الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

دروس من قصة أصحاب الغار (4) (موعظة الأسبوع)

فضل أداء الحقوق لأهلها

دروس من قصة أصحاب الغار (4) (موعظة الأسبوع)
سعيد محمود
الثلاثاء ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٠ - ١٧:٤٧ م
601

دروس من قصة أصحاب الغار (4) (موعظة الأسبوع(

فضل أداء الحقوق لأهلها

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- ذِكر الشاهد من القصة بعد الإشارة إلى ملخص ما سبق: قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ) (متفق عليه).

وفى رواية: (وَقَالَ الْآخَرُ: اللهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي، قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا، فَخُذْهَا فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ، فَفَرَجَ اللهُ مَا بَقِيَ) (متفق عليه). وفي رواية الطبراني عن أنس -رضي الله عنه-: (فَقَالَ أَحَدُهُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ عَمِلْتُ عَمَلَ اثْنَيْنِ وَاللَّهِ لَا آخُذُ إِلَّا دِرْهَمًا فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ).

- أين هذا النموذج الراقي ممَن يأكلون أموال الناس، ولا يتحرجون من ظلم العمال والخدم والضعفاء؟!

(1) فضل الصدق والأمانة وأداء الحقوق:

- الأمانة وحسن القضاء من هدي الأنبياء: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان لرجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- سِنٌّ مِنَ الإبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقالَ: (أَعْطُوهُ)، فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا له إلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقالَ: (أَعْطُوهُ)، فَقالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ بكَ، فقالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) (رواه البخارى).

- أداء الحقوق والوفاء بالعهود، هي أخلاق المؤمنين الصالحين: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء:58).

- الإشارة إلى كلام العلماء في تصرف المستأجر، وترجيح أنه صارت الأجرة في ذمة المستأجر دينًا للأجير، وأن ما أعطاه للأجير كله كان تبرعًا وهو مِن حُسن خُلُقه؛ ولذلك كان مِن أجلِّ الأعمال التي توسَّل بها إلى الله -عز وجل- لتفريج كربهم.

(2) الحكمة من تفاوت الناس فى درجاتهم فى الدنيا:

- خلق الله الناس على تفاوت بينهم في المواهب والقدرات؛ ليعمر الكون بحاجة بعضهم إلى بعض(1): قال -تعالى-: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ) (الأنعام:165)، وقال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف:32)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

- ارتفع الإسلام بدرجة العامل والفقير إلى درجة الأخوة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ) (متفق عليه)، وعن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: (اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ)، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ)، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: (اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ)، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا. (رواه مسلم)، وفي رواية لمسلم: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: (أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ) أَوْ (لَمَسَّتْكَ النَّارُ).

(3) تحريم ظلم العمَّال والأُجَرَاء:

- ألزم الإسلامُ المستأجرَ بالوفاء بأجرة الأجير مع فراغه من العمل، ما لم يتفقا على غيره: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُه) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

- وحذَّر الاغنياء وأصحاب الأعمال من ظلم الأجير وإلا كانت الخصومة مع الله -عز وجل-: قال -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) (متفق عليه)، وفي رواية: (اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ-: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) (رواه الترمذي والطبراني، وصحح الألباني)(2).

- فالعاقل يستدرك حاله قبل يوم اجتماع الخصوم عند الله -تعالى-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) (رواه البخارى).

خاتمة للقصة: مفاضلة بين الثلاثة:

- اختلف العلماء في ذلك، ولكل منهم وجه في التفضيل، وأقرب ذلك: أن أفضلهم صاحب المرأة، وهو ما رجحه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بما ملخصه: "أن صاحب الأبوين فضيلته مقصورة على نفسه، وصاحب الأجير فضيلته متعدية إلى غيره، وأما صاحب المرأة فقد جمع بين النفع القاصر والمتعدي وهو الخوف العظيم من الله فى موطن مذلة، والتصدق بالذهب الذي تعب في جمعه لابنة عمه، فكان صدقة وصلة في وقت محنةٍ شديدةٍ". والله أعلم.

- عود على بدء: الإشارة إلى الغرض من ذكر القصة، وهو: الوقوف على الدروس والعِبَر الكثيرة، والتي من أعظمها وأهمها: بيان سبيل الخلاص عندما تحيط بالإنسان الأزمات والمحن، وينقطع حبل الرجاء في الخلق، ففي هذه الأحوال، هناك باب لا ينقطع منه الرجاء؛ فالله -سبحانه وتعالى- حاضر لا يغيب، قادر لا يعجزه شيء، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. وهو ظاهر مِن حال أصحاب الغار الثلاثة -رحمهم الله-.

نسأل الله -تعالى- أن يفرِّج كرب كل مكروب.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فلا بد أن يكون في الناس: الغني والفقير، والعالم والجاهل، والقوي والضعيف، والقوي ببدنه والقوي بعقله، فسبحان مَن له الحكمه في هذا التفاوت. وعلى سبيل المثال: الغني المترف إذا انسدت في بيته مسالك الصرف الصحي فسيكون فى حاجة شديدة للفقير العامل في ذلك. والجاهل محتاج إلى العالم، والعالم محتاج إلى الجاهل ليظهر علمه، والضعيف محتاج إلى القوي، والقوي محتاج إلى الضعيف، وغير ذلك.

(2) وإلا فكم من أغنياء وتجار وأصحاب أعمال، لحق بهم الفَلَس والخراب، فلا تستبعد أن يكون هذا من جَرَّاء دعوة عامل مظلوم قد بخسه حقه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة