكم"؟!

3- هذا مِن البدع المحدثة التي لم يفعلها السلف عند وقوع الوباء أو غيره؛ لأن العبادات والأذكار المطلقة تقييدها بوقتٍ معينٍ وعددٍ معينٍ، والاجتماع عليها بكيفية معينة لم ترد؛ كل هذا مِن البدع، ولوكان خيرًا لسبقنا إليها السلف مِن الصحابة والتابعين فمَن بعدهم.

وأما القياس على التأمين في الصلاة والقنوت، برفع الصوت: فقياس مع الفارق؛ لأن هذا ورد به الدليل، وقد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الدعاء الجماعي والتأمين في الكسوف، ولم يجتمع الصحابة -رضي الله عنهم- على الدعاء في الطاعون، ولا رفعوا أصواتهم بالدعاء الجماعي والتأمين؛ فضلًا عن التكبير في البلكونات، والخروج في مسيراتٍ.

وكذا الاحتجاج بالقياس على صلاة العيد أو الاستسقاء فنقول لهم: هل كانت العلة في الخروج في العيد والتكبير -وكذا في صلاة الاستسقاء- غير معلومة عند الصحابة ولم يفعلوها، وعلمتموها أنتم دونهم حتى تقيسوا عليها هذا القياس الذي لم يقل به إمام مِن أئمة العلم؟!

قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرًا في الجملة، مما يتعلق بالعبادات مثلًا، فأتى به المكلف في الجملة أيضًا: كذكر الله، والدعاء، والنوافل المستحبات وما أشبهها؛ مما يعلم مِن الشارع فيها التوسعة، كان الدليل عاضدًا لعلمه مِن جهتين: مِن جهة معناه، ومِن جهة عمل السلف الصالح به.

فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص، أو مكان مخصوص، أو مقارنًا لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلًا أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعًا، من غير أن يدل الدليل عليه، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه.

فإذا ندب الشرع مثلًا إلى ذكر الله، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسانٍ واحدٍ، وبصوتٍ أو في وقتٍ معلومٍ مخصوص عن سائر الأوقات، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم، بل فيه ما يدل على خلافه؛ لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعًا شأنها أن تفهم من التشريع، وخصوصًا مع مَن يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد؛ فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار، ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المساجد وما أشبهها: كالأذان وصلاة العيدين، والاستسقاء والكسوف، فُهِم منها بلا شك أنها سنن، إذا لم تفهم منها الفرضية؛ فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به، فصارت مِن هذه الجهة بدعا محدثة بذلك.

وعلى ذلك ترك التزام السلف لتلك الأشياء، أو عدم العمل بها، وهم كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد؛ لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ندبا في مواضع كثيرة، حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر، كقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرً) (الأحزاب:41)، وقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10)، بخلاف سائر العبادات.

ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر لله، ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات، ولا قيدوه بأوقات مخصوصة، بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات، إلا ما عينه الدليل: كالغداة والعشي، ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره: كالذكر في العيدين وشبهه، وما سوى فكانوا مثابرين على إخفائه... فكل مَن خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولًا؛ لأنه قيّد فيه بالرأي، وخالف مَن كان أعرف منه بالشريعة، وهم السلف الصالح رضي الله عنهم" (الاعتصام 1/249-250).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: "فليس الدعاءُ برفعِ الوباءِ ممنوعًا ولا مصادمًا للمقدور من حيث هو أصلًا، وأما الاجتماع له كما في الاستسقاء، فبدعة حدثت في الطاعون الكبير سنة تسع وأربعين وسبع مائة بدمشق، فقرأت في (جزء المنبجي) بعد إنكاره على جمع الناس في موضع، قال: فصاروا يدعون ويصرخون صراخًا عاليًا، وذلك في سنة أربع وستين وسبع مائة، لما وقع الطاعون بدمشق فذكر أن ذلك حدث سنة تسع وأربعين وخرج الناس إلى الصحراء ومعظمُ أكابرِ البلدِ فدعوا واستغاثوا، فعَظُمَ الطاعونُ بعد ذلك وكَثُرَ وكان قبلَ دعائِهم أخفُّ!

قلت: ووقع هذا في زماننا حين وقع أوَّلُ الطاعونِ بالقاهرة في السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وثمان مائة، فكان عددُ مَن يموتُ بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء في الرابع من جمادى الأولى بعد أن نودي فيهم بصيام ثلاثة أيامٍ كما في الاستسقاء، واجتمعوا ودعوا وأقاموا ساعةً ثم رجعوا، فما انسلخ الشهر حتى صار عددُ من يموت في كل يومٍ بالقاهرة فوق الألف ثم تزايد!

ووقع الاستفتاء عن ذلك فأفتى بعض الناس بمشروعية ذلك، واستند فيه إلى العمومات الواردة في الدعاء... ولو كان مشروعًا فِعلُهم ما خفيَ على السلف ثم على فقهاء الأمصار وأتباعِهم في الأعصارِ الماضية، فلمْ يبلغْنا في ذلك خبرٌ ولا أثرٌ عن المحدِّثين، ولا فرعٌ مسطورٌ عن أحدٍ من الفقهاء، وألفاظُ الدعاءِ وصفاتُ الداعي؛ لها خواصٌّ وأسرارٌ؛ يختص بها في الشرع كلُّ حادثٍ بما يليق به، والمُعتَمَدُ في ذلك الاتِّباع، ولا مَدْخَل للقياسِ في ذلك" (بذل الماعون في فضل الطاعون، ص 329-330).

فالدعاء مطلوب، ولكن كما ورد به الشرع وطبَّقه الصحابة -رضي الله عنهم-، وليس فيه الاجتماع والترتيب؛ إلا في صلاة الاستسقاء.

والحرص على الاتباع والبُعد عن الابتداع مِن أعظم وسائل رفع البلاء.

والله المستعان.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com