الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (33) آيات من القرآن في ذم القسوة (11)

قررنا بالبراهين والإجماع عصمته -صلى الله عليه وسلم- من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدًا ولا سهوًا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقي الشيطان

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (33) آيات من القرآن في ذم القسوة (11)
ياسر برهامي
الأحد ٢٨ يونيو ٢٠٢٠ - ٢١:٣٠ م
585

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (33) آيات من القرآن في ذم القسوة (11)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) (الحج:54).

"أَيْ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ النَّافِعَ الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنَّ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، الَّذِي أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَحِفْظِهِ وَحَرَسَهُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ كِتَابٌ عزيز، (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).

وَقَوْلُهُ: (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أَيْ: يُصَدِّقُوهُ وَيَنْقَادُوا لَهُ، (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أَيْ: تَخْضَعُ وَتَذِلُّ، (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَيُوَفِّقُهُمْ لِمُخَالَفَةِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَهْدِيهِمْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُوصِلِ إِلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّاتِ، وَيُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالدَّرَكَاتِ (انتهى من كلام ابن كثير).

قال الشيخ الألباني -رحمه الله- في "نصب المنجنيق لنسف قصة الغرانيق" بعد أن بيَّن ضعف جميع أسانيد هذه القصة، ناقلًا كلام أبي بكر بن العربي -رحمه الله- بعد أن ذكر سبب نزول آية الحج التي ذكرناها مُلخصًا مِن الروايات التي أوردناها: "اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتكُمْ بِنُورِ هُدَاهُ، وَيَسَّرَ لَكُمْ مَقْصِدَ التَّوْحِيدِ وَمَغْزَاهُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي "فَضْلِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ" بِمَا نَرْجُو بِهِ عِنْدَ اللَّهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فِي مَقَامِ الزُّلْفَى، وَنَحْنُ الْآنَ نَجْلُو بِتِلْكَ الْفُصُولِ الْغَمَاءَ، وَنُرَقِّيكُمْ بِهَا عَنْ حَضِيضِ الدَّهْمَاءِ، إلَى بِقَاعِ الْعُلَمَاءِ فِي عَشْرِ مَقَامَاتٍ:

قال في المقام العاشر:

إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي غَرَضِنَا، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا، أَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، فَأَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ وَسِيرَتِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا عَنْ اللَّهِ قَوْلًا زَادَ الشَّيْطَانُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كَمَا يَفْعَلُ سَائِر الْمَعَاصِي، كَمَا تَقُولُ: أَلْقَيْت فِي الدَّارِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْعِكْمِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْكِيسِ كَذَا.

فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ زَادَ فِي الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا أَنَّ النَّبِيَّ قَالَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إذَا قَرَأَ تَلَا قُرْآنًا مُقَطَّعًا، وَسَكَتَ فِي مَقَاطِعِ الْآيِ سُكُوتًا مُحَصَّلًا، وَكَذَلِكَ كَانَ حَدِيثُهُ مُتَرَسِّلًا مُتَأَنِّيًا، فَيَتَّبِعُ الشَّيْطَانُ تِلْكَ السَّكَتَاتِ الَّتِي بَيْنَ قَوْلِهِ: (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) (النجم:20)، وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى) (النجم:21)، فَقَالَ يُحَاكِي صَوْتَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى.

فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لِقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ وَفَسَادِ السَّرِيرَةِ فَتَلَوْهَا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَسَبُوهَا بِجَهْلِهِمْ إلَيْهِ، حَتَّى سَجَدُوا مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّهُ مَعَهُمْ، وَعَلِمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَرْفُضُونَ غَيْرَهُ، وَتُجِيبُ قُلُوبُهُمْ إلَى الْحَقِّ، وَتَنْفِرُ عَنْ الْبَاطِلِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَمِحْنَةٌ.

فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ؟! وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا غَايَةُ الْبَيَانِ بِصِيَانَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ عَنْ الشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ. وَقَدْ أَوْدعْنَا إلَيْكُمْ تَوْصِيَةً أَنْ تَجْعَلُوا الْقُرْآنَ إمَامَكُمْ، وَحُرُوفَهُ أَمَامَكُمْ، فَلَا تَحْمِلُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، وَلَا تَرْبِطُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَمَا هُدِيَ لِهَذَا إلَّا الطَّبَرِيُّ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَصَفَاءِ فِكْرِهِ، وَسَعَةِ بَاعِهِ فِي الْعِلْمِ، وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ وَذِرَاعِهِ فِي النَّظَرِ؛ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَصَوَّبَها عَلَى هَذَا الْمَرْمَى فَقَرْطَسَ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ، لَا أَصْلَ لَهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَمَا رَوَاهَا أَحَدٌ وَلَا سَطَرَهَا، وَلَكِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ".

ثم نقل كلام القاضي عياض -رحمه الله- في "الشفاء"، قال القاضي عياض: "فاعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل الحديث مأخذين؛ أحدهما في توهين أصله، والثاني على تسليمه، أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يُخرِّجْه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسندٍ سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي؛ حيث قال: لقد بُلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سِنِة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسهى، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عرضها على جبريل؛ قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأها، فلما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك قال: والله ما هكذا نزلت، إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يُسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال -فيما أحسب- (الشك في الحديث) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بمكة وذكر القصة، قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسنادٍ متصلٍ يجوز ذكره إلا هذا، وذكر ما ذكره ابن كثير.

قال: فقد بيَّن لك أبو بكر -رحمه الله- أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه، وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره؛ لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار -رحمه الله-.

والذي منه في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: والنجم وهو بمكة؛ فسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس؛ هذا توهينه من طريق النقل.

فأما من جهة المعنى: فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته -صلى الله عليه وسلم- ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن؛ حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من القرآن ما ليس منه؛ حتى ينبهه جبريل -عليه السلام-، وذلك كله ممتنع في حقه -صلى الله عليه وسلم-، أو يقول ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- من قِبَل نفسه عمدًا -وذلك كفر- أو سهوًا وهو معصوم من هذا كله.

وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته -صلى الله عليه وسلم- من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدًا ولا سهوًا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا عمدًا ولا سهوًا ما لم ينزل عليه، وقد قال الله -تعالى-: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة:44-47)، وقال الله -تعالى-: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء:74-75).

ووجهٌ ثانٍ وهو: استحالة هذه القصة نظرًا وعرفًا؛ وذلك أن هذا الكلام لو كان كما رُوي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا مَن بحضرته مِن المسلمين وصناديد المشركين ممَن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل؛ فكيف بمن رجح حلمه واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟!

ووجه ثالث: أنه قد عُلم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد مَن في قلبه مرض ممَن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحكِ أحدٌ في هذه القصة شيئًا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض  الضعفاء ردة، وكذلك ما روى في قصة القضية، ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمُعادي حينئذٍ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، فما روي عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة؛ فدل على بطلانها واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على مغفلي المحدثين؛ ليلبس به على ضعفاء المسلمين.

ووجه رابع: ذَكَر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء:73-75)، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله -تعالى- ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم؛ فمضمون هذا ومفهومه أن الله -تعالى- قد عصمه مِن أن يفتري، وثبَّته حتى لم يركن إليهم قليلًا، فكيف كثيرًا؟! وهم يرون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون الافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال -صلى الله عليه وسلم-: "افتريت على الله وقلت ما لم يقل!" وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح؛ فكيف ولا صحة له؟! وهذا مثل قوله -تعالى- في الآية الأخرى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) (النساء:113).

وقد رُوِي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: كل ما في القرآن كاد؛ فهو ما لا يكون.

قال القاضي: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل؛ فما فعل ولا كاد أن يضل، وقد ذكرت في معنى هذه الآية تفاسير أخر، ما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله برد سفسافها، فلم يبقَ في الآية إلا أن الله -تعالى- امتن على رسوله بعصمته وتثبيته بما كاده به الكفار، وراموا من فتنته، ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته -صلى الله عليه وسلم- وهو مفهوم الآية.

وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح -وقد أعاذنا الله من صحته-، ولكن على كل حال؛ فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين".

قال الألباني -رحمه الله-: فذكر هذه الأجوبة وضعفها كلها؛ إلا الأخير منها؛ فإنه استظهره ورجحه، وهو الذي أجاب به ابن العربي في ما تقدم من كلامه أن الشيطان هو الذي ألقى ذلك في سكتة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الآيتين محاكيًا نغمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأشاع ذلك المشركون عنه، ولم يقدح ذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققه من حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذم الأوثان وعبادتها على ما عرف منه، وقد حكى موسى بن عقبة في مغازيه نحو هذا، قال: "إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماء المشركين وقلوبهم".

قال الألباني: قلتُ: "ونحوه من رواية عروة، وإن كان في آخرها ما يخالف هذا؟".

قال القاضي عياض: "ويكون مرويًا من حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الشائعة والشبهة، وسبب هذه الفتنة". انتهى كلام القاضي عياض، وهو جدير بالقبول، محفوف بالتوفيق.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

 

تصنيفات المادة