الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

من التكديس إلى البناء

لابد مِن عمل دؤوب لبناء الهياكل الإدارية التي تستوعب جميع العاملين من أتباع لتيار السلفي، وتحديد المهام، وتقسيم المسؤوليات، والاستفادة من جميع الطاقات

من التكديس إلى البناء
أحمد شكري
الخميس ٢٣ فبراير ٢٠١٢ - ١٨:٥١ م
2884

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبرقت عيناه بريقًا ينبئ عن ذكاء مفرط، وتوقع أن لا يأتيه الخطر من خلفه؛ لأن المنافذ الخلفية حصينة، لكن سيأتيه مِن أمامه، فقرر ألا يتجه إلى اليمين؛ لأنها منطقة مكشوفة، أما جهة اليسار ففيها من التحصينات ما يُمَكِّنه ليس فقط من النجاة، بل المباغتة والانقضاض، ومِن ثَمَّ الانتصار الساحق.

جلس معجبًا بخطته الألمعية، وزاد إعجابه بها عندما ظهرت بوادر الخطر من جهة الأمام -كما دله ذكاؤه المتوقد- فاشتعل الحماس في نفسه، وكأنه صار قاب قوسين من النصر المبين، ولكن ما لبث أن تحول هذا الحماس المشتعل إلى حسرة حارقة، ثم آلام خارقة من جراء الهزيمة الساحقة التي حلت به؛ ليس لأنه لا يدرك مواقع الخطر؛ وليس لأنه لا يدري كيف يواجهه! ولكن -ببساطة-؛ لأنه قعيد، مشلول الأطراف، عاجز عن الحركة.

هذه حال بعض مِن نسمِّيهم بالمُنظـِّرين والمفكرين، فهم يملكون مِن الخبرة بالواقع ما يجعلهم يتنبئون بمواضع الخطر، وعندهم مِن الحلول والبدائل ما يجعلهم يصفون المخرج الصحيح من الأزمات المتوقعة، لكنهم لا يملكون من الأدوات ما يُحوِّلون به أفكارهم إلى واقع ملموس.

هذه الإشكالية تَعرض لها مهندس النهضة "مالك بن نبي" حينما تكلم عما أسماه: "فاعلية الأفكار" في كتابه: "ميلاد مجتمع"، وبيَّن أنه كلما كانت شبكة العلاقات حول فكرة ما أوثق، كلما كانت الفكرة أكثر فاعلية وتأثيرًا.

والحق أن "مالك بن نبي" لا يقصر مشاكل الأمة على ذلك؛ فقد قرر في كتابه: "وجهة العالم الإسلامي" أن واقعنا الآن هو: "إما فكرة لا تطبق، وإما عمل لا يتصل بجهد فكري".

ولعلنا نناقش في هذا المقال النصف الأول مِن هذه الإشكالية؛ لنقرر أنه لا يكفي مجرد صواب الفكرة، ولا عمقها ولا إبداعها في تغيير الواقع، بل لابد لها من هيكل فعال قادر على تطبيقها وتحويلها إلى حقيقة.

ولا يكفي كذلك مجرد حشد المؤيدين والمتعاطفين والمتحمسين للفكرة دون إيجاد شبكة من العلاقات فيما بينهم تتضح فيها المهام، وتقسم فيها الأدوار.

وما زلنا مع "مالك بن نبي"؛ لنستعير منه مثالاً ضربه في كتابه "شروط النهضة" تحت عنوان: "من التكديس إلى البناء"، حيث قال: "كرجلين أراد كلٌ منهما أن ينشئ عمارة، فالأول: اشتري الحديد والآلات والأحجار، وكل ما يلزم لإنشاء العمارة وتركها في موقع البناء، أما الثاني: فقد أخذ يشتري جزءًا من مواد البناء ويبني، فما هي إلا بضعة شهور حتى أقام عمارته، بينما الأول لم يفعل شيئًا سوى أنه اشترى مواد البناء وتركها مكدسةً بلا تفعيل ولا عمل، فلن يبني عمارته".

فالمفكر الذي يكتفي بمجرد حشد المتعاطفين مع فكرته دون أن ينشئ شبكة من العلاقات بينهم، ثم يوظف كل واحد منهم طبقًا لمواهبه وإمكاناته في المكان المناسب لخدمة هذه الفكرة لن يستطيع أن يتحول بفكرته من مجرد خيال وأحلام إلى واقع ملموس.

قال "مالك بن نبي" في كتاب شروط النهضة: "فكم من طاقات وقوى لم تستخدم؛ لأننا لا نعرف كيف نكتلها! وكم من الطاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن نفس المصدر، متجهة إلى نفس الهدف... فهناك ملايين السواعد العاملة، والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل، المكون من ملايين السواعد والعقول، في أحسن ظروفه الزمنية، والإنتاجية المناسبة لكل عضو من أعضائه، وهذا الجهاز حين يتحرك، يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود".

وهناك مثال آخر من واقعنا الدعوي -وهو على بساطته أراه معبرًا عن واقع فكري مُعقَّد-: قام أحد أئمة المساجد بحث الناس على تنظيف المسجد، ولم يستجب له أحد، فأعاد النصيحة مرات ومرات حتى فقد أعصابه فاستعمل أساليب شديدة لا تتناسب مع اللين المطلوب من الداعية، ثم لم يلبث أن أصابه اليأس والإحباط؛ فأصبح لا تجده إلا ذامًا لهؤلاء المصلين الذين ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، واستحوذ عليهم الشيطان فهم لا يفقهون -كما يظن هو-.

وفي هذه الأثناء جاء أحد كوادر الدعوة المدربين على العمل الجماعي فقام بالتعارف على أهل المسجد، ثم بدأ بإنشاء مجموعات (الطلائع - الشباب - المهنيين - الحرفيين - كبار السن)، وبدأ يتواصل مع كل مجموعة، ثم بدأ بتوزيع الأدوار؛ فمجموعة الطلائع تقوم بتنظيف دورات المياه، والشباب لصحن المسجد، وهكذا... وبالفعل أصبح المسجد على حال غير ما كان عليه تمامًا.

وهنا أصاب الشيخ الوقور الذهول... ماذا حدث؟ ما الذي تغير؟ هل هذا الداعية أعلم مني بفضائل تنظيف المسجد؟ أم أن أسلوبه في الإقناع اقوي مني؟! أم أن أهل هذا المسجد متحزبون متعصبون لا يقبلون الحق إلا إذا قال به فرد معين؟ أم أنني كنت مخطئًا حين أسأت الظن برواد المسجد، وأن هناك حلقة مفقودة بين الاكتفاء بمجرد إلهاب الحماس وبين انجاز العمل، وهي: توزيع الأدوار، والتنسيق بين الجهود، وزرع ثقافة العمل الجماعي.

وإذا كان التيار السلفي قد حقق عدة نجاحات في الفترة الماضية من خلال ما يمكننا أن نطلق عليه: "الإدارة الإعلامية"، بمعنى بمجرد توجيهات عامة من رموزه ودعاته، فإن هذا ليس معناه الرضا بالواقع، بل لابد مِن عمل دؤوب لبناء الهياكل الإدارية التي تستوعب جميع العاملين من أتباع لتيار السلفي، وتحديد المهام، وتقسيم المسؤوليات، والاستفادة من جميع الطاقات.

بمعنى أن نتحول مِن الإدارة الإعلامية إلى الإدارة العضوية، وإيجاد شبكات من العلاقات العضوية بين أفراد التيار السلفي، وإنشاء روابط قائمة على الحب في الله –تعالى-، والاحترام المتبادل، والرجوع إلى أهل العلم، تساعد هذه الروابط على بناء فرق عمل ترتبط بدورها بشبكة من العلاقات لتكوين هياكل إدارية متكاملة؛ لنستطيع مواجهة التحديات، والقيام بالمتطلبات.

وإذا كان مِن الواجب علينا الامتثال لأمر الله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة:2)، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولذلك وجب علينا فعل كل ما مِن شأنه تحقيق الفاعلية لهذا التعاون.

نسأل الله -تعالى- أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يستعملنا لنصرة دينه على خير وجه يرضيه عنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً