الثلاثاء، ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٣ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

كورونا بين الإلف والمدافعة

فمرور المحن على المؤمنين زيادة صلة، بعظيم تضرعهم وبذلهم، فهذه المحنة زائلة وسيبقى الأثر والأجر

كورونا بين الإلف والمدافعة
نور الدين عيد
الاثنين ٠٤ مايو ٢٠٢٠ - ١٢:٠٦ م
535

كورونا بين الإلف والمدافعة

كتبه/ نور الدين عيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الناس اليوم يعيشون محنة حقيقية، طالت أغلب قطاعات البشر، وأظهرت حقائق كان الناس يشكون فيها، ودروس هذا الوباء لم تنقضِ، ولا زال الدرس قائمًا، فمن منصت متعلم، وغافل مباغت، ومعاند متكبر، ومتاجر مستغل، فالخلق ضعفًا، والبشر جهلا، فطوبى لمن علمه الله وبصره، وهنيئًا لمَن قواه الله وأعانه، ترى تخبط الخلق وافتقارهم، فما يسر القلب بمثل الثقة في الله، ويطير الخلق بخبر دواء فما يفرح القلب وصلات بينه وبين ربه موقوفة، فيا له من درس عظمت فصوله، ومن مجلس فاضت فوائده، فشره خير لعبد صالح، وخيره محجوب عن مفتقر لغير الله بقلبه.

وإن من جملة ما يشار إليه من الخيرات والشرور:

- التباعد الاجتماعي: يوصي الأطباء بها التباعد حفظًا للناس من انتقال المرض، واتباع وصيتهم معتبرة في المقاصد، فمع انتشار المرض وحصده الأرواح في بعض البلدان تعظم الوصية، وأصل اعتبار هذا منصوص عليه: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء:29)، وعن رجل من آل الشريد يقال له عمرو عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ) (رواه مسلم)؛ هذا مع التحقق، ومع الظنية: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، فالأول: إلحاق مفسدة بالغير مطلقًا. والثاني: إلحاقها به على وجه المقابل، أي كل منهما يقصد ضرر صاحبه، فأخذ الاحتراز مع التحقق أو غلبة الظن مشروع.

ولكن هناك محاذير:

لا يجوز القطيعة والانغلاق وإسقاط الحقوق، فالرحم وصلها فرض على درجاتها قربًا وبعدًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ . أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:22-24). (متفق عليه).

فاحذر التذرع والتبرير، فصل مع الاحتراز، وهذا توسط في كل أبواب العبادات عند الأمر بها والأمر مِن الأطباء بنصائح فيها، أما الغلو فليس فقهًا، كما أن الظنون ليس حقائق مسلَّمات، فلا نضيع الأمر مع وجود السبل التي يحفظ بها الخلق بلا ضرر.

قلة النفقات: إن قطاعات كبيرة من الناس تضرروا في معايشهم بسبب إجراءات احترازية، وهذا الشر من الضيق فيه عبادات من الخيرات: فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُم) (متفق عليه)، فتكافلوا تُكفلوا، وأطعموا تطعموا، واكسوا تكسوا، فمَن كان مانعه خوف افتقار الغد، فبئس الحال حاله، وبئس الظن بربه ظنه، هذه مصائب أشد من الوباء، أن يسقط الفقير بين مَن أغناهم الله ولم يلتفتوا، بل ادفع صدقة برهانك، وزكاة مالك، ولو بالتعجيل كما في خبر العباس عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال البغوي في شرح السنة: "هي علي ومثلها معها"، فله تأويلان، أحدهما: أنه كان قد تسلف منه صدقة سنتين، فصارت دينًا عليه، وفيه دليل على جواز تعجيل الصدقة قبل محلها، وجوز بعضهم تعجيل صدقة عامين لظاهر هذا الحديث".

فمرور المحن على المؤمنين زيادة صلة، بعظيم تضرعهم وبذلهم، فهذه المحنة زائلة وسيبقى الأثر والأجر، فمن أبصر العاقبة هان عليه البذل، ومن تعلق بالأسباب فلا شفاء لعيه، ولا برء لسقمه، فالمسبب والمقدر هو الذي قال: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:17-18)، وقال -سبحانه-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ . وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (يونس:107-109)، وقال -سبحانه-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ . وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ . وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ . وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ . وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (الشورى:27-31).

وأما دروسه فلا زالت صفحاتها مفتوحة، ومحاضراتها مبثوثة، لعلنا نقف مع عبودية الرب في كل موطن، ونبذل مع مَن اختص واصطفى.

والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com