الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

هدي الإسلام في الوقاية من تفشي الأوبئة وسيئ الأسقام

هذا الذي قد يدركه الكافر والملحد بفطرته عند نزول البلاء، وانعدام الأسباب الحسية التي تدفع عنه الضراء، فيرفع يده للسماء

هدي الإسلام في الوقاية من تفشي الأوبئة وسيئ الأسقام
الخميس ٠٢ أبريل ٢٠٢٠ - ٠٩:٢٤ ص
651

هدي الإسلام في الوقاية من تفشي الأوبئة وسيئ الأسقام

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن الله -عز وجل- لم يخلق الخلق عبثًا ولا سدى، ولا تركهم هملًا، بل خلقهم لغاية عظيمة وهي تحقيق عبوديته وحده، وأرشدهم لكل ما يحقق هذه الغاية من حفظ الدين والأبدان والعقول، والأموال، والنسل؛ فأنزل الكتب وأرسل الرسل وشرع الشرائع، وقدر في الكون ما يحفظ الخلق ويسلمهم.

حتى ختم الله ذلك بإرسال أفضل الرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء، فما من خير إلا ودلنا عليه وما من شر إلا وحذرنا منه، فكانت في سنته من الأنوار والهدايات والبصائر ما يعجز الواصفون عن وصفه من كماله وجماله وصلاحه كل زمان ومكان، باتباع هديه وامتثاله.

وقد اشتملت سنته -التي هي تبيان للقرآن ورحمة للإنس والجان، والجماد والحيوان على كل تفاصيل صلاح الدين الذي هو عصمة أمرنا، وأصول وقواعد صلاح مَن يقيمون هذا الدين، ويتعبدون لله به في كل حين؛  فكان للصحة والعافية الحظ الأوفر والنصيب الأكبر في تعاليمه وإرشاداته -صلى الله عليه وسلم-.

وإذا كنا مأمورين بتعلم الهدي النبوية ومعرفته في وقت الرخاء، فإن الحاجة إلى ذلك تشتد عند الشدة ونزول البلاء، والناس تسمع في الفتن لكل مَن هب ودب؛ للحابل والنابل، وللعالم والجاهل، ويذهلون عن كثير من وصايا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يخبر إلا بصدق، ولا يأمر إلا بالخير، ولا يحذر إلا من الشر، ولا يدعو إلا إلى الفلاح والصلاح والبر، وإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث لهداية الناس إلى الله بالتوحيد والعبادة، وحسن الخلق، وتعمير الأرض بذلك، وهذه المقاصد لا تتم على أكمل وجه إلا بحفظ الأرواح والأبدان، والعافية من الأمراض وسيئ الأسقام.

فكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الوصايا الطبية ما أبهر الأطباء وأعجز البلغاء، وهذا الذي نحتاج إلى أن نبحث عنه ونجدد البلاغ به وندعو إليه الناس، فيجتمع لهم وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابتة مع إرشادات الأطباء التي غالبًا ما تكون تفسيرًا لهدي نبي أو تطبيقًا له بصورةٍ ما! وإن جهل ذلك الأطباء في سبل الوقاية أو أنواع الأدوية.

وهذا ما يميز المسلم عن غيره؛ فإنه يجتمع له من الوصاية الربانية من التوكل على الله بصدق، واللجأ إليه، والاستبشار بقرب الفرج والتسليم لقضاء الله وعدم الجزع والهلع مع التداوي بكل ما ثبت أو غلب على الظن نفعه بالتجريب، وما نصح به الطبيب اللبيب، فبالتوكل على العزيز الرحيم الوهاب والأخذ بالأسباب؛ تكون فرص نجاة المسلم وسلامته من الأوبئة والأسقام أعلى من غيره؛ فكيف إذا كان للمسلم لإيمانه بصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر به أسباب أخرى يجهلها غير المسلم أو يعملها دون اعتقاد ونية ويقين، فالمسلم يؤمن أن الأمور الكونية لها أسباب ظاهرة محسوسة وأسباب غيبية باطنة، فيدفع المحسوس بالمحسوس، والغيبي الباطني بما أمره به الله -عز وجل- والنبي -صلى الله عليه وسلم-.

وهذا الذي قد يدركه الكافر والملحد بفطرته عند نزول البلاء، وانعدام الأسباب الحسية التي تدفع عنه الضراء، فيرفع يده للسماء، ويدعو ويناجي ربه وخالقه كما ظهر من كلام بعض الرؤساء الكافرين عند شعورهم بخطر انتشار فيرس كورونا الجديد، وعجزهم عن القضاء عليه أو منع انتشاره، فالمؤمن يعبد ربه في السراء والضراء، ويحقق العبادة الشرعية والكونية في كل حال؛ خلافًا للكافر الذي لا يعرف الله إلا في الضراء أو بعد فوات الأوان، حين لا ينفع الإيمان، فلا يحقق إلا العبادة الكونية في رخائه، والشرعية في ضرائه، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يونس:12).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وشريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملة على صلاح الأبدان، كاشتمالها على صلاح القلوب، ومرشدة إلى حفظ صحتها، ودفع آفاتها بطرق كلية، قد وكل تفصيلها إلى العقل الصحيح، والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء، وتعلم مبادئ الطب وأحكامه تفصيليًّا كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه، فلا تكن ممن إذا جهل شيئًا عاداه" <زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 380) بتصرفٍ يسيرٍ>.

وقد ذكر بعض أهل العلم -منهم الإمام ابن القيِّمُ رحمه الله في مصنَّفه القيِّمِ "الطِبّ النبويّ"- الكمَّ الثمين من تلك الإرشادات النبويَّة في حفظ الصحة، بما يُعد بحقٍّ مبادئ سبق إليها الإسلامُ، تبين أصول طرق التداوي الصحيح؛ أذكر بعضها إجمالًا:

- إرشاد المريض أن يتحرّى التداوي عند مَن اشتهر بحِذْقه في صناعة الطب.

- إرشاد الطبيب إلى مراعاة عشرين أمرًا ليكون حاذقًا في صَنْعته؛ من أهمها:

- الوقاية الدائمة باجتناب ما فيه خطر على صحة الانسان.

- العمد إلى التداوي بالغذاء أولًا، ثم بالدواء، فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّره.

- مزيد التلطُّف بالمريض.

- النظر في نوع المرض، وسبب حدوثه، وقوة المريض في مقاومة تلك العلة المرضية، فإن عجز المريض عن ذلك عمد عندها إلى النظر في الدواء المضادِّ لتلك العلَّة.

- تحجيم المرض والحجر عليه إذا ظهر أنه مما يتنقل ويعدي بقدر الله (العلاج والرقى بما صح عن المصطفى بتصرف).

هذا ودونك أخي القارئ بعض هدايات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما بين أخبار وأوامر، فالخبر يصدق ويسترشد به، والأمر يمتثل ويتبع، أهديها إليك فاعضض عليها بالنواجذ، وتأمل جمال وكمال وجلال دينك وسنة نبيك، وكن على يقين فيها وحرص على تطبيقيها وامتثالها. نسأل الله لنا ولك العافية.

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌفِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) (رواه البخاري). والغُبن: النقص والخُسران في البيع وغيره.

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ، فَجَاءَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُنَا: نَرَاكَ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ، فَقَالَ: (أَجَلْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ)، ثُمَّ أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ: (لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

وفي هذين الحديثين إخبار يرشد إلى فضل الصحة وأنها نعمة تحتاج إلى شكر وحفظ ورعاية، وأن المسلم لو استشعر ذلك وأيقن أنه مسئول بين يدي الله -عز وجل- عن هذه النعمة؛ لكان أكثر حذرًا من التفريط فيها.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلَّا الْمَوْتَ، وَالْهَرَمَ) (رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ).

وهذا فيه دعوة إلى تعلم الطب وبيان مشروعية التداوي؛ مما يدل على أن التداوي لا ينافي التوكل، ولا يعني التسخط على قدر الله، بل هو عمل بالشرع، ودفع للقدر بالقدر؛ دفع لقدر المرض بقدر التداوي كما يدفع الانسان قدر الجوع بالأكل وقدر العطش بالشرب. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً) تأمل في المعية!

وهذا الخبر مما يحفز الأطباء على البحث والمحاولة الجادة في التوصل إلى دواء الداء، وفيه مِن الفأل وغرس الأمل في كل مريض ما يخفف الألم ويقرِّب الفرج.

ولعلنا في المقال التالي بمشيئة الله نستكمل ذكر الوصايا النبوية الطبيبة الوقائية والعلاجية.

نسأل الله لنا وللمسلمين العافية والسلامة، ونعوذ به الجنون والبرص، والجذام، وسيء الأسقام.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة