الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (47) آيات من القرآن في ذم القسوة (25)

هذا الحال الذي وصل إليه أهل الكتاب سببه قسوة قلوبهم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (47) آيات من القرآن في ذم القسوة (25)
ياسر برهامي
الخميس ٠٨ أكتوبر ٢٠٢٠ - ٢٣:١٢ م
548

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (47) آيات من القرآن في ذم القسوة (25)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).

الفائدة الرابعة:

الخشوع مفقود عند أهل الكتاب؛ لطول الزمن بينهم وبين أنبيائهم؛ وذلك لتحول العبادات إلى عادات، فلم تَحْصُل فيها أعمال القلوب، والخشوع من أعظمها أهمية في الصلاة، قال الله -عز وجل-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2).

والتقوى في الصيام، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183).

والتقوى عمل القلب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التَّقْوَى هَاهُنَا) وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).

والطهارة والنقاء من الشحِّ، قال الله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) (التوبة:103).

والحج لا بد فيه مِن تقوى القلوب، قال الله -عز وجل-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) (الحج:37)، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)، فهذه عبادات القلب التي ينالها الإنسان إذا حصَّل عبادات البدن؛ لتكون أوعية لعبادات القلب.

والذي حدث عند أهل الكتاب -وهو سبب طول الأمد عليهم-: أنه كلما مرَّ الزمان، ابتعد الناس عن الوحي المنزَّل على الأنبياء وأهملوه، وأهملوا تدبره وفهمه، والاستدلال به كتابًا وسنة، وتحوَّل الدِّين عندهم إلى آراء الرجال وألغاز المتصوفة، وجدالات الفلاسفة والمتكلمين وسياسات الملوك، فضاع الدِّين كما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-:

                         وهل أفْسَدَ الدِّينَ إلا الملوكُ      وأحبارُ سوءٍ ورُهْبانُها؟!

حتى صار الشرك فيهم أكثر من التوحيد، والمعاصي أكثر من الطاعات، قال الله -عز وجل-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) (المائدة:59)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) (رواه مسلم)، وقال الله -عز وجل-: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) (الإسراء:4).

فكان إفسادهم بالبدع ثم بالشرك، ثم بالظلم وسفك الدماء كما وصف الله -عز وجل-: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة:83)؛ فتركوا عبادة الله وبرَّ الوالدين، وتركوا ما أُمروا به من الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين، وأن يقولوا للناس حسنًا، وتركوا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا قليلاً منهم؛ فتحوَّل أهل الكتاب -بمللهم- إلى دين آخر، وملل أخرى غير ما جاءت به الأنبياء؛ حتى وصل بهم الحال إلى تكذيب آيات الله، وقتل الرسل بغير حق، قال الله -عز وجل-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا . وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا . وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء:155-157).

وكذلك حدث ما استحقوا عليه اللعن مِن ترك التناكر عن المنكر، قال الله -عز وجل-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (المائدة:78-81).

وكذلك آل حالهم إلى الإيمان بالجبت والطاغوت؛ وهما ما يُعبد من دون الله، ومنهم مَن يحكم بغير ما أنزل الله، ومنهم الساحر والكاهن، قال الله -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) (النساء:51-52).

روى ابن جرير أن كعب بن الأشرف ذهب إلى قريش ليُحَزِّبهم على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقالوا: "إنك من أهل الكتاب وهو عنده كتاب، ولا نأمن أن يكون ذلك مكرًا منكم؛ فلن نؤمن لك ونطيعك حتى تسجد لهذين الصنمين؛ فسجد لهما، ثم قالوا له: ننشدك الله، أنحن أهدى أم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فنحن نطعم الكَوْمَاء، ونسقي اللبن على الماء، ونحن أهل السقاية والسدامة، ونحن أهل حرم الله، قال: بل نحن وأنتم خير من محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-!".

 فكان هذا الحال الذي وصل إليه أهل الكتاب سببه قسوة قلوبهم، ومِن أهل الإسلام مَن يفعل مثل فعلهم، ويصير إلى مثل حالهم؛ فيترك التناهي عن المنكر، بل ربما ينصر الكفار على أهل الإسلام، ليس فقط في الحرب والقتال، بل في الأفكار التي يريدون بها هدم الدين.

 فعندما يتحدث بعض كبرائهم في عتوٍ وعنادٍ أن الإسلام بأصوله يعيش أزمة في كل بقاع العالم؛ لأنه يريد التحوصل عن الآخرين، ويريد الانعزال عنهم، وأنه لا يعطي المرأة حقوقها، ولا يقبل الآخر؛ كل هذه الضلالات يدافع عنها البعض، ويرونها مُهاجَمَة لما يصح أن يُهَاجَم من إسلام السلف -رضوان الله عليهم-!

وهذا -والله- مِن أعظم ما يراه المرء في زماننا؛ أن يكون مَن يطعن في الدين بأصوله؛ وليس يطعن في التطرف ويطعن في الإرهابيين، وإنما يطعن في الإسلام بأصوله في كل مكان، ويدعي أنه يريد أن يترك المسلمون هذا التمسُّك بهذه الأصول في بلادهم، وأنهم يسعون إلى ذلك، ثم يرجِّح مَن ينتسب إلى الإسلام ذلك! نعوذ بالله من الخذلان.  

فهذا حال أهل الكتاب تمامًا الذين يقولون عن الذين كفروا: (هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا).

وعلاج ذلك: بالقرب من الوحي، وكثرة الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ونبذ التأويل الكلامي، بل نبذ علم الكلام كله في باب العقائد، ونبذ التقليد الأعمى في باب العبادات والأعمال، ونبذ التصوف الفلسفي والخرافي، واستعمال ما ثبت في الكتاب والسنة في إصلاح القلوب دون ألغاز الأحوال والمقامات، فما وافق منها الكتاب والسُّنة ودلَّت عليها أدلتهما قُبِل، وما خالف خالفناه.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة