الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

المال بين النعمة والفتنة (2)

أباح الشرع الأخذ بالأسباب المباحة، وأن يعمل الإنسان ويجد لكفايته وكفاية أولاده وزوجته

المال بين النعمة والفتنة (2)
حسن حسونة
الاثنين ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠ - ١٧:٣٨ م
521

المال بين النعمة والفتنة (2)

كتبه/ حسن حسونة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد حذَّر الله -تعالى- من فتنة المال فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال:28)، وقال في موضع آخر: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ . فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن:14-16).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- إنما الأموال والأولاد فتنة، أي: اختبار وابتلاء من الله -تعالى- لخلقه؛ ليعلم مَن يطيعه ممَن يعصيه، والله عنده يوم القيامة أجر عظيم، وساق بسنده إلى أبي بريدة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ).

ثم بيَّن الله العلاج الشافي لهذه الفتنة فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ). (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي: كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ) أي: ابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء وذوي الحاجات، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، وإن لم تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي: مَن سلم مِن الشح فقد أفلح وأنجح فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)" (بتصرف واختصار من تفسير ابن كثير).

هذه الآيات ذكرت الفتنة وبيَّنت العلاج لها مع الاعتبار بآيات الإنفاق والخلف من الله، كما قال -تعالى-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ:39)، (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261).

والسؤال الآن: ما صور الفتنة في المال؟

الصورة الأولى: فتنة الجمع؛ أباح الشرع الأخذ بالأسباب المباحة، وأن يعمل الإنسان ويجد لكفايته وكفاية أولاده وزوجته، وحذَّر الشرع من الوقوع في الحرام، وحث على اتقاء الشبهات، فإذا ما كان هذا حال المسلم فلا ملامة عليه؛ إنما الملامة على البعض الذين لا يبالون في جمع المال أمن حرام أم لا؟ المهم يحصل على ثروة مثل فلان أو علان، فلا يبالي أمن ربا أكل أو أطعم أولاده حرامًا، والله يحذر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (البقرة:278-279)، ففي أكل الربا محاربة لله ولرسوله ومحق للبركة (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة:276)، وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر "الربا" ضمن السبع الموبقات -يعني المهلكات-؛ فليتب إلى الله مسلم اعتقد أن البيع مثل الربا فلم يبالِ به!

والبعض يتجه للرشوة ويسميها بغير اسمها: محسوبية أو هدية أو عمولة، ومحصلة ذلك رشوة؛ وإلا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل رجلًا اسمه ابن اللتبية ليأتي بصدقات قوم فأتى وقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي"، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟) (متفق عليه).

وقد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي، والبعض لا يبالي في الجمع مِن الحرام بأكل أموال الناس بالباطل أو أكل أموال اليتامي أو اكل ميراث إخوته؛ فأيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به، وحديث المفلس شاهد على هذا الذي أتى بحسناتٍ، لكنه أكل مال هذا، ووقع في هذا، والنهاية يأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت الحسنات طرح عليه من سياىتهم ثم طرح في النار -عياذا بالله-.

وهذه الصورة من الفتنة -وأقصد بها الجمع- لها طرق متعددة، وفي النهاية أنه يجمع المال من حرام، ويترك ذلك المال ويموت، ويدخل قبره ويحاسَب عليه ويعذب به، وورثته يتمتعون بهذا المال الحرام -نسأل الله السلامة والعافية-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة