الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (73) سلبيات أبرزتها أزمة كورونا (1)

ازدياد تدهور العدالة الاجتماعية (1-3)

الفساد (73) سلبيات أبرزتها أزمة كورونا (1)
علاء بكر
الخميس ٠٥ نوفمبر ٢٠٢٠ - ٢٣:٣٠ م
312

الفساد (73) سلبيات أبرزتها أزمة كورونا (1)

ازدياد تدهور العدالة الاجتماعية (1-3)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فالفقر هو حرمان مستمر ودائم، يفقد معه الفقير القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية له ولأسرته مِن غذاءٍ، وسكنٍ، وكساءٍ، وتعليمٍ، ورعاية صحية وعلاج، وهو حرمان يفقد المرء معه الإحساس بالأمان وتضعف قدرته على اتخاذ القرارات بما فيها القرارات الخاصة به وبأسرته، وهو حرمان يهدد بعدم القدرة على مواجهة الصدمات التي قد يتعرض المرء وأسرته لها.

والفقر مشكلة عالمية تعاني منها دول كثيرة: فهناك أكثر من 70 دولة -نحو ثلث دول العالم- تؤرقها ارتفاع نسبة الفقر الشديد (الفقر المدقع) فيها -والذي لا يجد فيه الفقير احتياجاته الأساسية من الطعام- والذي بلغ أكثر من ثلثي مليار فقير يمثلون نحو 10 % من سكان الأرض، بينما يمتد سقف الفقر المطلق -الذي لا يتوفر للفقير معه احتياجاته من الملبس والتعليم والعلاج ليشمل نحو 1.3 مليار فقير!

ولا يقتصر وجود الفقر على دول العالم الثالث فقط، بل هناك فقراء في العديد من الدول المتقدمة؛ فلا تخلو أمريكا والدول الأوروبية من الفقراء؛ هذا في الوقت الذي تمتلك فيه قلة مِن البشر الثروات الطائلة، (فقد زادت ثروات أغنى 500 من أكبر أغنياء العالم في عام 2019 م فقط بنحو 1.2 تريليون دولار لتصل جملة ثرواتهم إلى 5.9 تريليون دولار، وهذه الزيادة في عام 2019 م تكفي لتوفير دخل لمدة عام، لضعف عدد الفقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر المدقع في كل أنحاء العالم، يعينهم على توفير احتياجاتهم الأساسية والضرورية من الغذاء لإنقاذهم مِن الجوع الذي يحصد أرواحَ أعدادٍ متزايدة منهم) (انظر:"الفقراء وعاصفة كورونا" عبد القادر شعيب.ط.كتاب الهلال - يونيو 2020م، ص 15 بتصرفٍ).

لقد (صار الآن نحو 1% الأكثر ثراء في العالم لديهم من الثروة أكثر من ضعف ما يمتلكه وبحوزة جميع البشر الآخرين مجتمعين) (المصدر السابق، ص 43)، وهذه صورة فظيعة من تدهور العدالة الاجتماعية في العالم.

(وبسبب ضخامة ظاهرة الفقر في العالم لا يزال -طبقًا لتقديرات دولية- يوجد طفل من كل ثلاثة أطفال في العالم يعاني سوء التغذية)، (ويوجد نحو 13 مليون طفل يموتون سنويًّا قبل إتمام اليوم الخامس لهم في الدنيا والحياة؛ وذلك بسبب نقص، بل سوء الرعاية الناجمة عن الفاقة التي تعيش فيها أسرهم، ولا يزال هناك مليار ونصف المليار شخص محرومون من مياه الشرب النقية والنظيفة) (المصدر السابق، ص29 بتصرفٍ).

صناعة الفقر:

ولا تظن أن هذه الأعداد الهائلة من الفقراء والمعدمين أفقروا أنفسهم بأنفسهم، ولكن فقرهم على العموم صُنع ساسة ونتاج سياسات، فالفقر من صنع بشر بسياساتهم وقراراتهم ومواقفهم وانحيازاتهم غير العادلة.

فالفقر (ثمار صناعة مخططة وممنهجة، تورطت فيها دول وحكومات على مدار التاريخ، فأكثرالمناطق والدول في العالم التي تعاني الفقر وترتفع فيها نسبة الفقراء بين سكانها هي الدول التي تعرضت للاستعمار والاحتلال، واستنزاف ثرواتها وخيراتها مِن قِبَل الدول التي احتلتها، واستمرت تتعرض لاستنزاف ثرواتها بعد أن نالت استقلالها السياسي، فيما تم التعارف عليه بالاستعمار الجديد، أي: في ظل هيمنة اقتصادية لبعض الدول الكبرى اعتمدت على إبقاء هذه الدول الضعيفة اقتصاديًّا، وغير قادرة على الوفاء بالاحتياجات الأساسية لشعوبها، وحرصت على استمرار شروط غير منصفة للتجارة العالمية، وفَّرت الحماية السياسية للشركات متعددة الجنسيات التي تهيمن على حركة الاستثمار العالمي) (المصدر السابق، ص31).

فصناعة الفقر (عملًا مؤسسيًّا وممنهجًا تقوم به بعض الدول التي اعتمدت في بناء قوتها واقتصادياتها على سرقة ثروات وخيرات غيرها من الدول والشعوب، ولذلك انقسم العالم ما بين دول متقدمة وأخرى ضعيفة تعاني الفقر، ولا تستطيع توفير الاحتياجات الأساسية لشعوبها) (المصدر السابق، ص31-32).

والفقر أيضًا شاركت -وتشارك- في المسئولية عنه حكومات فاشلة أو فاسدة، حكومات غير جادة أو غير قادرة على مواجهة انتشار الفقر في بلادها، ورضيت أن تكون أداة في أيدي الدول الكبرى توجهها حسب مصالحها ومطامعها.

إن مشكلة الفقر مشكلة مزدوجة، فهي مشكلة عالمية من جهة، ومشكلة محلية من جهة أخرى، وعلاجها أيضًا يكون مزدوجًا، سواء في تواجد إرادة مكافحة الفقر والقضاء عليه أو في جدية وشمولية التنفيذ، ولا يغرنك ما تظهره بعض الدول الغنية والمنظمات العالمية من دعاوي محاربة الفقر وحماية الفقراء أو ما تقدمه من منح ومساعدات من وقت لآخر؛ فهذا كله لا يكفي ولا يشفي في علاج مشكلة الفقر بحدتها وشدتها وشموليتها، خاصة مع توفر أسباب صناعة الفقر، ومع استمرار الخضوع لطمع وجشع الأثرياء المتحكمين في الاقتصاد العالمي.

إن أسباب الفقر وازدياد الفقراء عامًا بعد عام متعددة، منها:

أسباب اقتصادية: مثل سوء الأوضاع الاقتصادية بشكل عام، وتراجع وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي وندرة -أو قلة- فرص العمل المتوفرة في الدولة.

وأسباب اجتماعية: مثل شيوع الظلم الاجتماعي والتفاوت الاجتماعي الشديد، وضعف آليات التكافل الاجتماعي، وعدم قيام الأثرياء -خاصة رجال الأعمال- بمسئولياتهم الاجتماعية، وكذلك سوء توزيع الدخل القومي، واحتكار قلة من السكان النسبة الأكبر من هذا الدخل.

وأسباب سياسية: أهمها الاستعمار الذي استنزف موارد دول عديدة، وهو ما استمر بأشكال جديدة بعد حصول هذه الدول على استقلالها السياسي، من خلال الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، ونظام تجارة عالمي منحاز لصالح الدول الغنية ضد الدول النامية.

وأيضًا: مثل الحروب التي بددت موارد العديد من الدول وعطلت تحقيقها تنمية اقتصادية ضرورية وجعلتها تنفق نسبة أكبر من مواردها على الأغراض العسكرية، وذات الشيء ينطبق على الإرهاب الذي يستنزف في مواجهته موارد ليست قليلة، وأيضًا محاولات تقويض كيانات الدول الوطنية التي انخرطت فيها أمريكا ودول أوروبية كما نشاهده الآن في العديد من الدول العربية، مثل: العراق، وسوريا، وليبيا.

وهكذا إذا كان جوهر الفقر هو الحرمان والعوز، فإن جوهر أسبابه هو الظلم وافتقار العدل داخل الدولة الواحدة، أو في العالم كله بين الدول، ولعل هذا ما اتفق عليه أغلب علماء الاقتصاد والاجتماع أيضًا) (المصدر السابق، ص24 - 25).

أنواع الفقر:

يوجد نوعان من الفقر:

النوع الأول:هو الفقر المدقع (الفقر الشديد) الذي يعجز فيه الإنسان عن توفير الحد الأدنى من الغذاء، ويفتقد معه المستوى الآدمي من الحياة، وقد حدد البنك الدولي الدخل الذي يحتاجه الشخص (الفرد) الواحد سنويًّا؛ حتى لا يقع في أسر الفقر المدقع بنحو 600 دولار سنويًّا أي نحو 1.9 دولار يوميًّا.

النوع الثاني: هو الفقر المطلق -أو متعدد الأبعاد- الذي لا يتوفر فيه للإنسان الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، فلا يتوفر له مسكن ملائم أو علاج ضروري إذا مرض أو تعليم لأولاده أو مياه شرب نقية أو صرف صحي وكهرباء، وقد حدد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مَن يعاني الفقر المطلق بمَن يقل دخله يوميًّا عن 2و3 دولار.

وهناك فقر الرفاهية يطلقه بعض الاقتصاديين على شرائح اجتماعية في المجتمعات الغربية التي لا يتوفر لها الاستفادة من المنجزات الحضارية الحديثة والمتطورة، وإن كانت تحظى بدخل يوفر لها الحد الأدنى أو المناسب من الغذاء، والمسكن الملائم المزود بخدمات المياه النقية، والصرف الصحي والكهرباء، وعندها القدرة على تعليم أولادهم، والقدرة على العلاج عند المرض، وغيرها من الخدمات (انظر المصدر السابق، ص25 - 26).

وهناك لدى بعض الباحثين (فقر الدخل) ويريدون به الحرمان من الاحتياجات الضرورية للإنسان لشح الدخل، ويزداد هذا النوع من أنواع الفقر كلما زادت أسعار السلع الغذائية؛ بسبب الاحتكار، وهوامش الربح المرتفعة.

فشل المجتمع الدولي في مواجهة الفقر:

(رغم المساعدات التي قدمت للدول الأكثر فقرًا وعددها 42 دولة، وإسقاط قدر من ديونها؛ فإن ديون هذه الدول اتجهت للزيادة بدلًا من الانخفاض، حتى وصلت ديون إفريقيا جنوب الصحراء إلى 416 مليار دولار عام 2015م.

وكان سبب ذلك: أنها تلقت 162 مليار قروضًا ومساعدات وتحويلات، وفي المقابل خرجت منها -أو بالأصح نهبت منها- أكثر من 200 مليار دولار، تمثلت في خدمة وأعباء الديون وتحويلات أرباح الشركات متعددة الجنسيات، وأيضًا تكاليف التكيف مع تغيرات المناخ)، (وضاعت أو تبددت ما تلقته هذه الدول من مساعدات أو ما تم إسقاطه وإلغاؤه من ديونها الخارجية، وهكذا كان من الطبيعي أن يتمخض عن هذا زيادة الفقر في دول إفريقيا جنوب الصحراء، وهي الدول الأشد فقرًا في العالم، وبالتالي: حدوث تأخير أو تعطيل في مكافحة الفقر عالميًّا، وصعوبة الوفاء بتحقيق الهدف العالمي الذي تم التوافق عليه دوليًّا، وهو التخلص من كل الفقر المدقع في العالم بعد عشر سنوات من الآن -أي: عام 2030م-) (المصدر السابق، ص39 - 40).

(بل إن هناك مَن يرى أن هذا التأخير أو التعطيل في مكافحة الفقر كان متعمدًا وممنهجًا؛ وذلك لأسبابٍ عدةٍ، أهمها:

أولًا: تقاعس الدول الغنية والمتقدمة عن تقديم العون والمساعدة للدول الفقيرة، وعدم الوفاء بالتزاماتها التي سبق أن تعهدت بها، والتي تقضي بتقديم 7و0 % من حجم ناتجها القومي مساعدات للدول الفقيرة.

وثانيًا:عدم وفاء الدول الغنية والمتقدمة بتعهداتها بإسقاط ديون الدول المثقلة بالديون والتي يبلغ عددها 42 دولة.

وثالثًا: فرض شروط للتجارة العالمية في إطار العولمة مجحفة بحق الدول الفقيرة ومنحازة للدول المتقدمة والغنية أدَّت دومًا إلى انخفاض أسعار المواد الأولية التي تعتمد الدول الفقيرة عليها في جميع مواردها، وفي المقابل: استنزاف الشركات متعددة الجنسيات موارد الدول الفقيرة مقابل استثماراتها فيها.

ورابعًا: تخلي صاحبة ومخططة العولمة -وهي أمريكا- عنها واستبدالها بما يمكن تسميته بالترامبية، وهي السياسة التي نبذت حرية التجارة الدولية واستبدلتها بسياسة العقوبات الاقتصادية، وفرض رسوم جمركية مغال فيها على منتجات الغير، سواء من الخصوم أو الحلفاء، في ظل الشعار الذي رفعه، وتبنى تنفيذه الرئيس الأمريكي ترامب وهو: (أمريكا أولًا).

وخامسًا: الصدمات والأزمات الاقتصادية العالمية، وآخرها أزمة الركود التي أصابت الاقتصاد العالمي الناجم عن جائحة كورونا التي هاجمت عالمنا، ولا يختلف أحدٌ من الخبراء الاقتصاديين أنها ستكون شديدة الوطأة على اقتصاديات كل دول العالم.

ولعلنا نتذكر: أن أزمة 2008م التي عانى منها الاقتصاد العالمي أدت إلى تخفيض معدل النمو الاقتصادي لمصر وقتها من 5و7 % إلى 4و5 % لنحو ثلاثة أعوام متتالية، وهذه الأزمة الاقتصادية العالمية تعد في تقدير هؤلاء الخبراء الاقتصاديين أشد بكثير من أزمة 2008 م؛ لأنها ناجمة عن إغلاق اقتصادي اضطرت له دول العالم.

وسادسًا: كان هناك أيضًا تكتيك إغراق الدول الناجية من الدول النامية بالديون الخارجية لخلق ظروف تؤدي إلى خضوعها لهيمنة التنمية الأمريكية التي تدير الشركات الضخمة والبنوك الكبيرة، الذين وصفهم واحد منهم هو (جون بيركنز) بأنهم قراصنة اقتصاديون في كتاب صادم حافل بالمعلومات تمت ترجمته إلى العربية بعنوان: (اعترافات قرصان اقتصادي)، ومهمة هؤلاء القراصنة إعداد دراسات خاطئة وغير سليمة يتم على أساسها قيام المنظمات المالية بتقديم قروض للدول النامية لتمويل مشروعات للبنية الأساسية ومحطات الكهرباء، وطرق وموانئ ومطارات بشرط قيام المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الأمريكية بتنفيذها، وبذلك لا تغادر الأموال بهذه الطريقة الولايات المتحدة، وإنما تتحول مثلًا من حسابات بنوك واشنطن إلى حسابات شركات في نيويورك أوسان فرانسيسكو أو هيوستن.

وتبقى الدولة المتلقية للقروض ملتزمة بسداد أصل القروض ومعها الفوائد أيضًا، وهكذا لم يقتصر الأمر على أن الدول الغنية والمتقدمة لم تفِ بالتزاماتها وتعهداتها بالمساهمة في تخفيض أعداد الفقراء في العالم من خلال مساعدة الدول الفقيرة، إنما قامت بالنقيض تمامًا، وهو استنزاف موارد هذه الدول بوسائل وآليات عديدة ومتنوعة، وبالتالي: أسهمت في زيادة أعداد الفقراء بدلًا من تخفيضها) (المصدر السابق، ص40 - 42).

تداعيات أزمة كورونا:

في وقتٍ يشهد فيه العالم أوضاع مرتبكة وأزمة اقتصادية نتيجة ممارسات حرب تجارية بين أمريكا والصين، جاءت جائحة كورونا ليجد العالم نفسه مضطرًا لاتخاذ إجراءاتٍ اقتصاديةٍ مكلفة؛ لاحتواء ومواجهة وباء كورونا، (فقد أصاب وباء كورونا الاقتصاد العالمي إصابات فادحة أوقعته في ركود عميق نتيجة إجراءات الانعزال والعزل التي فرضتها كل الدول التي هاجمها ذلك الفيروس، وهددها الوباء، فقد تضررت بشدة حركة التجارة العالمية، وتوقف منشآت صناعية عن العمل، وانهارت أسعار النفط العالمية، وتوقف أيضًا العمل في المزارع، في ظل إجراءات الغلق الاقتصادي، وتوقفت حركة النقل والسياحة عالميًّا، وهو ما أدَّى إلى شلل عام أصاب الاقتصاد العالمي سيجعل نحو 170 دولة تحقق نموًّا اقتصاديًّا سالبًا هذا العام) (المصدر السابق، ص 187-188).

إن الآثار والنتائج التي تمخضت عنه وستتوالى بسبب هذا الفيروس "وتحديدًا بسبب الطريقة والمنهج الذي تصدت به دول العالم له"، ستكون وطأتها أكبر وأشد على الفقراء، وأيضًا: على مَن يعيشون فوق خط الفقر، ومهددون بالسقوط تحته، فهذه الطريقة التي عرفت بالتباعد الاجتماعي أو الشخصي اعتمدت أساسًا على إلزام الناس في البلاد التي هاجمها هذا الفيروس المستجد على البقاء في منازلهم، وإغلاق العديد من المنشآت الاقتصادية وغلق الحدود، وحظر السفر ورحلات الطيران، ووقف العديد من الأنشطة الاقتصادية، وقد أصاب ذلك الاقتصاد العالمي في مقتل حينما بدأت حركة التجارة في العالم في التراجع وفي الانكماش.

و(كلما استغرقت هذه الجائحة وقتًا أطول كانت آثارها وتداعياتها الاقتصادية عالميًّا أفدح وأكبر بالطبع، والعكس صحيح)، وحتى الآن ونحن في خضم الجائحة لا يملك أحد أن يتنبأ بموعد انقشاعها والخروج من هذا الكابوس العالمي، خاصة وأن هجوم هذا الفيروس ما زال مستمرًا، وكل التقديرات المتفائلة لا تتوقع التوصل إلى لقاح وإنتاجه واستخدامه قبل نهاية الخريف المقبل، بينما غير المتفائلين لا ينتظرون هذا اللقاح قبل نهاية هذا العام أو منتصف العام المقبل، وتوفيره لكل العالم سيحتاج وقتًا إضافيًّا.

ولعل ذلك كان سبب اتجاه كثير من الدول إلى انتهاج سياسة التعايش مع الفيروس؛ ولذلك لا يقدر أحدٌ أن يرصد بدقة آثار هذه الجائحة على الاقتصاد العالمي ويحصي خسائره فيها، لكن الذي لا خلاف عليه أن هناك تبعات وآثارًا سلبية بدأت بالفعل يحصدها الاقتصاد العالمي من جراء تلك الجائحة التي انتشرت في أكثر من مائتي دولة بعد إجراءات العزل، وغلق الحدود، والتوقف الإجباري لأنشطة اقتصادية وتجارية وسياحية حاليًا، وتشير التقديرات الأولية لصندوق النقد الدولي الذي أعلن بعد تفشي الجائحة أن الاقتصاد العالمي أصيب بحالة ركود عميقة، وأن خسائر الاقتصاد العالمي هذا العام بسبب أزمة كورونا سوف تبلغ تسعة تريليونات دولار، وأن أكثر من 170 دولة سيكون نموها الاقتصادي بالسالب هذا العام (2020 م) الذي سيكون صعبًا لجميع دول العالم؛ كبيرها وصغيرها، بما فيها الدول التي كانت تحقق معدلًا كبيرًا نسبيًّا للنمو، وفي مقدمتها: الصين التي يتوقع انخفاض معدل النمو الاقتصادي فيها إلى النصف (3و3 %)، وهو أمر غير مسبوق منذ سنواتٍ طويلةٍ ظلت فيها الصين تحقق معدلًا مرتفعًا للنمو.

أما الاقتصاديات الناشئة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا: فإن اقتصادياتها معرضة لمخاطر جمة نتيجة نزوح الاستثمارات الأجنبية منها؛ ولذلك من المتوقع أن يكون متوسط معدل النمو فيها 1 % فقط؛ ولذلك أعلن صندوق النقد الدولي أنه مستعد لتقديم نحو تريليون دولار للدول لتحريك عجلة الاقتصاد العالمي وانتشاله من هذا الركود العميق، وإن كان بعض الخبراء يرون أن العالم يحتاج لنحو ثمانية أمثال هذا الرقم في الأسواق لإعادة الحياة للاقتصاد العالمي.

وقد أعلنت مجموعة العشرين بالفعل عن عزمها تدبير سبعة تريليونات دولار، التزمت أمريكا وحدها بإنفاق وضخ ثلاثة تريليونات منها. ويرى خبراء اقتصاديون عديدون ينتمون إلى جنسيات مختلفة أن هذا الركود العميق الذي أصاب الاقتصاد العالمي لم يحدث من قبل تسعة عقود مضت، أي: منذ أزمة الكساد العظيم في الثلاثينيات من القرن الماضي، وبالتالي تتجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة في حدتها أزمة عام 2008م التي احتاج العالم بضع سنوات لكي يتخلص من آثارها، ويعود إلى النمو الاقتصادي بمعدل إيجابي مناسب.

وحتى الآن تقدمت نحو 80 دولة بطلبات للحصول على قروض ومساعدات من صندوق النقد الدولي لتوفير احتياجات أساسية في مواجهة فيروس كورونا، وهذه الأزمة الجديدة سيكون لها تداعياتها الخطيرة جدًّا على حالة الفقر في العالم، فستزيد من أعداد الفقراء في العالم، فحتى نهاية شهر إبريل -أي: بعد أربعة أشهر من الإعلان عن ظهور الفيروس- وطبقًا للتقديرات الدولية؛ فقد تسببت هذه الأزمة في فقد أكثر من 25 مليون شخص في العالم وظائفهم، وهذا العدد مرشح للزيادة؛ خاصة إذا طال هذا الوباء، وهؤلاء مع أسرهم فقدوا دخولًا كانت تتيح لهم تلبية احتياجاتهم الأساسية، وبالتالي: صاروا مهددين بالسقوط تحت خط الفقر والانضمام إلى صفوف الفقراء.

وقد توقعت منظمة (أوكسفام) الخيرية الدولية أن يحدث انكماش في الدخل المتاح لسكان العالم بنسبة 20 %، وتأسيسًا على ذلك توقعت أن تتضاعف أعداد مَن يعانون الفقر المدقع في العالم، وأن يزيد مَن يعيشون بأقل من 5.5 دولار يوميًّا في العالم بمقدار 548 مليون شخص، ليصل عدد هؤلاء أربعة مليارات من سكان العالم، أي: أكثر من نصفه.

وبالطبع سيكون لنا نصيب مثل غيرنا من الدول في هذه التداعيات، والأضرار الناجمة عن أزمة الركود العميقة التي أصابت الاقتصاد العالمي، وستطالنا الآثار السلبية اقتصادنا في مصر، وسوف تطالنا هذه الأزمة مرتين: مرة نتيجة تأثرنا بما يحدث للاقتصاد العالمي، ومرة أخرى: نتيجة الاجراءات التي اضطررنا لاتخاذها، وكان لها تأثيرها السلبي رغمًا عنا على النشاط الاقتصادي في بلادنا وحركة اقتصادنا.

فإن وقف حركة السياحة والطيران مع العالم الخارجي رتب بالطبع خسارة كبيرة لقطاع الطيران المصري، وذات الشيء سيلحق بقطاع السياحة التي أغلقنا كل أبوابها مضطرين أمام السائحين الأجانب، وذلك بمشاركة بلادهم التي أوقفت بدورها حركة الطيران والسفر، وهي تواجه فيروس كورونا.

ويضاف إلى ذلك أيضًا: أن تخفيض ساعات العمل سيكون له تأثيره السلبي على حجم ما ننتجه من سلع سيترجم انخفاضا في حجم الناتج القومي، وانخفاض معدل النمو الاقتصادي الذي كنا نصبو إلى زيادته العام المالي المقبل (2020 م -2021م) إلى 6 %.

أما بالنسية لتأثير ما ألم بالاقتصاد العالمي فإنه سوف يكون مباشرًا وواسعًا أيضًا؛ لأنه سيطالنا من عدة اتجاهات، فمن ناحية أن ما تشهده السوق العالمية للنفط سوف يؤثر على المصريين العاملين بالخارج في ظل ما سوف تتخذه البلدان الخليجية المنتجة للبترول، التي يعملون فيها من إجراءات للتخفف من بعض الأعباء المالية والاقتصادية، وذلك إذا ما حدث سيكون من نتيجته تخفيض تحويلات المصريين العاملين بالخارج، التي تعد المصدر الأول لمواردنا من النقد الأجنبي الآن، ومن جهة أخرى فإن إصابة الاقتصاد العالمي بالركود العميق سوف يؤدي إلى تغير في حركة وخريطة الاستثمار العالمي، وسيكون نصيبنا من ذلك التغير تراجعًا في حجم الاستثمارات الأجنبية التي كنا نتطلع إلى زيادتها بعد أن تعرضت لانخفاض طفيف العام الماضي2019 م (حوالي ربع مليار دولار)؛ خاصة وأن الانخفاض العالمي في أسعار النفط يرافقه أيضًا انخفاض في استثمارات شركات النفط الكبيرة في العالم، والتي تعد استثماراتها المباشرة النسبة الأكبر في الاستثمارات الأجنبية لدينا، وبذلك سينخفض مصدر آخر للنقد الأجنبي لنا.

كما أن الانكماش بالأسواق العالمية وحركة التجارة سيلقي بظلاله السلبية على إيرادات قناة السويس، التي تعد مع السياحة وتحويلات العاملين بالخارج أهم مصادر مواردنا من النقد الأجنبي، وكذلك ستلقي هذه الأزمة بظلالها السلبية أيضًا على حركة السياحة الأجنبية في مصر حتى ولو تم استعادة حركة السفر والطيران، فإن استعادة حركة السياحة الأجنبية سوف يحتاج وقتًا، وفي ظل الإجراءات الاحترازية التي تقضي بعزل المسافرين القادمين من خارج الدولة بعض الوقت في حجر صحي، فضلًا عن أن ركود الاقتصاد العالمي سوف يُترجم إلى انخفاض في دخول مواطنين بالعديد من الدول، وبالتالي: سيقل إنفاقهم على الرحلات السياحية حتى بعد انتهاء وإلغاء الإجراءات الاحترازية مع المسافرين، وسوف يترك ذلك تأثيره السلبي على حركة السياحة العالمية، ولن يمكننا ذلك بالطبع حتى مِن تحقيق رقم السائحين الأجانب الذي سجلناه في العام الماضي، والذي تجاوز 5و12 مليون سائح، وهو رقم كاد أن يقترب من أعلى رقم حققناه للسياحة الأجنبية عام 2010م، وكان يبلغ 14 مليون سائح) (المصدر السابق، ص147 - 150).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة