الأربعاء، ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٤ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (43) آيات من القرآن في ذم القسوة (21)

وقد ذكر الله مِن النصارى بوصف المعرفة بالحق وهي التي تثمر دمع العين، فوصفهم بأنهم لا يستكبرون

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (43) آيات من القرآن في ذم القسوة (21)
ياسر برهامي
الخميس ١٠ سبتمبر ٢٠٢٠ - ١٨:٠٩ م
493

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (43) آيات من القرآن في ذم القسوة (21)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

قال الله -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد) (الزمر:22-23).

الفائدة الخامسة:

ذكر الله المؤمنين -المنشرحة صدورهم لذكر الله المستنيرة بنوره- بأوصاف الخشية، التي هي خوف مقرون بعلمٍ ومعرفةٍ، وهي التي تسبب قشعريرة الجلد، ثم وصف قلوبهم باللين مع لين الجلود بعد القشعريرة، وهذا اللين مع الخشية والعلم والمعرفة هو الذي يمنع الكبر؛ الذي هو سبب القسوة والضلال المبين، والإعراض عن الحق، وإباء قبوله.

وقد ذكر الله مِن النصارى بوصف المعرفة بالحق وهي التي تثمر دمع العين، فوصفهم بأنهم لا يستكبرون، فقال الله -عز وجل-: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:82-83).

فهذه كلها صفات أهل الإيمان في كل زمانٍ ومكانٍ، وحصولها في القلب يؤدي إلى قبول العبد للحق مهما كان شأنه في الدنيا؛ إذ إن أكثر مَن علا شأنه في الدنيا بملك أو مال أو جاه يحصل في قلوبهم من الكبر والاستعلاء ما يؤدي بهم إلى ردِّ الحق، والقسوة عن قبوله والضلال بعد ذلك؛ ولذا كان الملأ في أقوام الرسل هم أعداؤهم في الغالب، ولكن مَن زالت عنه صفة الكبر؛ زالت عنه القسوة، وحصل له اللين والقبول للحق كما حصل للنجاشي ومَن آمن مِن بطارقته -رضي الله عنهم أجمعين-.

روى ابن إسحاق في السيرة عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالتْ: "لما ضاقت مكة علينا، وأوذي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منعةٍ مِن قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن بأرض الحبشة مَلِكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دارٍ إلى خير جارٍ، آمنين على ديننا ولم نخشَ فيها ظلمًا.

فلما رأت قريش أنَّا قد أصبنا دارًا وأمنًا غاروا منَّا؛ فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا؛ ليخرجونا من بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلًا إلا هيَّئوا له هدية على حدة، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلوا؛ فقدما عليه، فلم يبقَ بطريق من بطارقته إلا قدَّموا له هديته فكلموه فقالوا: إنَّا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم، فبَعَثَنا قومُهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل، ثم قدَّموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يُهدى إليه من مكة الأُدْم، وذكر موسى بن عقبة: أنهم أهدوا إليه فرسًا وجُبَّة ديباج.

فلما أدخلوا عليه هداياه، قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجئوا الى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم -آباؤهم وأعمامهم وقومهم- لتردهم عليهم، فإنهم أعلى بهم عينًا، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك؛ فغضب، ثم قال: لا لعمر الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجئوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أُنْعِم عينًا.

وذكر موسى بن عقبة: أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم، فقال: لا والله حتى أسمع كلامهم، وأعلم على أي شيء هم عليه.

فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له، فقال: أيها الرهط، ألا تحدثوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني مَن أتانا من قومكم؟ فأخبروني ماذا تقولون في عيسى وما دينكم، أنصارى أنتم؟ قالوا: لا، قال: أفيهود أنتم؟ قالوا: لا، قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا، قال فما دينكم؟ قالوا الإسلام، قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبد الله لا نشرك به شيئًا، قال: مَن جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى مَن قبلنا؛ فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء وأداء الأمانة، ونهانا عن أن نعبد الأوثان، وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له؛ فصدقناه وعرَّفنا كلام الله، وعلمنا أن الذي جاء به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وعادوا النبي الصادق -صلى الله عليه وسلم- وكذوبوه وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الأوثان؛ ففرنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.

قال: والله إن هذا لمَن المشكاة التي خرج منها أمر موسى -عليه السلام-.

قال جعفر: وأمَّا التحية، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام، وأمرنا بذلك؛ فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضًا.

وأما عيسى ابن مريم فعبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروح منه وابن العذراء البتول.

فأخذ عودًا وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود، فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك، فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدًا، وما أطاع اللهَ الناسُ فيَّ حين ردَّ عليَّ ملكي فأطع الناسَ في دين الله، معاذ الله من ذلك.

وفي رواية: قال يونس عن ابن إسحاق: فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم -ولم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم- فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم، فقالوا: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول! نقول والله ما نعرف، وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا -صلى الله عليه وسلم- كائن من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية؟

فقال له جعفر: أيها الملك كنا قومًا على الشرك نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته؛ فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الأرحام، ونحمي الجوار، ونصلي لله -عز وجل- ونصوم له، ولا نعبد غيره.

وقال زياد عن ابن إسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدوا عليه أمور الإسلام فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله؛ فعبدنا الله وحده لا شريك له، ولم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا؛ فعدا علينا قومنا فعذبونا ليفتنونا عن ديننا، ويردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك شيء مما جاء به عن الله؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله (أي: الصحف التي فيها كتبهم) فقال له جعفر: نعم، قال: هلم فَاتْلُ عليَّ مما جاء به، فقرأ عليه صدرًا من "كهيعص" فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى -عليه السلام-، انطلقوا راشدين لا والله لا أردهم عليكم ولا أُنْعِمُكم عينًا. فخرجنا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدًا بما أستأصل به خضراءهم، ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد -عيسى ابن مريم- عبد.

فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحمًا وإن لهم حقًا، فقال: والله لأفعلن!

فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم فاسألهم عنه، فبعث والله إليهم، ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله الذي قاله الله فيه، والذي أمرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن نقوله فيه، فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فدلَّى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودًا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى ابن مريم مما قلتَ هذا العود؛ فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله! اذهبوا فأنتم سيوم في الأرض -السيوم الآمنون في الأرض- ومَن سبَّكم غَرِم، مَن سبَّكم غَرِم، مَن سبَّكم غَرِم، ثلاثًا، ما أحبُّ أن لي دَبْرًا وإني آذيتُ رجلًا منكم. (والدَّبْر بلسانهم: الذهب).

وقال زياد عن ابن إسحاق: ما أحبُّ أن لي دَبْرًا من ذهب.

قال ابن هشام: ويقال زَبْرًا، وهو الجبل بلغتهم.

ثم قال النجاشي: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، ولا أطاع الناسَ فيَّ فأطيع الناسَ فيه، ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها، واخرجا من بلادي فخرجا مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به.

قالت: فأقمنا مع خير جارٍ في خير دارٍ، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمتُنا حَزِنَّا حُزْنًا قط هو أشد منه؛ فَرَقًا من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي مَلِك لا يعرف مِن حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي؛ فخرج إليه سائرًا، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضهم لبعض: مَن يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على مَن تكون؟ وقال الزبير -وكان من أحدثهم سنًا- أنا، فنفخوا له قربة فجعلوها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه.

فجاءنا الزبير فجعل يليح لنا بردائه، ويقول: ألا فأبشروا، فقد أظهر الله النجاشي.

قلت: فوالله ما علمنا أننا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج مَن خرج منا إلى مكة، وأقام مَن أقام.

الفائدة السادسة:

وقوله -عز وجل-: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) يدل على الفائدة السادسة، وهي أن هذه الأحوال القلبية، وكذلك أحوال البدن عند تلاوة القرآن: من دمع العين، وقشعريرة الجلد إنما هي هداية من الله؛ ففيها الإيمان بالقضاء والقدر، وأن أعمال العباد بيد الله ومِن خلقه، ومَن شاء أن يهديه -سبحانه وتعالى- هداه، ومَن شاء أن يضله أضله، وهو -سبحانه وتعالى- يفعل ذلك بعلمه وحكمته وعدله، لا يظلم الناس شيئًا، ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا مِن المهتدين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة