الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الرد على (الحلقة الأولى) من هجوم اليوم السابع على البخاري

لا ينكر أحدٌ أن الإمام البخاري مقدمًا في الإمامة والحفظ، لكنه بشر وليس معصومًا

الرد على (الحلقة الأولى) من هجوم اليوم السابع على البخاري
شحات رجب بقوش
الأحد ١٠ مايو ٢٠٢٠ - ١١:٥٨ ص
659

الرد على (الحلقة الأولى) من هجوم اليوم السابع على البخاري

كتبه/ شحات بقوش

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فكعادتها بدأت جريدة اليوم السابع هجومًا على الإمام البخاري وصحيحه الجامع، تحت عنوان: "31 عالمًا مِن أهل السُّنة والجماعة ينتقدون البخاري"، وفيما يبدو أنها سلسلة مِن الحلقات انطلقت الأولى منها.

الملامح الرئيسة للمقال الأول:

وقبل التعرض لتفاصيل المقال، يجب أن نبيِّن الملامح العامة له، فالمقال حاول كاتبه أن يجعله يتسم بالموضوعية والتخصصية.

فأما الموضوعية: فقد كتب الكاتب الكثير مِن عبارات الثناء على البخاري وصحيحه، ليظهر من خلال ذلك أنه منصف ويتعامل مع الأمر بموضوعية، لكن لا يخفى على القارئ اللبيب أن هذه العبارات مجرد مداخل يكسب بها ودَّ القارئ ليتقبل بها النقد بعد ذلك، فكما يقال: "يضع السمَّ في العسل!".

وأما التخصصية: فقد بدا للقارئ أن الكاتب متخصص في العلم الذي يخوض فيه، فكاتب المقال قد ذكر أسماء بعض المصادر وأسماء بعض العلماء في أثناء المقال؛ مما يوهم أن مادة المقال ليست من بُنيات أفكاره، بل منسوبة لكتب وعلماء سبقوه فيما يرمي إليه، لكن المتمعن في نقوله يجده "حاطب ليل" يجمع ما تقع يده عليه دون تمحيصٍ وتحريرٍ؛ فماذا يفيد نقل فيه نقد للبخاري وقد رد عليه أهل العلم مرارًا وتكرارًا، ولم يتعرض الكاتب لهذه الردود؟!

وأيضًا: فإنه لم يقف على المصادر المذكورة، بل نقل عن مصادر وسيطة، وهي كتب شيعية معروفة بالكيد لأهل السنة -كما سنبين-.

كما يبدو للقارئ أيضًا: أن الكاتب لديه إلمام بالمسائل الحديثية حيث تناول بعض القضايا الحديثية، وعند دراستها يبدو فيها عجز كاتبها وبعده عن هذا العلم.

الانتقادات التي جاء بها المقال:

تمثَّلت الانتقادات الواردة في المقال في عدة نقاط: البخاري ليس معصومًا، بُعد زمان البخاري عن عصر النبوة، عدم إجماع الأمة على صحيح البخاري، مسألة حفظ السنة، موقف محمد بن يحيى الذهلي، وأبي حاتم الرازي، وأبي زرعة الرازي من البخاري وصحيحه.

وفيما يلي عرض لما أورده الكاتب والرد عليه:

أولًا: عدم عصمة البخاري:

قال الكاتب: "لا ينكر أحدٌ أن الإمام البخاري مقدمًا في الإمامة والحفظ، لكنه بشر وليس معصومًا".

وهذه مِن الشبهات التي تتكرر كثيرًا، فيقول القائل: إن البخاري بشر غير معصوم، ثم يلزمه بأن يخطئ في كل شيء!

والجواب عن ذلك: أن البخاري ليس معصومًا، فقد أخطأ أخطاء في كتابه: "التاريخ الكبير"؛ مما دفع الإمام أبي حاتم الرازي إلى تأليف كتاب سماه: "بيان خطأ البخاري في التاريخ الكبير"؛ لكن السؤال هل غير المعصوم لابد أن يخطئ في كل عمل يعمله؟!

فمثلًا: الطبيب غير معصوم، فهل لابد أن يخطئ في كل عملية جراحية يجريها للمريض؟ وعلى فرض الإجابة بـ"نعم"، فهل كل خطأ يقع من الطبيب يؤدي حتمًا لوفاة المريض؟!

قس على ذلك الإمام البخاري في صحيحه، وكذلك عمل البخاري في صحيحه لم يكن عملًا فرديًّا، بل عرضه على بعض شيوخه، ومنهم الإمام أحمد وعلي بن المديني -رحمهما الله-؛ فدَّل ذلك على أن عدم العصمة للبشر ليست محل انتقاد، بل العبرة بمحل الخطأ وبيانه.

ثانيًا: قال الكاتب: "وتناسى الجميع مرور أكثر من مائتي عام بين حديث الرسول الكريم وبين جمع هذه الأحاديث بين دفتي كتاب".

وهذا يدل على جهل الكاتب بطبيعة الحالة العلمية في هذا الزمان، وهو ما يسمى عصر الرواية، حيث كان الاعتماد على الرواية الشفهية أوثق من الكتابة في الكتب، وكان التوثيق قائمًا على ذكر أسماء الرجال، وهذا كان المناسب لهذه المدة حيث ضعف الكتابة وصعوبة الحصول على أدواتها.

وتظهر هذه العبارة التي ساقها الكاتب أيضًا مدى الجهل بمسألة تدوين السنة، حيث تناسى الكاتب أو جهل أن السنة دونت في عهد الصحابة بإذن من رسول الله لبعض أصحابه، ثم ما كان في عهد التابعين حيث قام الزهري بالتدوين أيضًا ثم جمعت المصنفات والجوامع والمسانيد بين قبل عصر البخاري، مثل: مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة، ومسانيد أحمد وابن راهويه والحميدي، وجامعي معمر وابن وهب، وموطأ مالك، وسنن سعيد بن منصور والدارمي، وغيرها من الكتب التي سبقت البخاري.

ثالثًا عدم إجماع الأمة على صحيح البخاري:

ادَّعى الكاتب أن الأمة الإسلامية لم تجمع على صحيح البخاري، وعلة ذلك عنده: أنه يجعل لانتقاد الشيعة اعتبارًا يخرق إجماع الأمة، فقال: "البخاري وصحيحه يحظيان بشعبية كبرى عند أهل السنة والجماعة، لكن الأمة تشمل شيعة أيضًا هؤلاء الشيعة ينتقدون!".

وهذا الموقف يعني أحد أمرين:

إما أنه جاهل بحال الشيعة، وأنه لا يقام لانتقادهم وزنًا؛ لأن الشيعة يخالفون أهل السنة في كثيرٍ مِن المسائل التي لا تقل أهمية عن صحيح البخاري؛ فمن الشيعة مَن يقول بتحريف القرآن، ويطعن في عدالة الصحابة جميعًا إلا بضعة منهم، ومنهم مَن يطعن في زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل ومنهم مَن يشكك في نبوته -صلى الله عليه وسلم-، فلو فتح الباب لأخذ انتقاد الشيعة اليوم في صحيح البخاري، سيلزمنا الأخذ بكلامهم غدًا في القرآن، والصحابة، وزوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا لا يقول به إلا جاهل.

وإما أن يكون هذا الكاتب يعرف مَن هم الشيعة جيدًا، ويدعو لاتباع أقوالهم وأخذ انتقادهم بعين الاعتبار، وهذا هو موقف الكاتب -فيما يبدو-؛ فإن الكاتب لم يعتمد مِن كتب المعاصرين في الاستدلال لنقده إلا كتابًا واحدًا، وهو "أضواء على الصحيحين" لمحمد صادق النجمي، والنجمي إيراني شيعي أحد علماء الحوزة العلمية في "قم"، ومَن يطالع مقدمة كتابه يقف على نيته الخبيثة مِن وراء الكتاب، والكتاب باللغة الفارسية، ولم يشر الكاتب إلى الترجمة العربية التي قام بها "يحيى كمال البحراني"، وهو شيعي آخر، والكتاب نشرته مؤسسة المعارف الإسلامية بإيران، فظهر بذلك التوجه الفكري لكاتب المقال، حيث إن المقال مستل بكامله مِن هذا الكتاب الشيعي!

ومما جاء في تقديم "ناشر الكتاب" ص 26 ما نصه: "إن المؤلف وإن كان يقطن قم المقدسة وهو أحد فضلاء حوزتها، وكان بعيدًا عن معاشرة أهل السنة ومحادثتهم، لكنه تصدى في دراسته لهذا الموضوع على الوجه السليم والأسلوب الصحيح، ورجاءنا مِن أهل العلم والفهم أن يقرأوا الكتاب بدقة حتى تتجلى لهم الحقائق أكثر فأكثر. أرجو مِن الله القدير أن يحفظ قوام الحوزة العلمية في قم المقدسة حتى ظهور صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن العسكري عجَّل الله -تعالى- فرجه الشريف، وأن يوفق جميع العلماء والمحققين في شتى أبواب العلوم الإسلامية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. مرتضى العسكري مساء الخميس 11 / 2 / 1392 هـ".

أمَّا مسألة إجماع الأمة على صحيح البخاري: فإنه منذ تصنيف "صحيح البخاري" تلقته الأمة بالقبول، وكم مِن شارح لأحاديثه، أو مترجم لرجاله، أو مستنبط لفقهه، أو دارس للغته، أو مستدرك عليه، أو متعقب له، أو مستخرج عليه، أو مختصرٍ له، وما زال إلى يوم الناس هذا؛ مادة ثرية للدراسة؛ مما يدل على أن "صحيح البخاري" لم تطوَ دفَّتاه عن العلماء يومًا، بل هو مفتوح بين أيديهم، قراءة وإسماعًا، ورواية، ودراسة، وشرحًا، وانتقاءً، مِن يوم أن كتبه جامعه إلى يومنا هذا، فلا يظنَّنَّ ظانٌّ أنَّ "الصحيح" كان في معزلٍ عن العلماء الأثبات، وأنه أول مَن نظر فيه، فينتقده نقد جاهل، فلقد تناولته أيادي الجهابذة جيلًا وراء جيل، ونظر فيه أساطين العلم والحكمة، عبر القرون، فما أبدوا إلا إعجابًا به وإذعانًا لفضل مؤلفه.

رابعًا: مسالة حفظ السُّنة:

قال الكاتب بعد ما تكلم عن حفظ الله للقرآن: "أما السنة بوجه عام، فإن الله -تعالى- قد أوكلها إلينا لنحفظها نحن، فحدث فيها خلط كبير، مثلما حدث في الكتب المقدسة السابقة، فالله -تعالى- أوكل حفظها للأحبار اليهود والرهبان وغيرهم فحدث خلط، والبعض لدينا يظن أن السنة مِن عند الله اعتمادا على قوله -تعالى- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم:?)، وفي ذلك خلط في الفهم والاستنباط".

ويبدو من هذا العرض: أن الكاتب يتجاهل العلاقة بين القرآن والسنة، وهذا ما نبَّه عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وحذر منه، فعن أبي رافع -رضي الله عنه- قال: (لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

فالعلاقة بين القرآن والسنة: أن السنة مفسِّرة ومبينه للقرآن، أوحى الله بها للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليبيِّن لأمته، قال -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل:??)، فظهر بذلك أن الذكر الذي قال فيه -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:?)، فدلت الآيتان على أن الذكر المحفوظ هو القرآن والسنة معًا.

وعلى فرض التسليم -من باب التنزل- أن الله أوكل حفظها للبشر، فلا يلزم ذلك أنهم فرطوا فيها كما فعل أهل الكتاب في كتبهم، بل كان مِن توفيق الله أن ألهم هذه الأمة علمًا لم يُسبقوا إليه، ظهر على يد أهل الحديث وقد  كانوا نقادًا أفذاذًا ينتقدون كل دخيل ويكشفون كل بدعة تستحدث في الدين، فلولاهم لعمت البدع، وشاعت الشبهات؛ ولذلك قال الحاكم النيسابوري -رحمه الله- في مقدمة كتابه: "معرفة علوم الحديث" (ص 1):  "أما بعد، فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قلَّتْ، مع إمعانهم في كتابة الأخبار، وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال؛ دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل على ذكر أنواع علوم الحديث، إلخ".

وقبل ذلك قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة، قال: تعيش لها الجهابذة" (ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال، 1/ 192).

فتبيَّن من ذلك: أن علم الحديث خير رادع لكل مَن أراد أن يحدِث في الدِّين ما ليس منه، وقال ابن المبارك -رحمه الله-: "الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، لَوْلا الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ".

فكان المحدثون نقادًا ينقدون المرويات، وما نسب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بمنهج علمي رصين شهد بجودته المستشرقون المنصفون، قال القس المستشرق الإنجليزي "دافيد صموئيل مرجليوث" 1858: 1940م: "ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم" (ينظر: المقالات العلمية، ص 234- 253، نقلًا عن تقدمة العلامة المعلمي اليماني في المعرفة لكتاب الجرح والتعديل).

فدل بذلك أن السنة محفوظة في الجملة، ولم يستطع الكذابون وضع حديث دون أن يكشفه العلماء ويبينوه، فبطل قول الكاتب: "أما السنة بوجه عام فإن الله -تعالى- قد أوكلها إلينا لنحفظها نحن، فحدث فيها خلط كبير"، وأنه إمَّا جاهل بعلوم السنة، أو يكيد لها.

خامسًا: موقف أبي حاتم من أحاديث البخاري:

استشهد المنتقد في مقاله بحديث يرويه ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن المقدام بن معدى كرب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كيلوا طعامكم، يبارك لكم فيه"، ونفس الحديث يروى من طريق "بحير بن سعد" بدون ذكر "جبير"، وصحح ابن أبي حاتم الطريق الأولى، فقال المنتقد: "ووجه المخالفة أنه تبين من خلال تخريج الطريقين عند "أبى حاتم" أن الطريق الثانية فيها زيادة راو هو "جبير بن نفير" بين "خالد بن معدان" و"المقدام بن معدي كرب"، وقد رجح أبو حاتم هذه الزيادة عندما سأله ابنه بقوله: أيهما الصحيح؟ فقال: حديث ثور بن يزيد، حيث زاد رجلًا؛ فهنا خالف البخاري أبا حاتم في هذا الحديث، فرواه في صحيحه من غير هذه الزيادة".

والرد على ذلك:

هذه الشبهة قد تعطي القارئ انطباعًا أن القارئ من المتخصصين في العلم، لكنه في الحقيقة كالدابة التي قتلت صاحبها، فيبين العرض مدى جهله، وذلك من وجوه:

- سؤال ابن أبي حاتم كان حول الحديث من طريق "بحير بن سعد" بدون زيادة "جبير" أم طريق "ثور" مع زيادة "جبير" فيه، فاختار طريق أثبت الراويين عنده، وهو ثور.

- البخاري وقف على ما لم ينتبه إليه أبي حاتم، فالبخاري وجد الحديث يروى عن "ثور" نفسه على الوجهين -بذكر جبير وبدونه- رواه عنه ابن المبارك كما في مسند أحمد، والوليد كما عند البخاري (2128)، فدل على صحة الوجهين، وأن "خالد ابن معدان" سمعه من "جبير عن المقدام" مرة فحدث به، ثم سمعه بعلو من "المقدام"، فاختار البخاري الطريق العالية.

- وهذا الخلاف يبين زيادة علم عند البخاري، وليست محلًا لانتقاده كما فعل الكاتب.

- وحكم أبو حاتم بالصحة على الطريق النازلة (التي فيها زيادة جبير) لا يفيد ضعف الأخرى؛ إلا إذا ثبت انقطاع ما بصوره المختلفة، وبالرجوع إلى تراجم الرواة تبين الاتصال في حالة سقوط "جبير" فإن "خالد بن معدان" من تلاميذ المقدام، وبلديه (فكلاهما حمصي)، فتبين أن حكم أبي حاتم بالأصحيَّة على طريق دون الأخرى هو مِن باب المقارنة بينهما في الأصحية، وليس نفيًا للصحة عن إحداهما.

سادسًا: موقف الذهلي من البخاري:

نقل المؤلف من كتاب "أضواء على الصحيحين" للنجمي الشيعي، موقف الإمام محمد بن يحيى الذهلي من الإمام البخاري، واقتصر على ما قاله الشيعي دون الرجوع إلى الكتب والمصادر التي تناولت الموضوع، وهذا يدل على تحريره وأنه مجرد حاطب ليل، وليس طالبًا للحق.

والكلام في هذه المسألة من وجهين:

الأول: مسألة اللفظية.

والثاني: كلام الأقران.

أمَّا مسألة اللفظية: ففي فتنة خلق القرآن، أشكل على البعض مسألة التلفظ بالقرآن، فقال الفقيه "الكرابيسي": التلفظ بالقرآن مخلوق، فنهاه الإمام أحمد عن هذا القول؛ لأنه يحتمل معنيين:

أحدهما: الملفوظ نفسه؛ وهو القرآن، فلا يجوز إطلاق الخلق عليه.

والثاني: التلفظ به، والأداء له، وهو فعل العبد، فلا يجوز إطلاق نفي الخلق عليه.

لذلك كان نهي الإمام أحمد عن التكلم في مسألة اللفظية؛ لأنها موهمة، أما إذا فصَّل القائل في المسألة، وفرَّق بين اللفظ والملفوظ، فقال: إن الملفوظ هو كلام الله -عز وجل-، وهو القرآن المتلو المسموع بالآذان، وهو صفة مِن صفات الله، وبالتالي الملفوظ غير مخلوق. أما لفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأداؤهم؛ كل ذلك مخلوق لله، بائن عنه، فهذا حق وصواب تمامًا لا مرية فيه، وهذا ما كان يقول به البخاري؛ فإنه لما سأل في مجلسه قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة" (ينظر: تاريخ بغداد للخطيب، 2/ 355)، فحُمل كلامه المحمل السيئ، وقد تبرأ منه مرارًا، لكن تعلق الحسَّاد قديمًا وحديثًا بالمحمل السيئ لحاجةٍ في النفس.

وهذه المسألة "اللفظية" مسألة عقدية، ولم يقل مثيروها ما يقدح في حفظ البخاري أو ما يقلل من مكانته في علم الرواية، وقد وافق الإمام مسلم ما قال به البخاري أيضًا، وممن رجح كلام البخاري في المسألة أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل، 1/265)، وتاج الدين السبكي في "قاعدة في الجرح والتعديل، ص 35-36).

ثانيًا: كلام الأقران:

فرح الكاتب بما نقله من كتاب الشيعي من كلامٍ لبعض أقران البخاري، وخاصة الذهلي والرازيين (أبو حاتم وأبو زرعة)، ونقل بعض كلامهم في البخاري دون تحرير للمسألة، فإن مسألة كلام الأقران قد تكلم فيها أهل العلم، وقالوا كلامَ الأقران يطوى ولا يروى؛ إذ إنه يكون فيه حظ نفس وحسد، وذلك من طبيعة البشر.

قال الذهبي -رحمه الله- في السير: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وما ينجو منه إلا مَن عصم الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين" (سير أعلام النبلاء، المقدمة/ 59).

وقال: "وقد علم أن كثيرًا من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر، لا عبرة به، ولا سيما إذا وثَّق الرجلَ جماعة يلوح على قولهم الإنصاف" (سير أعلام النبلاء، 7/ 40).

وقال: "فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثيرٍ منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه، بل هما عالما المدينة في زمانهما -رضي الله عنهما" (سير أعلام النبلاء، 7/ 143).

فدل ذلك على أن وقوع الأقران في بعضهم البعض رغم إمامتهم لم يكن مقتصرًا على ما جرى بين الإمام البخاري والإمام الذهلي ومَن تبعه فقط، بل وقع هذا الأمر لغيرهم.

أما ترك الرازيين الرواية عن البخاري بعد مكاتبة الذهلي لهما بمسألة اللفظية، فساعدهم على ترك الرواية أنهما أقران للبخاري في نفس سنه تقريبًا واشتركا معه في معظم شيوخه فلا حاجة لهما بالرواية عنه؛ أما علمه فقد احتيج إليه بلا شك، فإن ابن أبي حاتم وهو تلميذ أبي حاتم -أبيه- وأبي زرعة الرازيين، وهو أعلم الناس بموقفهما من البخاري إلا أن كتب البخاري كانت تحت يديه يستفيد منها، حتى قيل: إن كتابه "الجرح والتعديل" ملخص لكتاب التاريخ الكبير للبخاري مع بعض الزيادات، بل الذهلي نفسه الذي أثار المشكلة قال عنه بلديه أبو حامد الأعمشي: ذكر أن الذهلي كان يسأل البخاري عن الأسامي والكنى وعلل الحديث، والبخاري يجيبه، (ينظر: تاريخ بغداد، 2/ 253)، ولم يروَ عن الذهلي أنه تكلم في إمامة البخاري في الحديث بعد ما أثار أمر اللفظية، ثم إن عالمًا كالترمذي قد فاضت كتبه بسؤالاته للإمام البخاري فما ضره ترك رواية أحد له.

قال الذهبي عقب ذكره لترك الرازيين الرواية عن البخاري: "إن تركا حديثه، أو لم يتركاه، البخاري ثقة مأمون محتج به في العالم" (سير أعلام النبلاء، 12/ 463)، وهذا التعقيب النفيس من الذهبي فات الكاتب؛ لأنه لم ينقل من السير، بل من كتاب الشيعي.

وفي الختام:

يدل ما تقدم أن مقال الكاتب هو مجرد إعادة نشرٍ لشبهاتٍ مردود عليها مرارًا وتكرارًا، والكاتب يحاول إحياءها، بنقله لها مِن كتب غير أهل السُّنة ودون تحريرٍ لها، ودون اصطحابها بردود أهل العلم عليها.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة