الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الوسطية في علاقة الحاكم بالمحكوم

يمثل النهج الثوري والتيار الرفضي قطاعًا واسعًا بين جمهور الإسلاميين

الوسطية في علاقة الحاكم بالمحكوم
شريف طه
الأحد ١٧ يناير ٢٠٢١ - ٢٠:١٧ م
520

الوسطية في علاقة الحاكم بالمحكوم

كتبه/ شريف طه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مِن أهم المسائل التي يحتاجها شباب الصحوة الإسلامية، ضوابط التعامل مع الأنظمة والحكام دون إفراط أو تفريط، وطالما كانت هذه القضية مثار غلط واضطراب، نشأ عنه انحراف وتقصير، أو فتن وويلات اكتوى بها المسلمون.

- الغلو في طاعة الحكام عرف قديمًا كما يحكي ابن تيمية -رحمه الله- قائلًا: "وأيضًا: فكثير من أتباع بني أمية -أو أكثرهم- كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك، وكلامهم في ذلك معروف كثير.

وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، فجاء إليه جماعة من شيوخهم، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو، أنه إذا ولى الله على الناس إمامًا تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات؛ ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقًا، وأن مَن أطاعه فقد أطاع الله. ولهذا كان يضرب بهم المثل، يقال : طاعة شامية" (منهاج السنة).

- وهذا المسلك وإن لم يعرف له منظر الآن؛ إلا أن المسلك العملي لبعض الناس يوحي بذلك، فتراه لا يفرق في حكمه على الأمور، بين الحكمة والنظر في المآلات، وإباحة الفساد والظلم، أو تحسينه وتبريره، فترى أحدهم يبرر الربا والزنا والدعارة والظلم والسجن للأبرياء ونحوها بحجة أن الحكام أعلم بالمصلحة (بالمناسبة هذا ليس خاصًّا بأتباع المدخلي أو رسلان ونحوهما، بل يشاركهم في ذلك الأردغانيون، الذين يرفعون شعار: أردوغان أعلم بمصلحتنا، ويبررون له ما يكفرون به الحكام الآخرين).

وفي المقابل: يمثل النهج الثوري والتيار الرفضي قطاعًا واسعًا بين جمهور الإسلاميين، ومن صور التهور والغلو في هذا التيار:

- اعتماد الخطاب التثويري والتعبوي على طول الخط، وتعظيم الفجوة بين الحكام والدعاة إلى الله، وعدم التبصر في عواقب ومآلات الأمور، وغير ذلك من الأخطاء القاتلة التي تقع فيها بعض الحركات الإسلامية في صدامها مع الحكومات المختلفة.

- النصيحة الأكيدة للخروج من هذه الثنائيات غير المنضبطة هي الاهتمام بتعلم الضوابط الشرعية في هذا الباب، أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعظيم فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، وتغليب الخطاب المتعقل الموضوعي على الخطاب المتشنج الثوري، وتقديم العقلاء من أهل العلم والدعوة والخبرة لقيادة الحركات الإسلامية.

مثال تطبيقي: تعامل الحسن البصري -رحمه الله- مع الحجاج:

يعتمد الموقف السلفي الأصيل في سياسته مِن الحكام على الموازنة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفاظ على وحدة الأمة، واجتماع كلمتها، واجتناب الفتن.

والخلل يحدث مِن تغليب أحد أطراف هذه الموازنة على الطرف الآخر، والنظر إلى جانب واحد فقط.

والحسن البصري -رحمه الله- كان نموذجًا لهذه الموازنة المنضبطة؛ فهو قد عايش كثيرًا مِن الفتن التي حدثت في عصر بني أمية بسبب ولاية الحجاج، وما صاحبها من مظالم معروفة.

وأشهر هذه الفتن: كانت ثورة ابن الأشعث، فكان موقف الحسن ثابتًا من رفض هذه الثورات، وكان ينهى عن ذلك؛ إدراكًا لمآلاتها، وإدراكًا لموازين القوى التي كانت في صالح بني أمية، وليس خصومهم إلا أهل دين لا يصلحون للحكم، وليس معهم شوكة، أو أنهم أهل دنيا لا يختلفون عن بني أمية!

وهو مع كل هذا مبغض للحجاج وسيرته، حتى إنه لما مات خَرَّ ساجدًا وقال: "اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته، فإنه أتانا أخيفش، أعيمش، يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله، يرجل جمته، ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر، فيهدِر حتى تفوته الصلاة؛ لا مِن الله يتقي، ولا مِن الناس يستحيي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل: الصلاة أيها الأمير، هيهات! حال دون ذلك السيف والسوط".

وأما منهجه الإصلاحي: فيعتمد على إصلاح المجتمع، والتوبة؛ ليرفع الله هذا البلاء، فعندما أفتى الحسن رجلًا بعدم جواز الخروج على الحجاج، قال له الرجل: "لقد كنت أعرفك سيئ القول في الحجاج غير راضٍ عن سيرته، فقال الحسن: وأيم الله إني اليوم لأسوأ فيه رأيًا، وأكثر عتبًا، وأشد ذمًّا، ولكن لتعلم -عافاك الله- أن جور الملوك نقمة من نقم الله -تعالى-، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف، وإنما تتقى، وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة، والإقلاع عن الذنوب".

ولم يكن هذا استسلامًا ولا هزيمة نفسية أو تواكلًا، بل هو إدراك حقيقي لموازين القوى، وتوجيه العامة لما ينفعهم، بدلًا من الانشغال بما لا يملكون التأثير فيه على وجه نافع.

وانظر إلى حسن قراءته للواقع، وتقدير المواقف، فعن حماد بن زيد بن أبي التياح قال: "شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن  حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهى عن الخروج على الحجاج، ويأمر بالكف، وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض، فقال سعيد فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام إذا لقيناهم غدًا؟ فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه، ولكنا نقمنا عليه استعمال الحجّاج فاعزله عنا، فلما فرغ سعيد من كلامه تكلم الحسن، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله عليكم الحجّاج إلا عقوبة فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع، وأما ما ذكرت من ظني بأهل الشام فإن ظني بهم أن لو جاءوا فألقمهم الحجاج دنياه لم يحملهم على أمر إلا ركبوه، هذا ظني به".

فالعالم الفقيه هو مَن يتبصر عواقب الأمور، ومواضع الأقدام، ولا تستخفه حماسات أو عواطف الطائشين، ولو حسنت نواياهم؛ فالأمر كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "وكم مِن مريدٍ للخير لن يصيبه!".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة