الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

موقف د."راغب السرجاني" من أحداث "30 يونيو و3 يوليو"

فيردد الكثيرون أن "الدعوة السلفية" و"حزب النور" قد انفردا عن بقية الإسلاميين برؤيتهم في أزمة "30 يونيو" وما بعدها، ولكن عند التأمل سوف نجد أن كثيرًا من الرموز الإسلامية تتفق مع رؤية "الدعوة السلفية" و"حزب النور"

موقف د."راغب السرجاني" من أحداث "30 يونيو و3 يوليو"
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٢٣ أغسطس ٢٠١٣ - ٠٩:٢٤ ص
32901

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيردد الكثيرون أن "الدعوة السلفية" و"حزب النور" قد انفردا عن بقية الإسلاميين برؤيتهم في أزمة "30 يونيو" وما بعدها، ولكن عند التأمل سوف نجد أن كثيرًا من الرموز الإسلامية تتفق مع رؤية "الدعوة السلفية" و"حزب النور" مع أن بعضهم ينتقدها، وقد علقنا سابقًا على مقالات الدكتور "صلاح الصاوي" وموقفه من الأزمة، والتي كشفتْ رغم ما حملته من نقد لرؤية الحزب عن مقدار اتفاق يصل إلى حد التطابق بين الرؤيتين.

ونفس الأمر بالنسبة للشيخ "عبود الزمر"، والذي كتب مقالة في جريدة "المصريون" بعنوان: "تفكيك الأزمة... رؤية واقعية"، و"الواقعية" هي عنوان الخلاف الرئيس بيْن رؤية "حزب النور" وبيْن "التحالف الوطني لدعم الشرعية" وفي القلب منه "الإخوان".

ورغم أن الدكتور "صلاح الصاوي" والشيخ "عبود الزمر" وغيرهما كثيرون ينادون الإخوان أن يتعاملوا مع الأزمة بواقعية؛ إلا أنهم ينتقدون مواقف لـ"حزب النور" تدخل هي نفسها في حيز الواقعية، مثل:

أ‌- استخدام وصف الانقلاب العسكري على ما وقع في "3-7-2013م"

ب‌- الظهور في مشهد "3-7-2013م" ذاته.

وكلاهما من وجهة نظري قابل للاجتهاد "بل قد أوافق المعترضين على بعض اعتراضاتهم"، ولكن لا يخفى على أحد أن هذين الأمرين لا يؤثران تأثيرًا كبيرًا على الموقف العام.

فأما مسألة المسمى: فاستخدام وصف الانقلاب العسكري قد يدخلك في جدل عقيم حول المقارنة بينه وبين "25 يناير"، وقد يوظفه البعض في ادعاء احتقار الإسلاميين لجموع الشعب "وهي أهم أخطاء الإخوان في إدارة الأزمة في مرحلة ما قبل 30 يونيو".

وأما الظهور في المشهد: فلعله يتأثر برؤية كل طرف، متى تمت السيطرة التامة من الجيش على السلطة قبل خارطة الطريق؟

والناس في ذلك مذاهب: فمنهم مَن يرى أن الرئيس "مرسي" لم يتسلم سلطة حقيقة أصلاً، ومن هؤلاء المستشار "أحمد مكي" الذي قال في حوار "للجزيرة": "إن تسليم السلطة الذي تم في "30-6-2012م" كان صوريًّا، وأن الجيش والشرطة رفضا طوال عام من حكم الرئيس "مرسي" أن يعطوا الدولة القدر المطلوب من القوة المنضبطة بالقانون والتي لا تقوم دولة بدونها".

بينما يرى الكثيرون أن عزل الرئيس "مرسي" تم يوم "3-7-2013م"، ومِن ثَمَّ ينتقد ظهور ممثل لـ"حزب لنور" في هذا المشهد، بينما الأمر قد يكون قريبًا مما ذكر المستشار "أحمد مكي"؛ إلا أن العزل التام قد حدث قبل يوم "3-7-2013م" بعشرة أيام -على الأقل-، ومع مهلة الأسبوع التي أطلقها "وزير الدفاع" لرئيس الجمهورية، وقد اعترف الدكتور "غزلان" بذلك ضمنًا في بيانه الأخير في مقالته في الرد على الفريق "السيسي" والمنشورة على موقع "إخوان أون لاين" بتاريخ: "18-8-2013م" جاء فيها: "هل من صلاحياته أن يوجه إنذارًا شمل الرئيس الشرعي المنتخب بمهلة 7 أيام، ويمد يومين وبعدها يقوم بانقلابه؟!".

ومِن ثَمَّ كانت "الواقعية" تقتضي التعامل مع الأمر الواقع ومحاولة تقليل الخسائر.

هذا وقد فهم البعض من اضطرار "حزب النور" لتذكير الإخوان بأخطاء وقعوا فيها أن هذه مبررات يسوقها "حزب النور" لرفضه حكم الإخوان بينما هي في واقع الأمر مبررات للعجز عن الدفاع عن هذا الحكم أمام طوفان من الانتقادات كثير منها صحيح والدفاع عنها يخل بمصداقية الإسلاميين، بينما كانت الواقعية الاعتراف المبكر بهذه الحقيقة، وما زال إنكار الاعتراف بـ"فشل الحكومة" حتى دخلنا في مرحلة المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة، ثم دخلنا في عزل الدكتور "مرسي" الذي بدأ "23-6" واكتمل تمامًا في "3-7".

وإذا تجاوزنا هذه الأمور التي تدخل في نطاق الخلاف في وجهات النظر -وإن كانت لها آثارها النفسية- فسوف نجد أن كثيرًا من الرموز قد طالبوا بالتعامل مع هذه الأمور بواقعية، ومن هؤلاء: رموز من جماعة الإخوان المسلمين ما زالوا رموزًا بها؛ فضلاً عن كثيرين ممن تركوها.

ومن هؤلاء: د."راغب السرجاني"، والذي كتب على "موقع قصة الإسلام" بيانًا لموقفه من الأزمة تحت عنوان: "أين أنا"، وأشار فيه إلى مقالات سابقة ألمح فيها إلى هذه الرؤية قبل أن يخطو في اتجاه "التصريح"، والذي وعد بأن يخطو خطوات أخرى في اتجاهه.

وأنا أنقل لك هنا كلامه في هذه المقالة، ومقالتين سابقتين عليها، مع وضع خط تحت المعاني الهامة في كلامه أو إضافة تعليق بين قوسين.

مقال: "أين أنا" للدكتور "راغب السرجاني"

"يستغرب بعض المتابعين للموقع من كوني لا أعلن رأيي بوضوح في الأحداث، أو لكوني لم أتواجد في ميدان "رابعة العدوية" أو "النهضة" بعد الانقلاب على رئيسنا الخلوق الدكتور "مرسي"... وواقع الأمر أن ذلك لأنني أرى من وجهة نظر شرعية وتاريخية وواقعية أن إدارة الأمر لا ينبغي أن تكون بالصورة التي جرت بها الأحداث، وهذا أمر خاص بي قد يتعارض مع رؤية التحالف الوطني الذي يقوم على تسيير الأمور في هذه الفترة، ومِن ثَمَّ آثرتُ ألا أحدث بلبلة في الرأي فاحتفظت برأيي؛ لأن الشباب في نهاية الأمر لابد أن يستمعوا لرأي واحد حتى لا يحدث التشتيت، وكان هذا أقصى ما يمكن أن أفعله، وهو عدم التصريح للجموع برأي مخالف.

أما المشاركة في عمل أرى -من وجهة نظري- أن له نتائج كارثية فلم يكن ممكنًا أبدًا، وليس بالضرورة يا إخواني وأخواتي أن يكون "رأينا" جميعًا واحدًا، إنما المهم ألا يكسر بعضنا بعضًا، وألا نتصارع أمام الناس.

ومع ذلك فقد قمت بثلاثة أمور:

أما الأمر الأول فهو: إيصال رأيي بوضوح إلى القائمين على أخذ القرار، وإعلامهم بوجهة نظري حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وقد اختاروا خلاف ما أرى، ولا أرى ضيرًا في ذلك، فهم أساتذتنا لا شك، لكني لا أستطيع أن أخوض في أمر أرى -من وجهة نظري البسيطة- أنه يضر بالدعوة ويؤثر عليها سلبًا، نعم قد أكون مخطئًا في اجتهادي، لكن ربي سيسألني عن رأيي الذي كوَّنته من دراستي وعلمي، فأنا لم أكن "صامتًا" كما يتخيل البعض، ولكني كنت متحدِّثًا مع مَن بيده أخذ القرار.

أما الأمر الثاني: فإني ألمحت إلى ما أراه مناسبًا في الأحداث عن طريق بعض الإشارات في بعض مقالاتي، كمقال: "الأحزاب أم أحد؟"، ومقال: "العلماء في زمن الفتنة"، ومقال: "عودة مرسي"، ومقال: "إدارة الشعوب"، واللبيب بالإشارة يفهم، وقد فهم معظم قراء المقال مقصدي، ومنهم مَن وجَّه لي الاتهامات والتخوينات والتعليقات السلبية الكثيرة؛ لأنني كنت ضد التيار، ولكني تحملت ذلك، ولم أرد بغية ألا أحدث اضطرابًا في الصف بوجود آراءٍ كثيرة تحيِّر الشباب.

وقد فهم شيخنا الكبير "وجدي غنيم" مرادي، وأخرج بيانًا يرد فيه على مقالي، ولكني آثرت ألا أرد بمقال آخر، حتى لا ننشغل بأنفسنا، ويعلم الله أنني كنت قد جهَّزت ما أقوله ردًا على التعليقات، ولكني تركته لله -عز وجل-، وحفاظًا على العلاقة الطيبة بين المسلمين.

وأما الأمر الثالث فهو: أنني دعمت أصحاب الحق بمقالات كثيرة تثبت لهم أنني أؤيد الدكتور "مرسي" بكل قوة، وضد الانقلاب بكل طاقتي، غير أني أختلف معهم جذريًّا في طريقة التعامل مع الحدث، منها على سبيل المثال: "مقال: رسالتي إلى وزير الدفاع"، ومنها: "ولا تهنوا ولا تحزنوا"، ومنها: "إعلام المسيح الدجال"، ومنها: "نخوة الكافرين"، ومنها: "قلوب الشياطين"، ومنها: "عبادة الأمل"، وسأعلن عن رأيي في الموقف كله لاحقًا في عدة مقالات تفسِّر وجهة نظري بأدلتها الشرعية والتاريخية والواقعية.

وفي النهاية يا إخواني ويا أخواتي: ما أنا إلا رجل من المسلمين، فأنا لست عالمًا كالعلماء الكبار الذين يمتلكون القدرة على الفتوى، وترجيح الرأي الفقهي الأفضل، ولست من صنَّاع القرار، ولا من المستشارين أصلاً في الأمور، إنما أنا مجرد قارئ للسيرة والتاريخ، أرى رأيًا قد يكون مفيدًا أقدمه لأهل القرار، فإن أخذوا به فالحمد لله، وإن تركوه فهم أدرى بما يصلح أحوال الأمة، وهم في النهاية -إن شاء الله- مخلصون مجتهدون، أسأل الله -تعالى- القبول لهم ولي ولعامة المسلمين.

وعمومًا: إن كتب الله لي في الأيام القادمة عمرًا وحرية، فسترون تباعًا هذه المقالات الشارحة لوجهة نظري، وهي تفصِّل ما حدث، وتتوقع ما سيكون، وأنا -والحمد لله- متفائل، وأتوقع أن الفرصة لم تذهب بعد، ولن تذهب أبدًا، وأن العاقبة للمتقين، وأن نصر الله قريب.

وكلمة أخيرة أوجهها لقراء هذه الكلمة: لا تشغلوا أنفسكم بالرد على كل كلمة في هذا المقال، ولو فعلتم فليكن في إطار الأدب المتبادل بين المسلم وأخيه، ولا تحرموا رجلاً من إبداء رأي مخالف لرأيكم قد تكون فيه الفائدة الكبرى وأنت لا تعلمون، ولعل الفائدة تعود على فترة قادمة من حياة الأمة لا ترونها الآن، ونحن إلى زماننا نستفيد من رؤى ووجهات نظر ابن تيمية وابن حنبل وابن خلدون وغيرهم من علماء المسلمين، بل نستفيد من آراء ذكرت في الكتب ولا نعرف قائليها، لكن الله يعرفهم، ويضيف بها الحسنات إلى موازينهم.

يا إخواني ويا أخواتي: أنا لا أبحث عن رضا جمهور القراء أو رضا الجموع من المسلمين في زماننا أوفي الأزمان القادمة، إنما أبحث عن رضا الله -عز وجل-، وأتقرب إليه بهذه الآراء التي أقدمها، وأتحمل في سبيل ذلك الكلمات الثقيلة التي يكتبها طلاب علم من عمر أولادي، وأوقن أن هذا النوع من الإيذاء يتحول بقدرة الكريم -سبحانه- إلى حسنات في الموازين يوم القيامة، وأسأل الله الهداية والثبات.

اللهم اهدنا إلى سواء الصراط، وارزقنا الحكمة وفصل الخطاب.

(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(البقرة:286).

وأسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين".

مقال: "الأحزاب أم أحد؟" للدكتور "راغب السرجاني"

"دومًا أنظر إلى السيرة النبوية على أنها نور يهدي في ظلمات الحياة... إننا نحتار كثيرًا، ونضطرب مرارًا، ونختلف في الرؤى والتحليل بشكل متكرر، وهذا ليس عيبًا، إنما هي السُنَّة الماضية التي وضعها الله -عز وجل- في خلقه، قال -تعالى-: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(هود:118).

فعند هذه الحيرة أو الاضطراب أو الاختلاف يجدر بنا أن نعود سريعًا إلى السيرة النبوية فنبحث بإخلاص عن قراره -صلى الله عليه وسلم- في مثل موقفنا، ونتخيل أنه بين أظهرنا أو نفترض بناءً على ما توافر لنا من مصادر حكت لنا قصته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان سيفعل كذا... وكذا... ثم نُقـْدم بلا تردد على فعل ما نتوقع أنه كان يفعله، وعندها سنجد الخير كل الخير، وسيشرح الله صدورنا لطرق حل هذه الأزمة، وسينير الله لنا الطريق المظلم، وسنهتدي بعد الحيرة دون قلق أو اضطراب.

وأنا أعلم أن الأمر ليس سهلاً ميسورًا، إنما يحتاج إلى كثرة علم، وإحاطة بأحداث السيرة النبوية وفهم دقيق لها، كما يحتاج إلى دراسة وافية للواقع الذي نعيشه حتى يمكن لنا أن نسقط موقفًا معينًا من مواقف السيرة على ما نمر به من أحداث.

كما أنني أدرك أن كثيرًا من المواقف التي أخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أثناء قصته كانت مع الكفار الذين يصدون عن سبيل الله، بينما تحدث مثل هذه المواقف في زماننا الآن مع مفسدين ومجرمين من المسلمين وليسوا كفارًا، فنحن نختار رد فعل معين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مقاومته للظلم أو في حربه للفساد أو في دفاعه عن الشريعة، ولكن دون أن نسقط أحكام الكفر والإيمان على الطرف الآخر الذي يصد الآن عن سبيل الله، فهذا ميدان آخر له فقهاؤه وعلماؤه، ويحتاج إلى معايير أخرى لسنا بصدد الحديث عنها الآن.

(قلتُ: وهي مسالة في غاية الأهمية، بل ينبغي أن يُشار إلى أن المواجهات قد تكون مع متأولين أو مطالبين بحق دنيوي لهم كما حدث في "30-6"، والإصرار على تصوير المسألة على أنها إيمان وكفر كان أحد أسباب تعقد المشكلة في حين كان السواد الأعظم منهم مطالبًا بإصلاحات سياسية، ومَن ينادي بالعالمانية منهم فدورنا نصيحته؛ مراعاة لما يعتري هذا الأمر من تأويل ولبس، مع الحذر من التكفير والذي يمكن أن تتسارع وتيرته كلما حميت المواجهات، فقد يجد البعض أن التكفير حل يسهِّل عليه المواجهة، وهو منزلق شرعي متى زلت فيه الأقدام عوقب به صاحبه في الدنيا والآخرة وكان سببًا في إراقة الدماء المحرمة، وفي تعثر الدعوة عشرات السنين؛ مما يوجب على أمثال د."راغب" وغيره، أن يبذلوا وسعهم في مواجهته بصراحة وحزم حيث لا يحتمل الأمر في هذا الباب الصمت الذي لزمه د."راغب" في الفترة السابقة كما بيَّن في مقال "أين أنا").

أقول هذا الكلام لأنني عندما أصف ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مقاومة المشركين في مكة أو في غزواته الكثيرة بعد ذلك، لا أعني وَصم المفسدين الذين يقاومون أهل الدين ويحاربون الفضيلة والشريعة، لا أعني وصمهم بالكفر، إنما فقط آخذ النور الذي يخرجنا من أزمتنا عندما أشاهد ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما تعرض للأذى من قومه.

ولنأخذ مثالاً واقعيًّا يوضح لنا أن الحركة الإسلامية يمكن لها أن تأخذ مواقف متباينة ومختلفة إذا ما رجعت إلى السنة النبوية وفهمت الفرق بين ردود أفعاله -صلى الله عليه وسلم- حسب الظرف والزمن.

لقد رأينا أعداء الإسلام يحاربون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في "الأحزاب"، ورأيناهم كذلك يحاربونه قبلها بسنتين في "أُحد"، هذا غير المواقع الأخرى الكثيرة التي حدث بينهما فيها صدام.

وقد أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ردود أفعال مختلفة تمام الاختلاف في كلا الموقفين: "الأحزاب، وأُحد"، بناءً على تقييمه للحادثة التي يمر بها.

في غزوة "الأحزاب": حاصر المشركون المسلمين حصارًا طال مع مرور الوقت حتى وصل شهرًا، وكان الاختيار النبوي هو الثبات، والدفاع عن الخندق، واستمرار الصدام مع توقع النصر أن يأتي بين لحظة وأخرى في الوقت الذي يريده رب العالمين.

أما في غزوة "أحد": فبعد تغير مسار المعركة، ونزول الرماة من فوق الجبل، وحدوث أخطاء جسيمة من الحركة الإسلامية حدثت المصيبة، وسيطر المشركون على الموقف، وأصيب المسلمون وجُرح قائدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقُتل بعض القادة الكبار، فكانت حسابات الرسول -صلى الله عليه وسلم- مغايرة تمامًا لحساباته التي ستكون بعد ذلك في غزوة "الأحزاب".

لقد قرر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ينسحب من أرض القتال إلى جبل "أحد"، هو ومَن معه من المؤمنين العظام، أمثال: أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي عبيدة، وطلحة -رضي الله عنهم جميعًا-، وقرر الاختفاء في الجبل، بل وعدم الرد على استفزازات أبي سفيان زعيم المشركين آنذاك.

لقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ لأن الثبات في أرض "أُحد" إلى نهاية المطاف يعتبر مفسدة كبيرة؛ لأنه يعني قتل مزيدٍ من المسلمين دون إحداث نكاية في العدو، ولذلك انسحب الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم-؛ ليعلمنا الواقعية في مثل هذا الموقف، وليتجهز بعد علاج الأخطاء لجولة جديدة يكون له فيها النصر -بإذن الله-.

كان هذا هو اختياره -صلى الله عليه وسلم- مع أن هذا الاختيار كان من الممكن أن يتبعه غزو من المشركين للمدينة المنورة الخالية من الجند الآن، وكان من الممكن أن يتبعه قتل وسبي ونهب، وكان من الممكن أن يتبعه أسر لعددٍ كبير من المسلمين تتم المساومة عليهم فيما بعد.

كل هذه سلبيات كان من الممكن أن تحدث، لكن لم يكن في يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آنذاك حل آخر، فاختار ما رآه أحلى الاختيارات، مع أن كل الاختيارات مُرَّة!

ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اختار الاختيار الأنسب والأصلح؛ فإن الله -عز وجل- حفظ المؤمنين مع أنهم أخطئوا، فليس من الممكن أن يوجد مؤمنون بلا أخطاء؛ لأنهم من البشر، والبشر -بخلاف الأنبياء- ليسوا بمعصومين، فإذا اختارت الجماعة المؤمنة عند حدوث الخطأ الحل الأصلح في مثل هذا الموقف حفظها الله من كيد أعدائها مهما كان، وهذا ما حدث مع المسلمين في "أُحد"، فقد ألقى الله في روع المشركين أن يعودوا إلى مكة دون تفكير في حصار الجبل الذي يختبئ فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ودون تفكير في غزو المدينة أو التصعيد بشكل أكبر.

(قلتُ: وهذا يرد على مَن يقصِّر في الأخذ بالأسباب الظاهرة أو يخاطر بمن معه دون أخذ بالأسباب الظاهرة اعتمادًا على أن الله نصرَ المؤمنين بغير أسباب ظاهرة في مواطن، وهذا لا يلغي التكليف بالأخذ بها فإن عدموها فقد ينصرهم الله بآية من عنده أو ربما أعطاهم نتائج فوق ما في أيديهم من أسباب إذا جمعوا بيْن الأخذ بالأسباب الظاهرة والتوكل على الله -عز وجل-).

ثم بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في التفتيش عن الأخطاء القلبية التي قادت إلى المصيبة، وقام بالعلاج، فعادت الغلبة مرة ثانية للمسلمين.

ولعله من المهم جدًّا أن ندرك أن انسحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن معناه أنه تخلى عن نصرة الحقِ أو أنه شك في كون الحقِ معه أو مع عدوه، ولكن كل ما في الأمر أنه وجد أن انسحابه الآن سيكون أحفظ للحق بحفاظه على بعض المؤمنين الذين يمكن أن يعيدوا الكرَّة مرة أخرى في المستقبل في ظروف أفضل، فلم يكن الأمر إذن هروبًا من الميدان، ولكن كان تحرُّفًا لقتال، وتحيُّزًا إلى فئة.

ويبقى السؤال الذي يجب أن تجيب عنه الحركة الإسلامية بمنتهى الوضوح والشفافية: هل نحن في الأحزاب فنثبت حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً؟

أم نحن في أحد فننسحب ونُهدِّئ من الأمور، ونتحمل النتائج الصعبة؛ لأننا كنا السبب فيها، ونفتش عن أمراضنا القلبية ونعالجها، ثم نعيد الكرَّة مرة أخرى على منهاج النبوة؟

المسألة في رأيي اجتهادية، وإجابة هذا السؤال هي التي ستحدد المسار، وهذا لا يحتاج إلى علم فقط، بل يحتاج كذلك إلى ورع وتقوى وقدرة على تحمل المسئولية، وشجاعة في اتخاذ القرار المناسب؛ ولو كان شديد المرارة.

ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين".

(قلتُ: لقد بيَّن الدكتور أسباب الانسحاب في "أُحد"، وأشار إلى الثبات في الأحزاب، وإن لم يبين حساباته فيها؛ وهي أن المشركين كانوا يريدون استئصال شأفة الإسلام ولو دخلوا المدينة ما تركوا أحدًا فكان الثبات في الدفاع عن المدينة مع تفاوت القوة هو الخيار الأقل ضررًا لا سيما وقد مَنَّ الله عليهم بحيل دفاعية أَخذوا بها مثل "حفر الخندق"، و"الوقيعة بين اليهود وقريش"، ومع هذا فلما شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتعقد الموقف عرض على الأنصار أن يصالح غطفان على ثلث ثمر المدينة؛ ليفرق جمع المشركين، ولا يقدح في هذا رفض الأنصار له فإنهم اظهروا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلدًا طمأنه على ثبات خطته الدفاعية.

وأما فض مهاجمة القوات المحاصرة للمدينة فعجزوا عنه، ومِن ثَمَّ تركوه؛ حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى حذيفة -رضي الله عنه- حينما أرسله عينًا عليهم وقد خشي أن يظفر بأحد منهم فيقتله فتستعر الحرب، فقال له: (اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ(رواه مسلم)، وبالفعل كاد أن يقع ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر؛ لولا أن حذيفة -رضي الله عنه- تذكر وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولما أخذ المسلمون بكل سبب من الأسباب الظاهرة والباطنة، ومنها: عدم إزعارهم -رغم أن الحرب قائمة بالفعل-؛ نصرهم الله بجنود من عنده، ولو قدَّر الله غير ذلك لكان من المصائب التي لا حيلة للمسلمين في دفعها فيصبرون ويحتسبون، ولله الحمد والمنة في كل الأحوال).

مقتطفات من مقال: "العلماء في زمن الفتنة" للدكتور "راغب السرجاني"

"ماذا ينبغي على العلماء في زمن الفتنة؟

إنه ينبغي عليهم بوضوح أن يعلنوا عن رأيهم الذي يرونه صوابًا بناءً على ما درسوه من قواعد الشريعة، وقد جرَّدوا نواياهم لله -عز وجل-، وأجرهم عليه -سبحانه-.

إنَّ هذا الأمر خطير في زمن الفتنة!

فالفتنة بتعريفها أمر يحتار فيه الناس، ولا يدركون -على وجه اليقين الكامل- الصواب من الخطأ، ومِن ثَمَّ تكثر الرؤى وتتباين الآراء، وقد يتحمس كل فريق لرأيه حتى لا يرى رأيًا غيره! وقد يتهور بعض طلبة العلم على مشايخهم وأساتذتهم نتيجة مخالفتهم لرأيهم، أو لاتباعهم رأي عالم آخر يرى أمرًا مغايرًا، مع أن هذه المخالفة العلمية في الرأي أمر طبيعي جدًّا في زمن الفتنة.

ولن يستطيع العالم أبدًا أن يرضي كل الأطراف، ومِن ثَمَّ فعليه أن يقول رأيه مخلصًا، وهو لا يبغي إلا إرضاء رب العالمين وكفى.

وعودة سريعة إلى صفحات التاريخ لمعرفة اختلاف العلماء في زمن الفتنة: فبعد مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حدثت فتنة كبيرة في الأمة، واختلف علماؤها اختلافًا كبيرًا في آرائهم، ولم يكن الاختلاف في تحديد مَنْ الذي على الحق، ومَنْ الذي على الباطل؟ ولكن كان الاختلاف في كيفية التعامل مع الحدث.

كان الانقلابيون المتمردون من أخبث الناس وأكثرهم خيانة "لم يختلف على ذلك أحد"، وكان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- من أعظم الناس وأشرفهم "ولم يختلف على ذلك أحد أيضًا"، ولكن الاختلاف كان في كيفية التعامل مع قاتلي هذا الرجل العظيم مع إدراك الجميع أن الانقلابيين مجرمون خسيسون.

رأى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومعه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن يؤخِّر إقامة الحد على الانقلابيين القتلة، بل سمح بوجودهم في جيشه، وذلك لأنه نظر إلى الأمر بشكل واسع، فوجد أن الحدَ الذي سيقام على القتلة الانقلابيين سيقود جموع قبائلهم إلى التمرد على الدولة في بقاع كثيرة مما قد يؤدي إلى انهيار الدولة؛ فقدَّم بقاء الدولة على إقامة الحدِّ عاجلاً، ومِن ثَمَّ قرر تأجيله.

أما عائشة وطلحة والزبير -رضي الله عنهم جميعًا- فقد رأوا تطبيق الحد على القتلة عاجلاً؛ لأنه لا يجوز تعطيل شرع الله، وقد قُتل عثمان -رضي الله عنه- مظلومًا، ولابد من أخذ الحق من قاتليه الآن.

فهاتان رؤيتان مختلفتان تمامًا، مع أن كلا الفريقين يعلم أن الحق كان مع عثمان -رضي الله عنه-، وأن المنقلبين عليه مفسدون مجرمون.

وهناك فريق ثالث من العلماء آنذاك لم يستطع أن يحدد على وجه اليقين أين الصواب في التعامل مع ملف الانقلابيين، واحتاروا: هل ينبغي الصدام معهم الآن كما قرر فريق عائشة وطلحة والزبير ومعاوية -رضي الله عنهم-؟ أم الأفضل تأجيل إقامة الحد وتفويت فرصة الصدام كما رأى علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-؟ وكان من هذا الفريق الثالث: عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد -رضي الله عنهم جميعًا-، وهؤلاء قرروا اعتزال الأمر إلى أن تتضح لهم الرؤية.

والآن مع نقطة مهمة جدًّا في الفهم: نحن أمام ثلاثة آراء مختلفة لثلاث فرق من العلماء الكرام، وكلهم مِن المبشرين بالجنة، وممن يَشهد لهم الجميع بالصلاح والتقوى... فما الحل؟! هل يغيِر أحدهم رأيه ليوافق الآخرين؟!

إن هذا -في نظر كل واحد منهم- لا يجوز!

إن كل فريق يرى -مخلصًا- أن الصواب معه، وأنه لا يجوز أن يسير في الاتجاهين الآخرين، ومِن ثَمَّ أعلنها صريحة واضحة، وثبت في اتجاهه الذي اختاره.

حتى الفريق الثالث -وهو فريق المعتزلين للفتنة- فعلوا ذلك؛ لأنهم لم يدركوا أين الحق؟ ولو أدركوا أن الحق مع أحد الفريقين ولم ينصروه ما جاز لهم الاعتزال.

ولاحظ أننا نتكلم عن هذه الآراء وقت حدوث المشكلة لا بعدها؛ لأنه بعد شهور أو سنوات من الحدث قد يغير أحدهم رؤيته بناءً على النتائج التي رآها الجميع بعد ذلك؛ ولأننا أدركنا أن الصواب كان مع التهدئة التي أرادها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، والذي كان ينظر إلى العواقب، ولا يتأثر بالحماسة المفرطة عند المطالبين بحل المشكلة الآن، ولم يكن عاطفيًّا مندفعًا، خاصة أن الجريمة التي تمت "كانت قتل الخليفة وليس مجرد عزله".

ومع ذلك فأنا أقول: إنه في وقت أخذ القرار لم تكن هذه النتائج ظاهرة، ومِن ثَمَّ كان لابد من أن يعلن كل صحابي رأيه الذي يجده صائبًا وموافقًا للشريعة فيما يظن، وهذا ما سيسأله الله عنه، حتى لو كان مخالفًا لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

إن هذه هي الأمانة العلمية، وهذا هو الخوف من الله".

خاتمة:

وبعدُ، فقد نقلت كلام د."راغب السرجاني" بعد أن لعب الشيطان برؤوس بعض الشباب فظنوا أن كل مَن يدعوهم إلى الموضوعية والتعقل والأخذ بالأسباب أنه متخاذل و... و... وحيث إن د."راغب" عندهم غير متهم بهذه التهم بحكم الانتماء الفكري والتنظيمي؛ ولأنه تواجد في "رابعة العدوية" قبل استحكام الأمور في "3-7"، ثم رأى تلك الرؤية التي عرضتُها آنفًا فامتنع منذ ذلك الحين عن الذهاب هناك... لهذه الأسباب كلها نقلت كلام د."راغب".

وثمة دروس أخرى في آداب العمل الجماعي والحرص على عدم تشتيت الأتباع رغم كارثية قرارات القيادة "وإن كنتُ أخالفه حال وصل الأمر إلى الكارثية، إذ لابد هنا من إظهار المخالفة وإن وسعه الاعتذار ببقاء الأمر في خانة الاحتمال لا القطع"، وفي غالب الأحوال فإذا كانت الموازنة بيْن اختيارين أيهما أقل سوءًا؟ فإن الأسوأ على الإطلاق هو تشتت الأتباع واضطرابهم، فربما نشأ عن هذا ما هو أسوأ من الاختيارين، وهذا لا يمنع من وجوب المناصحة على مَن خالف رأي جهة اتخاذ القرار، ولا يعفيها من المكاشفة ليكون الأتباع على بصيرة.

وفي الختام: نسأل الله أن يخرجنا من هذه الفتنة سالمين، وأن يمكِّن لدينه في الأرض ويفتح له قلوب الناس.

موقع أنا السلفى

www.anasalafy.com