الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (59) أحاديث في ذمِّ القَسْوة والعنف، والغلظة والغضب، ومدح الرفق واللين (5)

وسئل ذو النون: ما أساس قسوة القلب في المريد؟ فقال: بحثه عن علوم رضي نفسه بتعليمها دون استعمالها والوصول إلى حقائقها

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (59) أحاديث في ذمِّ القَسْوة والعنف، والغلظة والغضب، ومدح الرفق واللين (5)
الخميس ٣١ ديسمبر ٢٠٢٠ - ٠٩:٤٦ ص
493

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (59) أحاديث في ذمِّ القَسْوة والعنف، والغلظة والغضب، ومدح الرفق واللين (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد روى الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، في كتاب الحِلْم وأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ يُحَدِّثُنَا، فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ، فَحَدَّثَنَا يَوْمًا فَقُمْنَا حِينَ قَامَ، فَنَظَرْنَا إِلَى أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَكَانَ رِدَاءً خَشِنًا، فَالْتَفَتَ، فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِنْ جَبْذَتِكَ الَّتِي جَبَذْتَنِي» فَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَهَا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ: عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا، وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرًا"، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: "انْصَرِفُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-".

وروى ابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الألباني عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه قال: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَالْهِرَمِ وَالْقَسْوَةِ، وَالْغَفْلَةِ، وَالْعَيْلَةَ، وَالذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ , وَالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ).

وقد تضمن هذا الحديث جملة من أمراض القلوب التي كثيرًا ما تتلازم ويجر بعضها إلى بعض، وهو لِمَن تأمله من دلائل نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لجمعه كل هذه الأسباب لشقاء القلوب والأبدان في سياق واحد، من جوامع الكلم الذي أوتيه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

والعجز الذي استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو: عجز الإرادة وضعفها؛ حتى لا يستطيع الإنسان بما عجَّز نفسه أن يقوم بما أمره الله به.

وأما الكسل: فالإرادة موجودة لكن ضعيفة، وبالتالي يتأخر عما أمر الله به، وقد ذمَّ الله المنافقين، فقال: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) (النساء:142).

وأما الجبن فهو: التخاذل عما أوجبه الله من الشجاعة في مواطن قول الحق وفعله، وأعظمه خطرًا الفرار مِن الزحف، قال الله -تعالى-: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى? فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ? وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال:16).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

وأما البخل فهو: منع الحق الذي وجب على الإنسان مما في يديه، وأعظمه خطرًا منع الزكاة الواجبة؛ لأنها مِن أركان الإسلام، والباخل بها يُجعل له ماله صفائح؛ فيُحمَى عليه في نار جهنم؛ فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ثم البخل بالحقوق الواجبة: كحقوق الوالدين والزوجة والأولاد، وكل مَن وجبت نفقته على الإنسان؛ فهذا في البخل المحرم، وأما البخل المكروه فهو التضييق على مَن يعولهم مع السعة التي أعطاه الله -عز وجل- وإن كان يعطيهم ما يقيتهم.

وأما الهَرَم فهو: كبر السن مع ضعف العقل والبدن؛ حيث يعجز الإنسان عن أداء ما كان يعمله من العبادات، فيزول عقله حتى لا يعي ما يقول، حتى لا يعلم من بعد علم شيئًا.

والقسوة قد تكلم فيها كثير من العلماء، فعن مالك بن دينار -رحمه الله- قال: أربعٌ من الشقاوة: قسوة القلب وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا. وقال سهل بن عبد الله: كل عقوبة طهارةٌ إلا عقوبة القلب؛ فإنها قسوة.

وسئل ذو النون: ما أساس قسوة القلب في المريد؟ فقال: بحثه عن علوم رضي نفسه بتعليمها دون استعمالها والوصول إلى حقائقها.

وقال عبد الله الداري: كان أهل العلم بالله والقبول منه يقولون: إن الشبع يقسي القلب، ويُفتِّر البدن.

وقال أبو عبد الله الساحي: الذكر لغير ما يوصل إلى الله قسوةٌ للقلب.

وقال حذيفة المرعشي: ما ابتلي أحد بمصيبة أعظم عليه من قسوة القلب.  

وقال الأوزاعي: إن معالي المسائل تحدث قسوة للقلب وغفلة وإعجابًا (قلتُ: يقصد بذلك الدقيقة مِن المسائل الخارجة عن العمل: كمسائل علم الكلام، ومسائل القياس البعيدة التي تحتاج إلى ذِهن متقد؛ فيعجب الإنسان بنفسه إن وصل إليها، ولكن لا يتأثر قلبه؛ بل يزداد قسوة).

وقال مالك بن دينار -رحمه الله-: ما ضُرِب عبد بعقوبة أعظم مِن قسوة القلب، وما غضب الله -عز وجل- على قوم إلا نَزَع منهم الرحمة.

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبُعد عن الله، خلقت النار لإذابة القلوب القاسية، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي. نعوذ بالله من القسوة.

وأما الغفلة فهي ترك ذكر الله -سبحانه وتعالى- والانشغال بالدنيا عما أمر الله -عز وجل- به.

وأما العَيْلة: فأن يكون الإنسان عائلًا على غيره، يعتمد عليه في قوته وحاجته؛ فهو سائل، والسؤال دائمًا من الخلق مذموم.

والذلة المذمومة -والتي دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منها- هي: أن يذل الإنسان لعدوه، وكل مَن يخالف شرع الله -سبحانه وتعالى-، ويكون عنده من الهوان ما يمنعه أن يُظهر الحق ويعمل به؛ بل دائمًا يكون في هوان يخضع لغيره ويذل له.

وأما المسكنة المذمومة فهي: الاستكانة لأهل الباطل، والاستكانة للعدو مع القدرة على مقاومة شره؛ ولكن مِن ضعف همته ومسكنة وذلة نفسه يخضع ويستكين، كما قال الله -عزوجل- عن اليهود: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) (البقرة:61)، فتجدهم يستذلهم أعداؤهم وهم يستكينون لهم.

وأما الفقر المذموم فهو: الاحتياج إلى الخلق دون الفقر إلى الله -سبحانه وتعالى-، والله -سبحانه وتعالى- قد أمرنا أن نفتقر إليه، كما قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15).

وأما الشقاق فهو: مشاقة الله ورسوله، وكذلك مشاقة أولى الأمر من المسلمين، ومشاقة إجماع العلماء؛ حيث يكون في شقٍّ وهم في شقٍّ.

والشقاق بينه وبين أهله وأصحابه وأقاربه وجيرانه مِن أعظم أسباب الشقاء.

ولعل باقي ما ذُكر من أمراض في الحديث يكون له موضع آخر.

خاتمة:

انتهى بحمد الله -تبارك وتعالى- ما أردنا جمعه حول القسوة في القلوب وفي المجتمع، وأسبابها وعلاجها، نسأل الله أن يعيذنا مِن القسوة والغفلة.

ونسأل الله أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنها سيئها لا يصرف عنها سيئها إلا هو.

ونسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من عباده الصالحين المخلصين المقبولين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة