الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

ابن تيمية المظلوم وموقفه من المخالفين

والله ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى

ابن تيمية المظلوم وموقفه من المخالفين
خالد آل رحيم
السبت ٠٩ مايو ٢٠٢٠ - ٢١:٣٣ م
600

ابن تيمية المظلوم وموقفه من المخالفين

كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فمِن أكثر الشخصيات التي ظُلمت عبر التاريخ شخصية شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ ليس في عصره فقط، بل وإلى اليوم، وربما قادم الأيام؛ فقد تعرَّض شيخ الإسلام للظلم والاضطهاد مِن بعض السلاطين في عصره، ومِن أقرانه من العلماء وإلى اليوم لا يزال يتعرض لهذا الظلم البيِّن، فقد روي عن الشيخ طاهر الجزائري (1268 - 1338 هـ، 1852 - 1920م): إنه كانت جمهرة الفقهاء في عصره تكفِّر ابن تيمية تعصبًا وتقليدًا لمشايخهم، فلم يرَ الشيخ طاهر الجزائري لتحبيبهم بابن تيمية إلا نشر كتبه بينهم مِن حيث لا يدرون، فكان يستنسخ رسائله وكتبه ويرسلها مع مَن يبيعها في سوق الوراقين بأثمان معتدلة لتسقط في أيدي بعضهم فيطالعونها، وبذلك وصل لغرضه مِن نشر آراء شيخ الإسلام التي هي لباب الشريعة (ابن باديس حياته وآثاره).

وحسبه أنه كان -ولا يزال- محبوبًا من العوام.

قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "وسائر العامة تحبه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا بلسانه وقلمه" (الرد الوافر).

وقال القاضي السبكي -رحمه الله-: "والله ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به" (الرد الوافر).

موقفه من المخالفين:

لقد وضع ابن تيمية -رحمه الله- قاعدة في حياته، وهي مقولة شهيرة له قال فيها: "أحللت كل مسلم عن إيذائه لي".

وكان يقول -رحمه الله-: "فلا أحب أن يُنتصر مِن أحدٍ بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي".

وقال: "هذا وأنا في سعة صدر لمَن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهليه، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكمًا فيما اختلفوا فيه" (ابن تيمية والآخر).

ولم يكن هذا الكلام شعارات يرددها، ولكنها كانت واقعًا عمليًّا في حياته وسيرته مليئة بهذه المواقف التي نعرج على بعضها.

موقفه من خصومه الذين تسببوا في سجنه وطالبوا بقتله:

لقد كان ابن تيمية -رحمه الله- مِن أكثر العلماء الذين أصابهم حسد وأذى الأقران، ومع ذلك كان صابرًا محتسبًا، وكان مِن أرحم وألطف الناس معهم، ومع هذا فقد اجتمع هؤلاء عليه وهم أشتات كثيرة وأطياف منوعة، ولكن هدفهم واحد هو إسقاط ابن تيمية، فقد حاولوا مجاراته في علمه ومناظرته في أدلته؛ فبيَّن لهم حججه وألزمهم إياها، فاستعانوا عليه بالسلطان، وما أشبه الليلة بالبارحة!

يقول العمري: "لقد اجتمع عليه عصب الفقهاء والقضاة بمصر والشام وحشدوا عليه خيلهم ورجلهم، فقطع الجميع وألزمهم الحجج الواضحات أي إلزام، فلما أفلسوا أخذوه بالجاه والحكام" (الرد الوافر).

ففي عام 709هـ بعد أن وشى به بعض هؤلاء وكذبوا عليه وألَّبوا الحكام والأمراء عليه، وتزلفوا لدى الكبراء في أمره، سُجن وعُذب هو وأصحابه وتولى كبر ذلك شيخ غلاة الصوفية في زمنه الشيخ نصر المنبجي وجماعة من الفقهاء والعلماء على رأسهم القاضي المالكي ابن مخلوف، وبعد ذلك ساقوه لمحاكمة ظالمة جائرة قضاتها هم الأعداء والوشاة، فالمدعي هو القاضي، والمتهِم هو الحاكم! وفي هذا الجو المتلبد بالجور لم يتمكن ابن تيمية من الدفاع عن نفسه، فأمر القاضي ابن مخلوف بحبس ابن تيمية في القلعة ومعه أخواه، ولما رأى شرف الدين -أخو ابن تيمية وكان معه في السجن- الظلم الكبير الذي وقع عليهم من قبل هؤلاء ابتهل إلى الله ودعا الله عليهم، فمنعه ابن تيمية وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به (ابن تيمية والآخر).

وقال ابن تيمية -رحمه الله- عن ابن مخلوف الذي سجنه: "وأنا والله مِن أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل، والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين" (مجموع الفتاوى).

خروجه من السجن:

انتصر السلطان قلاوون على خصومه، وضم مصر ودمشق إلى حكمه، وكان همه الأول إخراج ابن تيمية من السجن فأخرجه معززًا مكرمًا، ووصل الشيخ للبلاط السلطاني فقام له السلطان ووضع يده في يده ودخلا على كبار علماء مصر والشام، وفيهم خصوم ومخالفي ابن تيمية، فأراد السلطان أن يقضي عليهم انتقامًا منهم، ووجد أنهم هم مَن أفتى بحبس الشيخ وكفَّره، وأباح قتله، فأراد السلطان أن يستخرج فتوى من شيخ الإسلام بجواز قتل هؤلاء القضاة والفقهاء والذين كانوا أعداءً له ولابن تيمية، فاختلى السلطان بابن تيمية وحدثه عن رغبته في قتلهم، وأخذ السلطان يحث ويشجع ابن تيمية على إصدار فتوى بجواز قتلهم، وأصر السلطان وأخذ يذكر ابن تيمية بأن هؤلاء هم الذين ظلموه وتسببوا في سجنه، وأرادوا قتله، ولكنه إمام الدنيا وشيخ الإسلام، وتأمل ماذا فعل... ؟!

لقد قام بتعظيمهم والشفاعة لهم لدى السلطان قائلًا له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل! فرد عليه السلطان متعجبًا متحيرًا: لكنهم آذوك، وأرادوا قتلك مرارًا!

فقال ابن تيمية: مَن آذاني فهو في حل، وأنا لا أنتصر لنفسي.

وما زال يقنع السلطان بالعفو عنهم حتى استجاب له السلطان وخلى سبيلهم، وعندها أقبلوا عليه يتأسفون ويعتذرون فقبل منهم قائلًا: قد جعلت الكل في حل (ابن تيمية والآخر).

موقفه مع بعض خصومه بعد موتهم:

جاءه في يوم مِن الأيام خبر وفاة أشد خصومه عداوة وهجومًا عليه حيث كان يكفره ويستحل دمه، بلغه ذلك عن طريق أحد أصحابه كبشارة له.

يقول تلميذه ابن القيم: "وجئت يومًا مبشِّرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحالة منه، فرحمه الله ورضي عنه" (مدارج السالكين).

قال الدكتور محمد عمارة -رحمه الله-: "كان ابن تيمية مرابطًا على ثغور الإسلام لا يكتفي بالجهاد الداخلي في عقل الأمة وواقعها، وإنما كان شديد البصر والبصيرة بالمخاطر الخارجية التي تحدق بحضارة الإسلام ودياره، ولم يكن ابن تيمية مجرد فقيه وفيلسوف، وإنما كان مجددًا لفكر الأمة وحياتها وواقعها الذي تعيش فيه، وفي هذا الميدان قدّم حياته وحريته قربانًا في هذا الجهاد، وقد كان شديد الوعي بفقه الأولويات حتى إنه حمل السلاح وحارب الصليبين والتتار تحت أمرة من مات في سجونهم (ابن تيمية والآخر).

وختامًا قال ابن القيم -رحمه الله-: "كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددتُ أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قط، وكان يدعو لهم" (مدارج السالكين).

رحم الله شيخ الإسلام، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة