الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مِلْح الأرض وغيرة الأقران!

نذكركم الله في إخوانكم، وفي دعوتكم... فمتى عَطِبت كلماتكم بعضكم في بعض إلا فسدت أنفسكم وفسدت دعوتكم

مِلْح الأرض وغيرة الأقران!
مصطفى صبحي
الخميس ١٩ سبتمبر ٢٠١٣ - ٠٢:٢٨ ص
2839
14-ذو القعدة-1434هـ   18-سبتمبر-2013      

كتبه/ مصطفى صبحي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن حكمة الله -تعالى- البالغة اقتضت التفاضل بين الخلق، فالأنبياء أفضل الخلق مطلقًا، وهم كذلك متفاضلون فيما بينهم (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ(البقرة:253)، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وعلى قدر نيلهم من الوحيين يكون تفاضلهم فيما بينهم، فهم بين فاضل ومفضول وفق السنن الإلهية المحكمة.

وعلى إثر هذا التفاضل ينشأ عند بعض النفوس -لا سيما الأقران منهم- نوع من الغيرة والحسد والبغضاء، قال الذهبي -رحمه الله-:"ما خلا مجتمع من التغاير والتحاسد، إلا ما كان في جانب الأنبياء والرسل -عليهم السلام-".

ورُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما يقول عن العلماء: "فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرًا من التيوس في زُرُوبها!"، وقال مالك بن دينار -رحمه الله- عن العلماء والقراء: "هم أشد تحاسدًا من التيوس!".

ومتى زلت أقدام أهل العلم في الغيرة والحسد إلا وأفسد ذلك عليهم دينهم، عن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ(رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

إن المتأمل لتوصيف البغضاء "هي الحالقة، تحلق الدين" يتضح له إلى أي درجة تصل نفسية الحاسد والمُبغِض، حتى تدفعه إلى التقول والافتراء على قرينه بما ليس من وصفه، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "اعلموا -رحمكم الله تعالى- أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئًا من العلم، وحُرِمه قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم".

وإن الناظر إلى سير بعض أهل العلم ممن اُبتلوا بآفة الغيرة والحسد لأقرانهم، ليتعجب للأسماء اللامعة كيف يصدر منها مثل هذه الأقوال!

روى أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكى، قال: سمعت جبير بن دينار، قال: سمعت يحيى بن أبي كثير، قال: "لا يزال أهل البصرة بشرٍ ما أبقى الله فيهم قتادة!" وقال: وسمعت قتادة يقول: "متى كان العمل في السمَّاكين!" يُعرِّض بيحيى بن أبي كثير، وكان أهل بيته سمّاكين.

- وعن مغيرة قال: قال حماد: "لقيت عطاءً وطاوسًا ومجاهدًا فصبيانكم أعلم منهم، بل صبيان صبيانكم!"، قال مغيرة: "هذا بغي منه".

قال أبو عمر: صدق مغيرة، وقد كان أبو حنيفة، وهو أقعد الناس بحماد يفضِّل عطاءً عليه.

قال أبو حنيفة -رحمه الله-: "ما رأيت أفضل من عطاء بن أبي رباح".

قال أبو عمر -رحمه الله-: "فهذا حماد بن أبي سليمان وهو فقيه الكوفة بعد النخعي، القائم بفتواها وهو معلِّم أبي حنيفة، وهو الذي قال فيه إبراهيم النخعي حين قيل له: "من يُسأل بعدك؟ قال: حماد، وقعد مقعده بعده، يقول في عطاء وطاوس ومجاهد وهم عند الجميع أرضى منه، وأعلم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأرضي منه حالاً عند الناس، وفوقه في كل حال؛ لأنهم لم ينسب واحد منهم إلى الإرجاء، وقد نسب إلي حماد هذا وعِيب به"، وعنه أخذه أبو حنيفة والله أعلم، وهم المعروفون بمرجئة الفقهاء!

لقد كانت مغبة كلام الأقران من أهل العلم بعضهم في بعض تُشاهد حال موتهم، فهذا القاضي الفقيه الشافعي محمد بن عبد الله الزبيدي، ولد سنة عشر وسبعمائة، شرح التنبيه في أربعة وعشرين مجلدًا، درَّس وأفتى وكثرت طلابه ببلاد اليمن، واشتهر ذكره وبعُد صيته، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: قال الجمال المصري: إنه شاهده عند وفاته وقد اندلع لسانه واسود، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي -رحمهم الله جميعًا-" (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 5/ 234).

ومع هذه الأخبار فإنه يلزم معرفة فضلهم ومنزلتهم، قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: "ومَن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما ندر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات، والغضب والشهوات دون أن يَعني بفضائلهم ويروي مناقبهم؛ حُرِم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق، جعلنا الله وإياك ممن يستمع القول فيتبع أحسنه".

قال شيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله-: "ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضًا: أن مَن كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يُحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث بخلاف الماء القليل فإنه لا يحمل أدنى خبث".

فإلى هذا الصنف من أهل العلم:

لا تصل بكم الغيرة والحسد لأقرانكم أن تكونوا من شرار عباد الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ(رواه أحمد، وحسنه الألباني).

نذكركم الله في إخوانكم، وفي دعوتكم... فمتى عَطِبت كلماتكم بعضكم في بعض إلا فسدت أنفسكم وفسدت دعوتكم، قال الحسن البصري -رحمه الله- فيما صح عنه مخاطبًا قراء البصرة -يعني طلبة العلم-: "يا مِلْح الأرض لا تفسدوا".

قال الشيخ صالح آل الشيخ: "الفساد هنا الذي نهى عنه ليس فسادًا من جهة الأخلاق فحسب، ولكنه فساد بمعنى ألا يصلُحوا لتبيين الدين، لأن الملح يستطاب به الطعام، ولا يستطاب الطعام بلا ملح إلا لمريض فكذلك الدين يستطاب بأهله فإذا كان أهله لا يمثلونه لا من جهة القدوة وصلاحهم في أنفسهم، ولا من جهة أنواع المعاملات وتعاملاتهم؛ فأين ومتى يكون نقلهم للصلاح والخير؟!".

فيا أهل العلم وصيتكم إلينا نردها إليكم:

روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت": إن سعدًا وخالدًا -رضي الله عنهما- كان بينهما كلام فذهب رجل يقع في خالد عند سعد فقال: "مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا!".

ورُوي عن يونس الصدفي -عالم معاصر للشافعي رحمهما الله تعالى- قال: "اختلفت أنا والشافعي في مسألة فافترقنا ثم تلاقينا بعد ذلك، فأخذ الشافعي بيدي وقال: يا فلان أيمنعنا إن اختلفنا في مسألة أن نكون إخوانًا؟ قال: فما رأيت أعقل منه".

وصلِّ اللهم وبارك على محمد، وآله وصحبه وسلم.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً