رأس الحكمة والنجاة
(أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ)
كتبه/ محمود
عبد الحفيظ البرتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
فقد جمع الله -تعالى- في القرآن العظيم بين
الحكمة والشكر، فقال -تبارك وتعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
فقوله -عز وجل-: (أَنِ
اشْكُرْ لِلَّهِ) أي: على ما أعطاك مِن نعمه الدينية والدنيوية؛ وأن تعمل
بطاعته -عز وجل-، وتلتزم بشرعه، وتترك معصيته.
والشكر: كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة؛
لأن الشكر هو: صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خُلق لأجله.
وإنما كان
الشكر مِن الحكمة، بل هو رأس الحكمة؛ لأن فائدته لنفس الشاكر لا للمشكور، كما قال
-تعالى-: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ)، فالمشكور -عز وجل- لا يحتاج إلى الشكر، بل هو غني حميد؛ قال
-تعالى-: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
فالذي لا يشكر ربه -سبحانه- ولا يعمل بطاعته،
يعرِّض ما عنده من النعم الدينية والدنيوية إلى الزوال والضياع؛ فأي حكمة في ذلك؟!
وهل الذي ينفق
عمره وصحته وماله في معصية الله، ويستعين بنعم الله على مخالفة شرعه ومعصيته -عز
وجل-، يمكن أن يوصف بفقه أو حكمة؟!
بل هذا الإنسان أبعد ما يكون عن هذا الوصف.
أنالك رزقه
لتقوم فيه
بطاعته
وتـشـكــر بــعـــض حـقــه
فـلـم تـشـكـر
لـنـعـمـتـه ولكن
قويت على معاصيه برزقه
وقد جعل الله
نعمه على خلقه ابتلاءً وامتحانًا لهم؛ ليرى الله -تعالى- كيف يستعملها عباده:
أيستعملونها في طاعته أم في معصيته، كما ذكر -عز وجل- عن سليمان -عليه السلام- لما
رأى عرش ملكة سبأ مستقِرًّا عنده: (قَالَ هَذَا مِنْ
فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40)، وقال -سبحانه- مبينًا أنه قَسَّم جنس الإنسان
إلى قسمين: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان:3).
وليس الشكر
مجرد حركة اللسان بالثناء على الله -تعالى- وقول: "نشكر الله على كذا وكذا من
نعمه"؛ وإنما هو
بالعمل وإنما هو باعتراف القلب بأن النعم كلها من الله، وإقرار اللسان بذلك، وعمل
الجوارح باستعمال نعمه -سبحانه- فيما يرضيه، واجتناب استعمالها فيما يغضبه -جلَّ
وعلا-، كما قال -تعالى-: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا)
(سبأ:13).
ومن هنا يتبين
لنا: كيف أن القليل
مِن العِبَاد -على الحقيقة- هم مَن يشكرون الله، وإن كان الكثير من الخلق يتكلم
بالشكر، كما قال -تعالى-: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ) (سبأ:13)، وقال: (قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف:10)؛ ذلك أن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح،
وليس فقط قول اللسان.
وفي الشكر
نجاة العبد مِن الهلاك والسوء والشرور: كما قال الله -تعالى-: (مَا
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء:147)، وقال -تعالى-: (كَذَّبَتْ
قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ . إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ
لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ . نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ
شَكَرَ) (القمر:33-35)؛ فَنجَّى الله لوطًا -عليه السلام- وأهله -إلا
امرأته- مِن الكرب العظيم؛ جزاءً لهم على شكرهم لربهم بتوحيده لله -تعالى-،
وطاعتهم وعبادتهم له وحده لا شريك له.
فالشكر عبادة
مِن أعظم وأجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها المسلم إلى الله -تعالى-، وهو سبب سبب
لزيادة النعم الدينية والدنيوية، كما قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7)؛ فهو كما
قيل: "الشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة"، والمعنى: أن مَن
أراد استدامة النعم عنده -وزيادتها- فسبيل ذلك الشكر، ومن أراد نعمًا ليست عنده
فطريق ذلك أيضًا الشكر.
نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين الحامدين.
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com
