الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (3)

قصة بناء الكعبة

الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (3)
ياسر برهامي
الجمعة ٢٢ يناير ٢٠٢١ - ٠٨:٥٨ ص
749

الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (3)

قصة بناء الكعبة

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن ارتباط الكعبة بإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ثم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- له أهمية عظيمة ببيان الدين الحق الذي هو دين إبراهيم ودين محمد -صلى الله عليهما وسلم-؛ لأن الكعبة هي أول بيت بُني لعبادة الله في الأرض، قال -عز وجل- (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96)، بناه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-.

وهو البيت الذي جعله الله قِبْلةً لآخِر الأمم ولآخِر الزمان خلافًا للأمم السابقة من بني إسرائيل التي كانت قبلتهم لبيت المقدس، الذي بناه أيضًا إبراهيم -عليه السلام- أو إسحاق أو يعقوب -عليهما السلام-؛ إذ بيْن بناء الكعبة وبين بناء المسجد الأقصى أربعون عامًا، كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- في صحيح مسلم: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلُ؟ قالَ: (المَسْجِدُ الحَرامُ) قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: (المَسْجِدُ الأقْصى)، قُلتُ: كَمْ بيْنَهُما؟ قالَ: (أرْبَعُونَ سَنَةً).

وهذا الأمر له إشارات في الكتب المتقدمة في تحوُّل المدينة المقدسة من القدس إلى المدينة المقدسة الجديدة "مكة المكرمة"، وهذا لِيَدُلَّنا على أن دين إبراهيم والحجَّ إلى بيت الله الحرام سيكون في آخر الزمان حول الكعبة المشرفة، وعند الأمة التي تعظمها "وهي الأمة الإسلامية" التي هي الأمة العظيمة التي بشَّر الله إبراهيم في إسماعيل أن يجعل مِن ذريته أمة عظيمة لا غيرها؛ إذ لا عظمة للعرب أصلًا بعد إسماعيل -عليه السلام- إلا بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجهم الله به مِن الظلمات إلى النور.

فلن يكون دين إبراهيم أبدًا إلا باتِّباع القِبلة التي بناها، وعظَّمها الله ببنائه هو وابنه إسماعيل إيَّاها، وإسماعيل هو أبو الأمة العظيمة أمة الإسلام، قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة:124-130).

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "يقول -تعالى- مُنبهًا على شرف إبراهيم خليله -عليه السلام-، وأن الله -تعالى- جعله إمامًا للناس يُقتدَى به في التوحيد؛ حين قام بما كلَّفه الله به من الأوامر والنواهي.

ولهذا قال: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين؛ اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلَّفه به من الأوامر والنواهي. (فَأَتَمَّهُنَّ) أي: قام بهن كُلِّهن، كما قال -تعالى- (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم: 37)، أي: وَفَّى جميع ما شُرع له، فعمل به -صلوات الله عليه وسلامه-، وقال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120-123)، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:161)، وقال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67-68).

وقوله -تعالى-: (بِكَلِمَاتٍ) أي: بشرائع وأوامر ونواهٍ، فإن الكلمات تطلق ويُراد بها الكلمات القدرية، كقوله -تعالى- عن مريم -عليه السلام-: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12)، وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله -تعالى-: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) (الأنعام:115)، أي: كلماته الشرعية -(قلتُ: والصحيح أن قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا): تشمل الكلمات الشرعية والكلمات الكونية أيضًا؛ فإنها كلها عدل وصدق)-، وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل؛ إن كان أمرًا أو نهيًا، ومِن ذلك هذه الآية الكريمة: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) أي: قام بهن. (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أي: جزاءً على ما فعل، كما قام بالأوامر وترك الزواجر؛ جعله الله للناس قدوة وإمامًا يُقتدَى به، ويُحتذى حذوه.

وقد اخْتُلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل -عليه السلام-؛ فرُوي عن ابن عباس في ذلك روايات، فقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك. وكذا رواه أبو إسحاق السبيعي، عن التميمي، عن ابن عباس.

وروى عبد الرزاق أيضًا عن ابن عباس: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفَرْق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.

قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وأبي صالح، وأبي الجلد نحو ذلك.

قلتُ: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَشرٌ منَ الفِطرةِ: قصُّ الشّاربِ، وإعفاءُ اللِّحيةِ والسِّواكُ والاستِنشاقُ وقصُّ الأظفارِ وغَسلُ البَراجمِ ونَتفُ الإبطِ وحَلقُ العانةِ وانتِقاصُ الماءِ، قالَ زَكَريّا: قالَ مُصعبٌ: ونَسيتُ العاشِرَةَ إلّا أن تَكونَ المَضمضَةُ).

قال وكيع: انتقاص الماء؛ يعني: الاستنجاء.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الفطرةُ خمسٌ: الختانُ، والاستحدادُ، وتقليمُ الأظفارِ، ونتفُ الإبطِ، وقصُ الشاربِ) ولفظه لمسلم.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قال: عشر؛ ست في الإنسان، وأربع في المشاعر؛ فأما التي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، والختان -وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة- وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والسواك، وغُسل يوم الجمعة. والأربعة التي في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.

وقال داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: ما ابْتُلِي بهذا الدِّين أحد فقام به كله إلا إبراهيم، قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قلت له: وما الكلمات التي ابْتَلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، منها: عشر آيات في براءة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112)، إلى آخر الآية، وعشر آيات في أول سورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون) (المؤمنون:1)، و(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) (المعارج:1)، وعشر آيات في الأحزاب: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب:35)، فأتمهن كلهن؛ فكُتبت له براءة، قال الله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37). وهكذا رواه الحاكم، وأبو جعفر ابن جرير، وأبو محمد ابن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند به" (تفسير ابن كثير).

وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة